جماعة المؤمنين ونظرية شجرة الفاكهة

جماعة المؤمنين ونظرية شجرة الفاكهة

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • ما الحكمة من تشبيه جماعة المؤمنين بثمرات الفاكهة؟
  • كيف تتردد أصداء الحديث النبوي في هذا تشبيه المؤمنين بالثمرات؟
  • ما الأصل في الدين والعبادة؟

 ___

عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»(1)..

هذا الحديث النبوي الشريف يشير إلى حقيقة روحانية أصيلة، مفادها أن الناس بطبيعتهم متفاوتون، ليس فقط في الشكل وسائر الصفات الجسمانية، بل وحتى في درجات الفهم والإدراك ومستويات الذكاء العقلي والروحاني.. قد بين النبي في هذا الحديث الموجز قضية اجتماعية دقيقة وغاية في الخطورة، مفادها أن التفاوت في المقدرات سنة ثابتة، وعلى أفراد المجتمع التعامل فيما بينهم بمقتضاها. والتفاوت بين الناس عموما، وبين أفراد جماعة المؤمنين على وجه الخصوص، إذ ينظر إليه البعض بعين الاستهجان، إلا أنه في حقيقة الأمر ينطوي على حكمة إلهية بالغة، وهذه الحكمة نراها حولنا في كل مظاهر حياتنا، فحتى أصابع اليد الواحدة لا يمكن أن تكون بنفس الطول، بل إن تساويها في الطول يُعد عيبا خَلقيًّا.

ماذا عن نظرية شجرة الفاكهة

في واقع الأمر لا توجد نظرية بهذا الاسم، ولكنها فكرة مستقاة من الواقع واستدعاها عقل الكاتب ليسقطها على أفراد أي مجتمع بشكل عام، أو أعضاء أية مجموعة، أو جماعة المؤمنين بشكل خاص. بحسب تلك النظرية يمكن تشبيه أفراد الجماعة بثمرات فاكهة من نفس الشجرة. ومعلوم، لا سيما للخبراء في مجال البستنة، أن ثمرات الشجرة الواحدة لا تتساوى أبدا في درجة الحلاوة، وإنما المعهود أن الثمار العلوية أحلى مذاقا من الثمار السفلية، وكلما اتجه القاطف إلى قمة الشجرة حظي بثمار أحلى وأشهى، حتى إن قرود الغاب تنبهت بغريزتها إلى تلك الحقيقة.. وتفاوت ثمرات الشجرة الواحدة، ناهيك عن ثمار البستان ككل، في الطعم، جاء على الرغم من أنها تُسقى بماء واحد، إلا أننا نفضل بعضها على بعض في الأُكُل، يقول تعالى:

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2)..

وحث الله تعالى إيانا على عقل هذا الأمر يدفعنا إلى ربطه بالواقع الاجتماعي،

فمن معاني العقل «الربط» وإيجاد علاقة المماثلة، وهنا نرى أن جماعة المؤمنين تماثل شجرة الفاكهة في هذا المقام، ولولا هذا التفاوت البين في المستويات الروحانية لما كان هناك معنى للدعوة إلى التسابق والتنافس الشريف المذكور في القرآن الكريم غير مرة، إذ يقول تعالى:

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (3) ،

ويقول أيضا:

… وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (4)،

فالتنافس الشريف في حد ذاته دليل على وجود التفاوت في المستوى الروحاني، وأن بعض المؤمنين يفوقون في روحانيتهم البعض الآخر، بحيث يغبطهم من هم أدنى منهم، فيسعون إلى بلوغ درجتهم..

لقد أدرك صحابة رسول الله هذا المعنى تمام الإدراك، فلم يتركوا طريقًا من طرق الخير إلا وتنافسوا فيه، تطبيقًا لتلك الآية الكريمة، فكانوا يبذلون المال، ويجهزون الجيوش، ويعملون ما يعود بالنفع على المسلمين من أوجه الخير. فعن عمر رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله : ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا»(5).

وهذه الحقيقة تستدعي إلى الذهن مشهد القافلة، فالقافلة أثناء قطعها الفيافي تسير على قدر احتمال أضعفها، فإذا كان فيها صبي صغير أو شيخ بلغ من الكبر عتيا اضطرت أيَّهم الحاجة إلى قضاء حاجته توقفت القافلة بأسرها لأجله حتى يقضي حاجته ويستقل ظهر ناقته، وهكذا الحال مع جماعة المؤمنين، وكل مجتمع سوي، فالأقوياء يمدون أيديهم بالمعونة للضعفاء، هكذا تسير قافلة المجتمع في رحلة لحياة الروحانية، لتبلغ محط الرحال الآمن.

