هو يدعو الزمان والزمان يدعوه

يا عُلماء القوم، لا تَعمّدوا لقداح النوم، والله يوقظكم بحوادث كُبرى، وينبّئكم بدواهٍ عُظمى. فأين الخوف كالأبرار، وأين ماء الدموع بذكر الله القهّار؟ كنتم إناء الدين، فترشّح الكفر منه وفاضَ، فأعجبني أن طير نفسكم ما فرّخ وما باض. أخُلِقتم لأكل رغيف، مع شواء صفيفٍ، على خوانٍ نظيفٍ، أيها المُسرفون؟ وقد قال الله تعالى:

  ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ *

وما قال “إلا ليأكلون”. يا سبحان الله! أيّ طريق اخترتم، وأيّ نهج آثرتم؟ أتعيشون إلى آخر الدُّنيا ولا تموتون؟ وتقطفون ثمارها خالدين فيها أبدا، ولا تهلكون؟ إن الدنيا قد انتهتْ إلى آخرها فلم لا تستيقظون؟ وقد حلّ أرضَكم هذه وباءُ الطاعون، وآفات أُخرى ألا تنظرون؟ وإن أشْتيتم أو أصَفْتم، فهي معكم ولا تفارقكم، ألا تبصرون؟ أأخذكم العَشا أم أنتم قومٌ عمون؟ وعنّتْ أمامكم مصائب شتّى، حتى صُبّتْ على أنفسكم وأولادكم ونسائكم وذوي القُرْبى، وتفارقكم كلَّ سنة أَعِزّتُكم بموتهم، فلا تستطيعون غير أن يفزع ويبكى. وما كان الله معذّب قوم حتى يبعث رسولاً، ليتمّ الحجّة، والأمر يُقْضى. هكذا قال الله في كتابه وهكذا خلتْ سُنّته في أمم أولى. فما لكم لا تعرفون إمامًا أُرسل إليكم، ولا تتّبعون داعيًا أقيم فيكم؟ ألا تعلمون مآل من كذّب وأبى؟ أرضِيتم أن تموتوا ميتة الجاهلية ثم تُسألوا في العُقْبى؟ وأنتم تُهدَون إلى الطيّب من القول، فما لكم تؤثرون الكدر وتتركون الأصفى؟ تَدَعون من جاءكم، وتَدْعون الميت من السماوات العلى. وتسبّون وتشتمون، وتقولون ما تقولون، ولا تخافون يومًا تحضر فيه كلّ نفسٍ لتجزى. وليس نبيّ ذليلاً إلا في وطنه، فسُبّوا واشْتموا والله يسمع ويرى.

يا قوم، لم تتعامون وأنتم تبصرون؟ ولم تتجاهلون وأنتم تعلمون؟ أما علمتم عاقبة الذين كانوا يستهزئون؟ تلدغون كالزّنْبور، وتؤذون رجلا اعْتمّ كالسراج بالنور، وتَهرّون برؤية البدور. وأبدرَ الصلحاءُ وأنتم تُظلمون، وجاء الناس وأنتم تهربون.

وكَمْ من مُستهزئٍ  أخبروا بموتي كأنهم أُلهموا من الله العلام، وأصرّوا عليه وأشاعوه في الأقوام، فإذا الأمر بالضدّ، وردّ الله مزاحهم عليهم كالجِدّ، وماتوا في أَسْرع وقت بعد إلهامهم، وتركوا حشيش ندامة وذلّة لأَنعامهم……

أيها الناس.. إني جئتُ من ربي بمائدةٍ لأطعم البائس الفقير، فهل فيكم من يأخذ هذا الخوان ويأمن الجوع المبير؟ ومن لم يوافقه هذا الغذاءُ فهو من قوم يقال لهم أشقياء، ومن أكله فله في هذه أجر كبير، ثم وراءها فضل كثير. يريد الله ليحطّ عنكم الأثقال، ويضع السلاسل والأغلال، وينقلكم من الأرض المُجْدبة، إلى بلدة النعمة والرفاهة، وينجيكم من ظلمات اشتدّتْ فيها الريح، ويبلّغكم إلى مقاصر أُشعلتْ فيها المصابيح، ويطهّركم من الذنب والزور، لتكونوا كالذي قفل من الحجّ المبرور. ولكنّكم رضيتم بأن تتّسخ أبدانكم بوسخ الذنوب، وأن تبعدوا أبدًا من ديار المحبوب. وإني عرضت عليكم ماء الحياة، فآثرتم كأس الممات، ودعوتكم إلى البيت العتيق، ففررتم إلى الغرانيق. وإنكم تسبّون وإنا نقاسي لكم الضجر والكرْبة، وندعو لكم في ظلمات الغمّ كأنّا نصلّي العتمةَ. وإنّ الأمر في يد الله يفعل ما يشاء، وفي يده القضاء، ويأتي يوم يلين ذلك الحجر، وإلى متى هذا الضَّجَر؟

أيها الناس.. لا تَمايلوا على قول العامّة، وإنهم قد أعرضوا عن طرق السلامة. وإن عجبتم فما أعجب من قولهم إنّ عيسى حيٌّ مع الجسم في السماوات، ثم مع ذلك لحِق بالأموات، ودخل معهم في الجنّات! ويقولون إنه يترك صحبة الموتى في آخر الأيام، وينـزل إلى بعض أرضين، ويمكث إلى أربعين، ثم يرحل من هذا المقام، ويلحق بالأموات إلى الدوام. هذه خلاصة اعتقاداتهم، وملخّص خرافاتهم. فبقينا متحيّرين من هذا البيان، مع هذا الهذيان. لا أعلم أجَرَّتْهم إليه الأهواء، أو غلبت عليهم السوداء؟ ما لهم إنهم مع طول الزمان، وتلاوة القرآن، ما اهتدوا إلى الحق إلى هذا الأوان؟ فما أفهم مِن أيّ قسمٍ هذا الجنون، وقد مضتْ عليه القرون؟ فوالله، قد حيّرني إصرارهم على أمرٍ يخالف القرآن، ويجيح الإيمان. وقد جاءهم حَكَمٌ من الله بالحق والحكمة على رأس المائة، وعند غلبة كلِّ نوع البدعة وغلبة الكَفَرةِ، فأعجبني أنهم لأيّ سبب أنكروه، وهو يدعو الزمان والزمان يدعوه. ووالله، إنّي أنا المسيح الموعودُ، وأعطاني ربي سلطانًا مبينًا، وإني على بصيرة من ربي، ولو رُفع الحجاب لما ازددتُ يقينًا. إن الله رأى نفوسًا عاصية، وزمنًا كليلةٍ قاسية، فأرسلني لعلهم يتوبون. وكيف ننصح لهم وإنهم قوم لا يسمعون، وإنهم عن صراط الحقّ لناكبون؟ فرّوا من مائدة الله ورُغفانها، وانتشروا وبقيت الخوانُ على مكانها، وآثروا عصيدة الدنيا وتحلّبتْ لها أفواههم، وتلمّظتْ لها شفاههم، فأقلّ ما يكون في صدقي أن يصيبهم بعض الذي أَعِدُهم، فما لهم لا ينتظرون؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك