وثيقة المدينة المنورة المذكرة التأسيسية للمجتمع التعددي الأول

وثيقة المدينة المنورة المذكرة التأسيسية للمجتمع التعددي الأول

أحمد وائل

كاتب
  • بحثا عن الريادة
  • حدث الهجرة إلى الوطن الجديد
  • ميثاق الازدهار المجتمعي

__

ما من بلد في العالم إلا ويريد مواطنوه أن تنعم بلادهم بالسلام، وأن تزدهر وتتمتع بكل ما من شأنه جعل الحياة سعيدة. ولكن على الرغم من هذه الرغبة الفطرية في السلام، إلا أن الواقع يقول بنقيض ذلك، فالانقسامات والاضطرابات والصراعات قد امتدت أذرعها إلى كافة بقاع العالم. يلخص الخليفة الخامس حضرة ميرزا مسرور أحمد نصره الله، بإيجاز المسألة بقوله:«الحالة التي يرثى لها في عالم اليوم هي أن الناس، من جهة، يتحدثون عن إحلال السلام، بينما هم، من جهة أخرى، غارقون في أنانيتهم يلفهم غطاء من الفخر والغطرسة. ومن أجل إثبات تفوقها وقوتها، فإن كل حكومة قوية مستعدة لبذل كل الجهود الممكنة».. الرسالة واضحة – وهكذا يبقى إعلان السلام مجرد صيحة خالية من الجدية ولا يُرجى تحققها..

بحثًا عن الريادة

والغالبية الساحقة من رواد السلام عبر التاريخ، وعلى قلتهم، كانت لديهم دوافع إما شخصية أو قومية لإحلال السلام الذي نشدوه، وقليل ما هم، بل نادرون أولئك الذين أرسوا دعائم السلام فقط بدافع مواساة الإنسانية. ولا شك أن فلاسفة كثر قد ثبتت دعواهم إلى بسط مظلة السلام على العالم ككل، ولم تتجاوز أطروحاتهم العالم النظري ولم يكتب لها التطبيق. فنحن إذن مضطرون إلى البحث في سجلات التاريخ عمَّن سنحت له فرصة التنظير والتطبيق لأسس إفشاء السلام في العالم ككل، والتطبيق الفعلي لذلك التنظير، والنجاح المشهود لذلك التطبيق، ثم بعد ذلك نبحث في الدافع الأبرز وراء نزوع تلك الشخصية المحورية إلى السلام، ومدى إمكانية تكرار نموذجها.

الجميل في الموضوع أن النبي لم يجعل لعنصر الأغلبية والأقلية العددية دورًا في تحديد حقوق أي طرف، باختصار، لم ينظر حضرته إلى أي من مواطنيه باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، الأمر الذي تمارسه بكل برود وجحود كبرى حكومات العالم التي نصفها بالرقي والتحضر الآن..

تشخيص أسباب فشل إحلال السلام

وفي إطار بحثنا عن النموذج المنشود لتطبيق وإفشاء السلام العالمي علينا إيجاد العقيدة المقرَّة بالمستقبل المشترك، مهما كانت الاختلافات بيننا في الحاضر. المبادرة جديرة بالثناء، لكنها لن تُحصّل قيمتها الحقيقية ما لم نُصغِ لكلام حضرته نصره الله: «إذا لم توفِ متطلبات العدل، فمهما شكلنا من منظمات من أجل السلام ستظل جهودها عقيمة». وإذا تفحصنا التاريخ، فلن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لنجد مثالاً معتبرًا ليس فقط على إحلال سلام متعدد الأطراف بل وسلام على جميع المستويات أيضًا، يجمع بين العديد من القبائل والأمم في وقت واحد، بنجاح كبير. إنه مثال انقضى من 1500 سنة تقريبًا، ولكنه ما زال خالدًا. إنه مثال رجل أنبأ به الكتاب المقدس كـ «رئيس السلام»

حدث الهجرة إلى الوطن الجديد

بعد أن اضطهدت قريشٌ المسلمين في مكّة، وأصبحت الهجرة أمرًا لا بد منه ولا بديل عنه، هيَّأ المدبر الحكيم سبحانه الظروف لتكون يثرب (المدينة المنورة لاحقًا) المأوى الآمن والتربة الخصبة التي شُرفت بغرس بذرة المجتمع الإيماني الأول فيها.

وقبل الخوض في تفاصيل الدور النبوي في إحلال السلام الدائم والشامل، من المهم جدًّا استعراض واقع مجتمع المدينة قبل الهجرة، فلتقييم الدور المحمدي ينبغي أولا دراسة الحال قبله. الواقع التاريخيّ والاجتماعي ليثرب قبل الهجرة يقول بأن التوزيع الديموغرافي لها انقسم إلى ثلاثة أقسام: الأوس، والخزرج، واليهود، إضافةً إلى البدو الذين وفدوا إلى المدينة وسكنوها بشكل مؤقت لأغراضٍ اجتماعيةٍ أو تجاريةٍ.

أما اليهود فهم أقدم من استوطن المدينة، ويبدأ تاريخهم فيها بعد خروجهم من بلاد الشام عقب الاضطهاد الروماني، حيث ظلّوا يبحثون عن أرضٍ مناسبة، حتى استقرّ بهم المقام في يثرب، واستطاعوا تأسيس مجتمعهم من الناحية الفكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. ويتكوّن المجتمع اليهودي من ثلاث قبائل هي: بنو قينقاع، الذين سكنوا داخل المدينة بعد خلافات وقعت بينهم وبين بقيّة اليهود، وبنو النضير وقد استوطنوا واديًا خارج المدينة، وبنو قريظة، وكانوا يسكنون جنوب المدينة على بعد أميال منها. ومع ذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود عداوات بين هذه القبائل الثلاثة، الأمر الذي لم يمكّنهم من التعايش فيما بينهم، وكانت سببًا في تفرّقهم في نواحي المدينة، ولجوء كل قبيلة إلى من جاورها من العرب بحثًا عن النصرة والحماية .أما الأوس والخزرج، فإن أصولهما ترجع إلى قبائل الأزد التي هاجرت من اليمن بعد خراب سدّ مأرب، وقد اختار الأوس شرق وجنوب المدينة للإقامة، بينما فضّل الخزرج البقاء في وسطها .وقد نشأت بين بني هاشم، وبين بني عدي بن النجار – من الخزرج – علاقة رحم ومصاهرة، حيث تزوّج هاشم بإحدى نسائهم فولدت له عبد المطلب، وبذلك يكون بنو عدي أخوالاً للنبي ، وقد أوجدت هذه المصاهرة نوعًا من التقارب بين أهل المدينة وبينه عليه الصلاة والسلام .أما بصدد العلاقة بين الأوس والخزرج، فلم تكن حالهما بأفضل من حال اليهود، فتاريخ الأوس والخزرج مليء بالحروب التي ظلّت قائمةً بينهم زمانًا طويلاً، ولا تكاد تهدأ حتى تعود مرّة أخرى، وكان لليهود دورٌ بارزٌ في إبقاء نار العداوات مشتعلةً بين الفريقين، من أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المدينة. وكان آخر تلك الحروب «يوم بُعاث»، الذي انتصر فيه الأوس على الخزرج، وقُتل فيه أيضًا عددٌ من زعماء الفريقين ممن طُبعوا على معاني الكبر والاستعلاء، وبقيت القيادات الشابّة الجديدة التي كان لديها الاستعداد لتلقّي الحق وقبوله، فكان يوم «بُعاث» تهيئةً لقبول أهل المدينة دعوة الرسول . وبوصول مهاجري مكة وما حولها إلى المدينة تغير التوزيع الديموغرافي، إذ وفد عنصر جديد، لتصبح المدينة مجتمعًا تعدديًّا يضم قوميات وأديانًا واتجاهات سياسية مختلفة، فمن الناحية الدينية اشتملت المدينة على المسلمين واليهود والوثنيين، ومن الناحية القومية اشتملت على العرب واليهود وبعض الأعاجم من الفرس والروم وأهل الحبشة.. لقد نشأت طائفة جديدة أيضًا داخل ذلك المجتمع التعددي، تمثلت في المنافقين الذين هم من أصحاب الرؤى السياسية من أهل المدينة والذين لم تتوافق رؤاهم مع مجيء الإسلام، فقبلوا الانخراط فيه على مضض، وعلى أية حال علينا قبول تلك الفئة كشريك في ذلك المجتمع الناشئ. كتب حضرة ميرزا بشير أحمد في كتابه سيرة خاتم النبيين: «كان شخص النبي الكريم المبارك مثل المطر السماوي الذي ينبت بفضله جميع أنواع الزرع، جيدًا كان أم سيئًا». وسيثبت لنا لاحقًا أن المنافقين في القانون الإلهي عنصر قوة إذا عومل كما ينبغي.

ولم تكن هذه المعاهدة قائمة على مصالح مجموعة واحدة أو أمة واحدة بل سعت إلى حماية كل من يسكن في المدينة المنورة، بغض النظر عن آرائه أو معتقداته، وإحلال السلام بين الجميع. وهكذا نجح النبي الكريم محمد في إرساء السلام بين جميع الأطراف في أول عمل له كحاكم في المدينة المنورة.

هذا ما كان عليه المشهد في المدينة المنورة عند وصول النبي الكريم محمد ، أربع فئات دينية مختلفة، لكلّ تعقيداتها الخاصة. ويأتيها زعيم لم يسبق له أن ترأس أي حكم دنيوي، ومهمته دخول مدينة جديدة تمامًا فيها أربع جماعات متعارضة أيديولوجيًّا، بل وقفت بعضها موقف معارضة صريحة للإسلام مشكِّلة بذلك تهديدًا حقيقيًّا. لقد كان التحدي عظيمًا حقًّا.

ميثاق الازدهار المجتمعي

في العام الأول للهجرة وضع الأساس للمجتمع التعددي الذي وُجد ليزدهر، وتمثل ذلك الأساس في وثيقة المدينة التي وضعها النبي ( ) معلنًا فيها المكونات الديموغرافية للمجتمع المدني، وحقوق وواجبات كل مكون.. الجميل في الموضوع أن النبي لم يجعل لعنصر الأغلبية والأقلية العددية دورًا في تحديد حقوق أي طرف، باختصار، لم ينظر حضرته إلى أي من مواطنيه باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، الأمر الذي تمارسه بكل برود وجحود كبرى حكومات العالم التي نصفها بالرقي والتحضر الآن..

وجاء فيما نقله لنا ابن إسحاق في السيرة النبوية: وكتب رسول الله كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وواعد فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وذكر كذلك في بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت، وبني الأوس، وأن المؤمنين لا يتركون مُفرجًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سِلْم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن من دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء أو عدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يبُيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وإنه لا يجير مشركٌ مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحدِثًا ولا يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرفٌ ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد، وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، بني النجار مثل مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوُقع إلا نفسه وأهل بيته. وذكر مثل ذلك ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وبني الشطبة، وإن جفنة بطن من ثعلبة، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز عن ثأر جرح، وإنه من فتَكَ فبنفسه إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لن يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تُجار حُرْمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنه يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل إنسان حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البرّ دون الإثم، لا يكتسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم، وإن من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، وإنَّ الله جار لمن برّواتقى ومحمد رسول الله .» (1)

وهي كلها أسماء وضعت للتعبير عن كونها أول دستور مدني متكامل في التاريخ الإسلامي، وربما الإنساني، يرسي قواعد المواطنة ويثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه، ونظم العلاقات بينهم لكي يسود التسامح والمحبة ويدخل الناس في السلم كافة.

لقد أرسى الرسول الكريم السلام بهذه البنود بين القبائل والأمم التي كانت في معترك صراع دامٍ مع بعضها البعض لأطول فترة يمكن تذكرها؛ بما في ذلك أولئك الذين هدَّدُوه هو وشعبه علنًا. وعلى الرغم من تزايد عدد أتباعه يومًا بعد يوم، فإنه لم ينتهج منهجية التطهير العرقي ضد مخالفيه، ولو فعل ذلك، وحاشاه، فقد كانت هذه الأفاعيل ديدن تلك العصور، ولكن الله تعالى شاء ببعثة ذلك النبي الكريم أن يعدل الموازين.ولم تكن هذه المعاهدة قائمة على مصالح مجموعة واحدة أو أمة واحدة بل سعت إلى حماية كل من يسكن في المدينة المنورة، بغض النظر عن آرائه أو معتقداته، وإحلال السلام بين الجميع. وهكذا نجح النبي الكريم محمد في إرساء السلام بين جميع الأطراف في أول عمل له كحاكم في المدينة المنورة.

شكلت صحيفة المدينة أول وثيقة حقوقية مُفصَّلة ومبينة لبعض ما تناوله القرآن الكريم مُجملاً يحتاج لبيان أو مطلقًا يحتاج إلى مقيد. وبالنظر لأهميتها فقد سماها البعض دستور المدينة أو كتاب النبي ( )، أو العهد النبوي، وهي كلها أسماء وضعت للتعبير عن كونها أول دستور مدني متكامل في التاريخ الإسلامي، وربما الإنساني، يرسي قواعد المواطنة ويثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه، ونظم العلاقات بينهم لكي يسود التسامح والمحبة ويدخل الناس في السلم كافة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك