المؤمنون الأوائل

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين الأُوَل هي التي بدأ بها تاريخ الإسلام: امرأة بلغت من العمر مبلغًا، وصبي في الحادية عشرة من عمره، وعبد محرر يعيش غريبًا عن وطنه، وصديق شاب، بالإضافة إلى الرسول .

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد الأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

عندما بلغت الأنباء زيدًا بن حارثة، مملوك الرسول الذي حرّره وتبناه، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، أعلن زيد إيمانه به، كما آمن به أيضًا ابن عمه عليّ بن أبي طالب، الذي كان في الحادية عشرة من عمره. أما أبو بكر.. صديق طفولته، فقد كان خارج مكة، ولما عاد سمع بما كان من أمر الرسول ، وقيل لـه إن صديقه قد أصابه الجنون، فراح يدّعي أن الملائكة تأتيه برسائل من عند الله.

كان أبو بكر يثق بالرسول كل الثقة، ولم يشكّ لحظة واحدة في صدقه، فقد عرفه عاقلاً صادقًا. فذهب يدقّ بابه، ولما أُذن لـه بالدخول على صديقه سأله عما حدث. وبدأ الرسول في شرح مطوّل، لخشيته أن يسيء أبو بكر الفهم، فأوقفه أبو بكر قائلاً إن كل ما يريده أن يعرف ما إذا كان حقًّا قد نزل عليه مَلَك من عند الله يحمل لـه رسالة. وأراد الرسول أن يشرح الأمر ثانية، لكن أبا بكر قال إنه لا يريد أن يسمع شرحًا، لكنه يبتغي فقط إجابة على سؤاله عن الرسالة التي يحملها من الله. فأجاب الرسول : “نعم”. عند ذلك أعلن أبو بكر لفوره أنه يؤمن به. ثم قال بعد أن شهد بصدق الرسول إن مناقشة الأمر كانت ستقلل من قيمة إيمانه، فقد كانت معرفته بالرسول طويلة وحميمة، فما كان ليشك في صدقه، ولذلك لم يكن في حاجة إلى أيّ دليل آخر يقنعه بصدق هذا الصديق الصدوق.

هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين الأُوَل هي التي بدأ بها تاريخ الإسلام: امرأة بلغت من العمر مبلغًا، وصبي في الحادية عشرة من عمره، وعبد محرر يعيش غريبًا عن وطنه، وصديق شاب، بالإضافة إلى الرسول . هذا هو الفريق الذي عقد العزم في هدوء أن يبدّد الظلام وينشر النور الإلهي في العالم كله. ولما سمع بذلك أهل مكة وقادتهم ضحكوا، وقالوا إن هؤلاء قد أصابهم الجنون. لم يكن هناك ما يدعو للخوف أو القلق، ولكن مع مرور الوقت، بدأ فجر الحقيقة يُشرق. وبدأ الوحي يتنَزّل على الرسول ، كما سبق أن قال إشعياء النبيّ منذ زمان طويل:

“فكان لهم قول الرب أمرا على أمر، أمرا على أمر، فرضا على فرض، فرضا على فرض، هنا قليلا هناك قليلا، لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء وينكسروا ويُصادوا فيؤخذوا.” (إشعياء 28: 13)

اضطهـاد المؤمـنين

بدأ الله تعالى يكلم محمدًا “بلسان آخر”، كما تنبأ إشعياء النبيّ، وبدأ شباب البلدة يعجبون. وأخذ أولئك الذين يعنيهم البحث عن الحقيقة يولون الانتباه لما يجري وما يُقال. ومن الاحتقار والسخرية بدأ الإعجاب والتأييد يتزايدان، وبدأ العبيد المطحونون، والنساء اللاتي لا حقوق لهن، والناشئون من الفتية والشباب يلتفون حول الرسول ، فقد كان في رسالته وتعاليمه أمل للحزانى والمكلومين. واستبشرت النساء أن الوقت قد حان لاستعادة حقوقهن، وراود العبيد الأمل أن زمن الحرية قد أتى، ورأى الشباب أن طرق التقدم والازدهار سوف تنفتح لهم. وعندما أخذ الاحتقار يتحوّل إلى تأييد، وتنقلب اللامبالاة إلى اهتمام، بدأ قادة مكة وأعيانها يغشاهم الخوف، فاجتمعوا وتشاوروا، وقرروا أن السخرية ليست هي الطريق الأمثل لمواجهة هذا التهديد الجديد، وأن الأمر يتطلب حلاً أكثر حزمًا وجدّية، فلا بد من قمع هذا النفوذ الجديد بالقوة. وتقرر أن الطريق الذي ينبغي انتهاجه هو الكثير من الاضطهاد وبعض المقاطعة. وعلى الفور بدأوا في اتخاذ خطوات عملية لتنفيذ ما اتفقوا عليه، وهكذا دخلت مكة في صراع خطير ضد الإسلام. ولم يعد أحد بعد ذلك ينظر إلى الرسول وأتباعه القليلين كحفنة من المجانين، بل صار يُنظر إليهم على أنهم أصحاب نفوذ جديد يتنامى ويتصاعد، وإذا تُرك ينمو دون إخماد فسوف يتحوّل إلى خطر كاسح، يهدّد دين مكة وهيبتها وعاداتها وتقاليدها.

لقد هدد مبدأ الإسلام لله خواءهم الفكري كله، فتراءَى لهم أنه سيهدم بناء المجتمع المكّي ويعيد خلق سماء جديدة وأرض جديدة، مما يعني اختفاء سماء الجزيرة العربية القديمة وأرضها البالية، وخلق نظام جديد. ولم يعد أهل مكة يسخرون من الإسلام، فلقد كان هذا هو التحدّي الذي يعني الموت أو الحياة بالنسبة لهم. كان الإسلام يتحدّى، وقد قبل أهل مكة التحدّي كما قبل كل أعداء الأنبياء تحدّي أنبيائهم. وقد قرروا أنهم لن يقابلوا الحجة بالحجة، بل يسلوا السيوف ويقمعوا الدين الجديد بالقوة الغاشمة. إنهم لن يضارعوا المثل العليا التي يقدمها الرسول وأتباعه بمُثُلٍ أعلى منها، ولن يجيبوا على كلمات الموَدة والسلام بمثلها أو بأحسن منها، بل بإساءة معاملة الأبرياء وظلمهم، وبإيذاء أولئك الذين يخاطبونهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويدعونهم بالتي هي أحسن. وهكذا، بدأ الصراع مرة أخرى في هذا العالم بين الإيمان والكفر، وأعلنت قوى الشيطان الحرب على الملائكة.

كان المؤمنون لا يزالون حفنة، ولا قوة لهم على مقاومة هذه الحملة الشرسة من العنف والإرهاب. ولقد بدأت حملة وحشية عليهم، كانت النساء تُسفك دماؤهن بلا حياء، ويُذبح الرجال بلا رحمة. أما العبيد الذين أعلنوا إسلامهم، فقد سُحِلوا على الرمال الحارقة والصخور الملتهبة، وغطت جلودهم طبقة ميّتة من البشرة حتى صارت مثل جلود الحيوان. وبعد انقضاء وقت طويل، عندما انتشر الإسلام في البقاع القريبة والبعيدة، كان واحد من المؤمنين الأوائل، وهو خبّاب بن الأرَتّ، يكشف عن أجزاء من جسده فيرى أصدقاؤه جلده متصلّبًا كجلد الحيوان، فلما يسألونه عن السبب كان يجيب ضاحكًا: “لا شيء، إنها ذكرى لتلك الأيام الأولى عندما كان العبيد المؤمنون يُسحلون في طرقات مكة على الرمال والحجارة الحارّة.” (المسند جزء 5 صفحة 110).

لقد جاء العبيد الذي آمنوا بالإسلام من كل المجتمعات. فكان بلال حبشيًا، وكان صُهيْب روميًا. وكانوا ينتمون من قبل لعدة أديان، فكان صُهيْب نصرانيًا، وبلال وعمّار كانا وثنيين. وكان بلال يوضع على الرمال الحارقة، وتُوضع على بدنه أحجار ثقيلة، ويرقص الصبيان على صدره، ثم يأتي سيده أميّة بن خلف ليعذبه بالسوْط، ويأمره أن يتبرأ من الله ورسوله محمد، ويشيد بحمد آلهة مكة: اللات والعُزّى. غير أن بلال لا يزيد عن قوله: “أَحدٌ، أَحد”. ولما يفيض بأميّة الغضب، يسلمه إلى صبيان الشوارع طالبًا منهم أن يضعوا حبلاً حول عنقه ويجرّوه على أديم طرقات البلدة، وعلى الصخور الساخنة المدبّبة. ويتدفّق الدم من جسد بلال، ولكنه يظل يتمتم: “أَحدٌ، أَحد”. وفيما بعد، عندما استقر المسلمون في المدينة المنوّرة، واستطاعوا العيش وعبادة الله في أمان نسبي، عيّن الرسول بلالاً مؤذّنًا يدعو المؤمنين للصلاة، ولأنه إفريقي يصعب عليه النطق بحرف الشين في “أشهد”، فقد كان بعض مؤمني المدينة يضحكون على نطقه المعيب، ولكن الرسول أنّبهم وأخبرهم عن مكانة بلال عند الله تعالى لقوة إيمانه التي أظهرها لأهل مكة وهو تحت نير تعذيبهم. ولقد قام أبو بكر بدفع ثمن عتق بلال، وحرّره مع الكثير من العبيد الآخرين فحقق لهم النجاة، ومنهم صُهيْب التاجر الناجح، الذي استمر أهل مكة يؤذونه ويسخرون منه حتى بعد عتقه. وعندما هاجر الرسول من مكة ليستقر في مدينته المنوّرة، أراد صهيب أن يصحبه، فمنعه أهل مكة قائلين إنه لا يمكنه مغادرة مكة وقد حصل على ثروته منها، فسألهم: لو تخلى لهم عنها جميعًا هل يدعونه يمضي؟ فقبِل أهل مكة هذا العرض. وعلى هذا، بلغ صهيْب المدينة خالي الوفاض، ورأى الرسول الذي استمع إلى قصته، فهنّأه وقال: “رَبح البيعُ أبا يحيى”.

إن أغلبية هؤلاء العبيد الذين اعتنقوا الإسلام ظلوا ثابتين على إيمانهم ظاهرًا وباطنًا، ولكن القلة منهم كانت ضعيفة. ولما اشتدّت الفتنة والتعذيب، رأى الرسول عمّارًا يئنّ من الألم ويمسح دمعه. ولما اقترب منه الرسول أخبره عمّار بأنه قد ضُرب ضربًا مبرحًا، وأُكره على أن يرجع عن الإسلام، فسأله الرسول كيف يجد قلبه، فقال إنه مطمئن بالإيمان، فطمأنه الرسول أن الله تعالى سوف يغفر لـه ضعفه.

وأما ياسر، والد عمّار، وأمّه سميّة، فقد قتلهما الكافرون تعذيبًا. وفي إحدى المناسبات، حدث أن مرّ عليهم رسول الله وهم يُعذّبون، فقال لهم وقلبه يعتصره الحزن والألم من أجلهم: “صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة”. وقد تحققت الكلمات النبويّة لفورها، فقد سقط ياسر شهيدًا بسبب شدّة التعذيب، وقام أبو جهل بقتل زوجته سمية بحربة.

وكذلك زنيرة، وهي أمَة مؤمنة، فقدت عينيها بسبب التعذيب الذي نالته على أيدي المشركين.

وأبو فُكيْهة؛ كان مملوكًا لصفوان بن أميّة، فكان يضعه على الرمال الحارقة، ويضع على صدره الصخور الساخنة الثقيلة، وتحت وطأة الألم الشديد كان لسانه يتدلى خارج فمه.

وعانى العبيد الآخرون أشكالاً وأنواعًا أخرى من سوء المعاملة، والتعذيب الشديد.

هذه الوحشية، وهذه القسوة الفظيعة، كانت فوق كل تحمّل، لكن المؤمنين الأوّلين تحمّلوها لأن قلوبهم اكتسبت قوة وثباتًا من اليقين الذي كان الله يتولاهم به كل يوم. كان القرآن ينْزل على الرسول ، ولكن الصوت الإلهي الذي يأتي باليقين كان يتنَزّل على كل المؤمنين. وبدون ذلك، لم يكن المسلمون بقادرين أبدًا على تحمّل ذلك التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له. فقد هجرهم الزملاء، وتخلى عنهم الأصدقاء، وقاطعهم الأقارب، ولم يبق معهم إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يعد يهمهم أن يكون معهم أحدٌ سواه. ومن أجله عز وجل بدا كل تعذيب وتنكيل كأنه تكريم وتبجيل، وصار الأذى والتحقير كأنه ثناء وتوقير، وأصبحت الحجارة الحارقة كأنها نسمة الندى أو لمس الحرير.

أما المؤمنون من المواطنين الأحرار، فلم يكن نصيبهم من الوحشية أقلّ من العبيد؛ فقد تولى أولياء أمورهم من أهليهم وزعماؤهم تعذيبهم بأساليب شتى. كان عثمان بن عفان غنيًا في الأربعين من عمره، وعندما أجمعت قريش أمرها على اضطهاد كل من يُسْلِم، قام عمه الحَكَم بشدّ وثاقه وضربه. والزبير بن العوام؛ ذلك الغلام الشجاع الذي صار فيما بعد مسلمًا عظيمًا وقائدًا مقدامًا، كان عمه يلفه في حصير، ويسلط عليه الدخان من تحته، ويتركه يعاني من الاختناق وآلامه، ولكنه لم يتنكر قط لإيمانه، لقد وجد الحقيقة ولن يتخلى عنها مستسلمًا أبدًا.

أبو ذر الغفاري، سمع بالرسول وذهب إلى مكة ليتحرّى الأمر. فحاول أهل مكة صرْفه عن ذلك قائلين إنهم يعرفون محمدا حق المعرفة، وإن حركته تهدف لأغراض شخصية. غير أن ذلك لم يؤثر في أبي ذر، وذهب إلى الرسول الكريم واستمع منه مباشرة إلى الرسالة، ودخل في الإسلام. وتساءل أبو ذر عما إذا كان يمكنه أن يسر إيمانه، فرخّص لـه الرسول في ذلك إلى حين. ولكن حدث عندما كان يمرّ في طرقات مكة أن سمع جماعة من رؤساء مكة يسبّون الرسول ويغتابونه بخسّة، فلم يطق أن يظل على كتمان إيمانه، وأعلن صائحًا في الحال: “أشهد ألاَّ إله إلاَّ الله لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”. هذه الصيحة في جمع من الكافرين بدت لهم نوعًا من الوقاحة، فقاموا في غضب يضربونه حتى سقط مغشيًّا عليه. ومرّ عليهم العباس عمّ الرسول الذي لم يكن قد دخل الإسلام بعد، فدفعهم عن الضحية قائلاً: “إن قوافل طعامكم تمرّ على قبيلة أبي ذرّ، وإذا ما غضبوا من أجل تعذيبه فإنهم يستطيعون تجويعكم حتى الموت”. في اليوم التالي ظل أبو ذرّ في البيت، ولكنه في اليوم الذي يليه ذهب إلى نفس المكان، فوجدهم يقولون على الرسول نفس القول المؤذي. فذهب إلى ساحة الكعبة، فوجد الناس يفعلون هناك نفس الشيء، فلم يملك نفسه وقام يعلن شهادة الإسلام في صوت جهْوَري. ومرة أخرى تعدّوا عليه وآذوه أشد الإيذاء. وتكرر نفس الأمر في مناسبة ثالثة، وبعدها غادر أبو ذرّ عائدًا إلى قبيلته.

هذه الوحشية التي كانت تُقترف ضد مجموعة ضعيفة بريئة من الناس، وضد قائدها الأمين الذي لا حول لـه، لم تذهب هباء ولا ضاعت بغير فائدة. فقد رأى الكرام من الناس كل ما يجري وتأثروا به، فشعروا بشيء ما يجذبهم نحو الإسلام.

والرسول الكريم نفسه لم يُستثن من المعاملة الوحشية التي تلقاها المؤمنون. وفي إحدى المناسبات بينما كان يصلي، وضع جماعة من الكفار وشاحًا حول عنقه وشدّوه عليه حتى جحظت عيناه. ثم حدث أن جاء أبو بكر رضي الله عنه فأبعدهم عنه باكيًا وقال: “أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله”؟! وفي مرة أخرى كان الرسول ساجدًا في صلاته، فجاءوا بأمعاء بعير وألقوها على ظهره، فلم يستطع النهوض حتى جاءت ابنته فاطمة وأزالت هذه الأثقال عنه. وفي حادثه ثالثة كان يمر بالطريق، فتبعته جماعة من الصبيان أخذوا يصفعون رقبته صائحين بالناس أنه يدّعي النبوة. هكذا كان الرسول يلقَى العداوة والكراهية من هؤلاء الناس، وكان يبدو في أيديهم بلا حول ولا قوة. كان الناس يرجمون بيت الرسول بالحجارة من أسطح المنازل المجاورة، وكانوا يلقون على مطبخه الرّوَث والقاذورات ونفايات الحيوانات المذبوحة. وكثيرًا ما كانوا يحثون عليه التراب أثناء أدائه الصلاة، ولذلك كان يلجأ إلى مكان آمن إذا أراد الصلاة مع الجماعة.

هذه الوحشية التي كانت تُقترف ضد مجموعة ضعيفة بريئة من الناس، وضد قائدها الأمين الذي لا حول لـه، لم تذهب هباء ولا ضاعت بغير فائدة. فقد رأى الكرام من الناس كل ما يجري وتأثروا به، فشعروا بشيء ما يجذبهم نحو الإسلام. حدث مرة في صباح أحد الأيام أن كان الرسول يستند بظهره إلى الصّفا، وهو مرتفع صغير بجوار الكعبة، فمر عليه أبو جهل عدوّه اللدود، وأمطره بوابل من السباب الأثيم، ولم يقل الرسول شيئًا ومضى إلى بيته. وكانت إحدى الإماء التي تعمل في البيت ترى ذلك المشهد المؤسف. وكان حمزة، عم الرسول ، رجلاً مقدامًا يهابه جميع أهل البلدة، وحدث أنه عاد ذلك اليوم من رحلة صيد، ودخل البيت معتزًّا بنفسه، يحمل قوسه على كتفه. فلما رأته الجارية التي لم تنس مشهد الصباح، قالت لـه بشيء من السخرية، إنه يظن نفسه شجاعًا، ويتجوّل فخورًا بسلاحه، ولكنه لا يدري ما صنع أبو جهل بابن أخيه البريء في الصباح. واستمع حمزة إلى ما حدث، ومع أنه لم يكن مؤمنًا إلا أنه كان يتمتّع بنبل الخُلُق. ولعله كان قد تأثر برسالة الرسول ، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله يجهر باعتناقها. غير أنه لما استمع إلى ما قام به أبو جهل من عدوان على الرسول لم يقو على الانتظار، وتلاشى تردده حول الدين الجديد، وبدأ يشعر أنه قد انتظر طويلاً بلا داع، فتوجّه لفوره إلى الكعبة حيث كان رؤساء مكة يجتمعون ويتآمرون كعادتهم، وتناول قوسه وشج به رأس أبي جهل قائلاً: “أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول، فَرُدَّ ذلك عليّ إن استطعت”. وقد صُعق أبو جهل لهول الموقف، فخفّ إليه أصدقاؤه ليعينوه ولكنه أوقفهم خوفًا من حمزة وقبيلته، وكان يرى أن قتالاً مفتوحًا بلا حدود سوف يكلف الكثير من الأرواح الغالية، واعترف أنه كان في الحقيقة هو الملوم عما حدث في الصباح (ابن هشام والطبري).

Share via
تابعونا على الفايس بوك