من دواعي المواساة

الدين كما نعلم شطران، أولهما أداء حق المولى عز وجل وعبادته كما هو حقه، والثاني أداء حقوق الخلق، بتعبير آخر، يمكننا القول بأن الدين جزءان: عبادة الله، ومواساة خلقه، والجزء الأول لا سبيل لأحد إلى الاطلاع عليه لدى الآخرين، فالعبادة أمر خفي وخاص، بل وشديد الخصوصية بين العبد وربه، وهو أمر غير خاضع لقياس الناس ومقارناتهم، فلا سبيل لأحد إلى القول بأن فلانا أعبد من فلان، اللهم إلا باتخاذ الجزء الثاني دليلا على الجزء الأول، أي اتخاذ درجة المواساة ومقدارها دليلا على درجة العبادة ومستواها.

وتفاوت أفراد جماعة المؤمنين روحانيا وإيمانيا يُعد بابا مفتوحا ليدلي كل بدلوه في بحر المواساة ذاك، لقد أشار المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام غير مرة إلى ظاهرة التفاوت الروحاني بين أفراد جماعة المؤمنين، فقال: «أنصح أفراد جماعتي بأن يرحموا الضعفاء منهم والذين لم يقوَ إيمانهم بعد ويحاولوا نزع ضعفهم هذا دون أن يقسوا عليهم أو يسيئوا معاملتهم ولكن بمساعدتهم على فهم ما يجهلونه(6)،  فنلاحظ أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لم ينتهر الأدنى إيمانيا على الإطلاق، وإنما حث الحائزين على مراتب عليا على الأخذ بأيدي إخوانهم الضعفاء، متمثلا في ذلك قول سيده ومطاعه خاتم النبيين إذ قال:

«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»(7).

مثال القافلة ورحلة جماعة المؤمنين

بيد أن هذا التفاوت بحكم الواقع، الذى يشير إليه القرآن لا يرجع إلى عصبية الجنس أو اللون أو الأمة والقبيلة، ولا بين أحدٍ وآخر إلاَ برعاية الحقوق والواجبات، فالمؤمنون أولا وأخيرا إخوة، لصريح منطوق التنزيل الحكيم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (8). وحقيقة أن الحياة الدنيا ليست سوى رحلة سفر إلى الآخرة، هي حقيقة أصبحت راسخة لدى الجميع، والبشر على اختلاف معتقداتهم يجمعون على أن العمر بأكمله سفر، وكلما طال قصر، وهذه الحقيقة تستدعي إلى الذهن مشهد القافلة، فالقافلة أثناء قطعها الفيافي تسير على قدر احتمال أضعفها، فإذا كان فيها صبي صغير أو شيخ بلغ من الكبر عتيا اضطرت أيَّهم الحاجة إلى قضاء حاجته توقفت القافلة بأسرها لأجله حتى يقضي حاجته ويستقل ظهر ناقته، وهكذا الحال مع جماعة المؤمنين، وكل مجتمع سوي، فالأقوياء يمدون أيديهم بالمعونة للضعفاء، هكذا تسير قافلة المجتمع في رحلة لحياة الروحانية، لتبلغ محط الرحال الآمن.

فالتفاوت المشهود في المستوى الروحاني بين أفراد جماعة المؤمنين يُعد أبرز دواعي التكامل والتعاضد، لا التعادي والتدابر والتناحر، وكما جعل الله تعالى التفاوت الاقتصادي بين عامة الناس سبيلا وداعيا إلى تلاحمهم واحتياج بعضهم إلى بعض، فقد سن عز وجل فيما بينهم للسبب ذاته التفاوت الروحاني أيضا، ليظل المؤمنون بحاجة إلى بعضهم البعض، وإلا فليسكن كل منهم جزيرة نائية معتزلا الآخرين، وهذا قطعا ليس منهج الإسلام، وحين قال النبي الكريم : «إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا»(9)، تضمن قوله هذا أيضا، إلى جانب النهي عن اعتزال الأزواج، تضمن أيضا أن من كمالات هذا الدين تلاحم أبنائه بعامة وتعاضدهم،  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :

«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»(10)

لماذا نَرمي بالحجر؟!

من غير اللائق بالشخص السوي أن ينصب نفسه حكما على الآخرين، وكأنه يشهد لنفسه بالصلاح، وهي شهادة مجروحة على أية حال، أو كأنما يقول بلسان حاله:

«أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»!

ومما يجدر قوله بهذا الصدد رواية لا يُتيقَّن من صحتها، بيد أنها ذات مغزى على أية حال، إذ يُروى أن السلطان العثماني سليمان القانوني كان من عادته أن يخرج متخفيا في قلة من حراسه ليتفقد أحوال الناس، فمرَّ بجثة رجل ملقاة على قارعة الطريق دون أن يقربها أحد، فسأل السلطان بعض المارة عن الأمر، فقيل له إنها جثة رجل زان سكير، وليس له غير زوجته، ولم يُعقب ولدا، ولا أحد من الناس يقبل أن يدفنه أو حتى يصلي عليه، نظرا إلى ما شاع عنه من فسوقه! فرق له قلب السلطان، وقال أليس من أمه محمد ؟! ثم حمل جثة الرجل وذهب بها إلى زوجته، فلما فُجعت بخبر وفاة زوجها بكت بكاءً شديدًا فتعجب منها السلطان وقال لها لماذا تبكين وزوجك كان زانيًا سكيرا؟!

قالت الزوجة كان يفعل ذلك كل يوم ولم ينقطع حتى قلت له ستموت ولن يحضر أحد جنازتك بسبب ما يشيع عنك! فكان يضحك ويقول بل سيحضر جنازتي السلطان بنفسه هو وحاشيته والقضاة والأمراء، فقال لها والله أنا السلطان صدق زوجك وذهب السلطان داعيا كل القضاة والأمراء والعلماء والولاة وعموم المسلمين فكانت جنازة مشهودة.. بغض النظر عن مدى صدق الواقعة، إلا أنها رواية ذات مغزى، ومفادها أننا غير مخولين لإصدار الأحكام على إيمان الآخرين، وهنا يحضرني قول المسيح الناصري لبني إسرائيل الذين قصدوا إفحامه بالحكم على المرأة المسكينة، فأفحمهم هو بدوره قائلا: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا بِحَجَرٍ!»(11).

المصلح الموعود ومثال صندوق المانجا

مما يؤسف له أن بعضنا يقع في خطأ منح نفسه الحق في إصدار الحكم السلبي على أخيه، فإن بعضنا الآخر يقع في خطأ أكبر، إذ يُحمِّل الجماعة كلها مسؤولية خطأ فرد واحد فيها، الأمر الذي نسميه بالتعميم المجحف، وبهذا الصدد قال المصلح الموعود : «إن بعضا من أفراد جماعتنا لدى مشاهدتهم ضعفاً في فرد آخر يتسرعون بحكمهم على الجماعة بأكملها على أنها فاسدة»(12).

فالحكم بالسلب على الآخرين هو بمثابة رميهم بحجر، فمهلا، قبل أن نرمي الناس بهذا الحجر، علينا أولا أن ندرك أننا بإصدار ذلك الحكم إنما نزكي أنفسنا، وهو السلوك المنهي عنه بشدة بحسب منطوق الوحي:

فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (13).

شبّه حضرته في إحدى خطبه أفراد جماعة المؤمنين في تفاوت مراتبهم الروحانية بثمرات المانجا المقتطفة من شجرة واحدة، ومعبأة في صندوق واحد، ومع هذا تتفاوت في حلاوتها ودرجة نضجها، ناهيك عن تفاوت أحجامها وربما درجات لونها.. قد يحدث للبعض أن يلتقط من صندوق المانجا التي تبدو ناضجة وشهية، ثمرة واحدة غير ناضجة أو ذات طعم مر، ومع هذا لا يُقدِم على رمي الصندوق بأكمله” (14)، الأمر نفسه علينا اتخاذه إزاء ملاحظتنا أي تقصير من جانب فرد في جماعة المؤمنين أو أي مجتمع.. والتاريخ حافل بالمآسي التي سببها مصدرو الأحكام التعميمية، فهتلر مثلا أحرق العالم في حرب عالمية بسبب إطلاقه حكما تعميميا على يهود العالم،  فهلا توقفنا جميعا عن مثل هذا السلوك المشين؟!

 

الهوامش:

  1. (صحيح البخاري، كتاب العلم)
  2. (الرعد: 5)
  3. (الحديد: 22)
  4. (المطففين: 27)
  5. (رواه الترمذي، وأبو داود)
  6. الملفوظات، مجلد 2، ص 219 (طبعة 1984)
  7. (صحيح مسلم، كتاب القدر)
  8. (الحجرات: 11)
  9. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند الأنصار)
  10. (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب)
  11. (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 8 : 7)
  12. (خطبات محمود، مجلد 10، ص 57)
  13. (النجم: 33)
  14. (خطبات محمود، مجلد 10، ص 52)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك