حبل متين من رب رؤوف رحيم...

حبل متين من رب رؤوف رحيم…

التحرير

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

ها هي أيام رمضان تفوح بشذى ربيع روحاني مُزهِرٍ في جِنانِ مليكٍ مقتدر. وقد ترقّبه المؤمنون طويلاً كي يُحلّقوا بين ثنايا زهراته الفيحاء يستنشقون رحيقها الزّكي كفراشات تطير بأجنحة بديعة الألوان، تحوم بين حدائق الياسَمين والأُقحُوان، أو كنحلٍ يرنو لرحيق زَهْرٍ يمتصه ويغذيه ليصنع منه شهدًا وعسلاً يكون شفاءً وبلسَمًا.

هكذا يكون شوق المؤمنين لرمضان ووقْعُهُ على نفوسهم، إذ ترقّبوه ملء قلوبهم بالعشق والاشتياق، فهو معراجٌ ترتقي فيه روحانيتهم، وتسمو في علياء الإيمان، فتصفو فيه قلوبهم فتكون مهبط كشف وإلهام، فيطيرون بجناحين ليسا من صنع إنسان ولا تدبير جان، بل من فيض صومٍ وقُرآن، وجُودٍ وإحسان، هِبةً من الله الرحمن لزمرة من أتباع خير الأنام.

لقد عاد هذا الزّائر الكريم ليصل الرّحم بخير أمة، فهو زائرٌ يرأف بفقرائها فيواسيهم، وبمرضاهم فيشفيهم، وبِعُصاتِها فَيهديهم، وكيف لا يكون على هذا المقام وهو من ربٍّ ذي جلالٍ وإكرام!، ولِم لا يكون هذا الزائر المعطاء محطّ تعظيم واشتياق وترحيب، فتُتخصّص له ساحات القلوب بالزينة، وتلْهَجَ الألسُنُ لتحيته بالشعارات، وتُحشَدَ لهُ حُشودُ النّاس من الصّغار والكبار، ليكون لهم نصيب من الكرامات والإنعامات. أوليس هو الشهر الفضيل الذي تمَّ فيه خير تنزيل؟ وكشف فيه جبريلُ أكمل تنزيل على قلب الطاهر الأمين! فطوبى لمن حَفَدَ إليه مع الأحباب، بالعِناق والتّرحاب، فَشَرَعَ له الأبواب، وأسكنه ديار نفوسه أو أَمّرهُ على الأهل والأولاد، والعشيرة والأحفاد، وصار من العباد الذين هم من رعايا مملكة السماء التي صَفّدت الشياطين بالأصفاد ..

فيا معشر المسلمين.. أكرموا رمضان ليُكرمكم ربكم إكراما ويُباعد بصيامكم وقيامكم عنكم الهوان، واجعلوا أيامه أيام إيمان واحتساب قبل اللّوم والعِتاب، فهو سيّد الشهور، يُرزقُ فيه الصائم بالتنعُّم والحُبور، ويُكْسَى حُلّة الأنوار والمعارف والرُّؤى، ويشعُرُ بلقاء القريب الذي يستجيب. بل وطُويت لهُ الأيّام والسّنون حتى اقتربنا من محمد العربي الحنون فصرنا له مِنْ شهدة العُيون.. فرمضان بمثابة مجيء الرحمن، الذي أراد اجتذاب عباده بالكلام، بحبلٍ هو طرفٌ منه، وَطَرَفٌ آخَرَ موصولٌ في يد المؤمنين، فطوبى لمن استمسك بالحبل المتين وتسلّقهُ لمـُلاقاته ونجا بنفسه من الجحيم، ولم يَشُك أنه من ربٍّ رؤوف رحيم، سبقَتْ رَحمَتُه غضبه، ووسعت كل ذرة في الكون. فلهُ الحمدُ والشّكرُ سبحانه على جميل صُنعه وفِعله بما جعل لنا صيام رمضان من هديه وشَرْعِه إلى يوم الدين.. فاتّقوا إخواننا فيه المعاصي والذنوب، وأمسكوا فيه لسانكم عن الطّعن والتنابز والأذى، وكل ما نهى الله عنه من الموبقات والمفاسد والأذى، فليس الصوم جوعٌ وعطشٌ وإمساك شهوات فحسب بل هو أمرٌ جامعٌ لحساب النّفس وجعلها محطّ عين رقيب، فبئس الصائمُ الذي ليس لهُ حظٌّ من صيامه إلا الجوع والعطش، وبئس القائم الذي ليس له من قيامه إلا السّهر، واعلموا أن رسولنا الهادي الأمين قد أعلنها صراحة أن مَنْ لم يَدَع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طَعامَهُ وشرابَه. واعلموا أن الله تعالى رقيب صيامكم بما أوكل لنفسه أمر الصوم، والمجازاة عليه، أوليس هو القائل “الصوم لي وأنا أجزي به”!. فأمْعِنوا وفكّروا في هذا الركن العظيم كيف أحياهُ الرسول الكريم، وسيروا على نهجه القويم، فهو خيرُ من أكرم هذا الشهر العظيم، بما عُرِفَ عنهُ أنه أجود بالخير فيه من الرّيح المـُرسَلَة، وبتلاوته القرآن ومدارسته في أيامه الغُرِّ، وباعتكافه وشدّه لمئزره عند الأواخر العَشْرِ حيثُ ليلة القَدْرِ فيها خيرٌ من ألف شهر.

فيا غُرّة شهر رمضان، اجعل أسماءنا في طيّ صفحات سِجِلك مع الفائزين برضوانه سبحانه، والموفين بحقوقه كلها، من صيام وتهجد وقيام، لنكون مستحقين استحقاق وعد الرحمن، رحمةٌ في أوله ومغفرةٌ في وسطه وعتقٌ من النار في آخرِه، ونجنا من أولئك الأشقياء الذين حَرموا أنفسهم من بركاتك ونعماء ربّك، فاسودّت قلوبهم بمعاداة  القرآن وظهور أيام الحق والفرقان.. وركنوا إلى العصيان بتعمُّد الفسق والطُّغيان..؟! فيا ربنا الرؤوف الرحيم الكريم، ها أنت ترى حال المسلمين وما هم فيه من وضْعٍ سقيم.. سُعِّرَتْ نار الفتن وطار الأمان، ونُكّست رايات الإسلام، ونُصِبَتْ أعْلَامُ استسلام، وحلّ القهرُ وسطوةُ الجَوْر، وتداعى الدّجال بجُنده يغزو الأمصار ويُمزّقُ الأقطار. لا يَرُدُّهُ استحشادُ حُشود ولا استنفار جُنود، سوى حربتك من السماء.

فاتّقوا الله، وفكّروا في شأن شهر الصيام وعزّة أيام خير الأنام ليكون لكم قدَمُ صِدْقٍ، هو سبيل خَطْوِكُم للأمَام نحو مثابات لا يصلُ إليها غيركم، مهما بَلَغَ من أسباب.. قوة ومُلْك وعُمران، فهي لكم من الله وسيلة، وتقوية للبصيرة، فلا تُغلَبُون بعدها مهما حَبَكَ الخُصومُ من حيلة، كونكم في حِصْنِ الله الحصين، حيثُ لا يَدْنُو الشيطانُ الرجيم.. فانتهزوها فُرصةً رمضانية لإنقاذ الحال من الطوفان والأهوال، فهو حبلٌ يُدْلى من السّماء، لا يُمسِكُ به سوى من أيْقَنَ أنه حبلٌ مَتينٌ من رَبٍّ رؤف رحيم. وصلى الله على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين، اللّهم آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك