موعد مع الموت

موعد مع الموت

مصطفى ثابت

                         

بل أنا محظوظ

الأستاذ مصطفى ثابت من الأحمديين العرب الذين لهم دور بارز مشكور معروف.. في الدعوة إلى الله في العالم العربي وأفريقيا وأوروبا ووطنه الحالي، كندا. ونشاطه في هذا المجال لا يحتاج إلى تعريف. وهو يكتب في جريدة “العربي” التي تصدر في كندا، ونقلنا عنها هذا المقال بنصرف وبدلنا العنوان. ونحن نهيب بكل المسلمين الأحمديين وعارفي فضله أن يتضامنوا مع أحبابه وأصدقائه في الابتهال إلى الله تعالى –الذي يملك الشفاء- أن يهبه شفاء كاملا عاجلا لا يترك سقما، وأن يخيب ظنه هذا في انتظار الموت، فيمنحه ربنا سنوات طويلة من الكفاح لنصرة الإسلام والدعوة إلى الله. إنه على ما يشاء قدير.

أنا على موعد مع الموت..فأنا مريض بالسرطان .. سرطان الدم على وجه التحديد.. نوع من اللوكيميا التي تصيب الصغار والكبار – وقاكم الله شر الأمراض. وبالنسبة للصغار فهو مرض يمكن علاجه بتغيير النخاع الذي في عظام المريض. فالنخاع هو الذي يفرز خلايا الدم البيضاء.. وهي الخلايا التي تتولى الدفاع عن الجسم، فهي جيش الدفاع الأول. وإذا كان النخاع مريضا فإنه يفرز ملايين الخلايا السرطانية المريضة، وتنشأ معركة مستمرة بين الخلايا السليمة -على قلتها- وبين الخلايا المريضة -على كثرتها- وغالبا ما تكون المعركة خاسرة. لهذا لا بد من قتل كل النخاع المريض الموجود ثم زرع نخاع جديد لا يرفضه الجسم ويقبل أن يتبناه. ويتحتم لذلك أن يكون هنالك تواؤما بين النخاع الجديد والنخاع المريض عن طريق أحد الإخوة أو الأخوات. وتستغرق العملية حوالي ثلاثة أشهر، يعزل فيها المريض عن العالم عزلا تاما حتى أن المستشفيات التي تقوم بإجراء هذه العمليات تكون مزودة بحجرات خاصة لعزل المريض تماما. لأنه أثناء هذه الفترة يكون منعدم المناعة بحيث يمكن أن يقضي عليه أي فيروس حتى ولو كان فيروس الزكام. وكلما كان المريض صغير السن كان نجاح العملية أقرب.. وكلما كبُر سن المريض كان توقع النجاح أقل. وفي أونتاريو وضعت الحكومة حدًّا لإجراء هذه العملية وهو سن الخامسة والخمسين.. لأنه لا أمل في نجاح العملية بعد هذا السن.

ولما كنت قد احتزت الخامسة والخمسين، صار الحكم معروفا، فأنا على موعد مع الموت. وقد يبدو هذا شيئا طبيعيًّا.. إذ أننا جميعا في حقيقة الأمر على موعد مع الموت… ولكن الأمر يختلف. إن إحساس الإنسان بالموت وهو في العشرين من عمره يختلف عن إحساسه وهو في الخمسين أو الستين أو السبعين. وإحساس المريض بالموت يختلف عن إحساس من صدر عليه الحكم بالإعدام وينتظر في زنزانته تنفيذ الحكم. ومع ذلك .. فأنا سعيد! بل إنني أعتبر نفسي محظوظا!! لأنني تعلمت من المرض أشياء وأشياء. فالمرض معلم حكيم.. مثل الدنيا التي تعلم الإنسان دروس الحياة. ولكن الدنيا أحيانا تخدع وتغدر، وقد تخطئ وتصيب. أما المرض فهو معلم لبيب، ودروس المرض دروس أصيلة، لا تخطئ ولا تخيب. إن المرض يجعل الإنسان ينظر إلى الأمور وإلى الدنيا كلها بمنظار آخر أجمل. ويجعل وجدان الإنسان يذوب بأحاسيس تكون في جمال أفانين الزهور. ويجعل القلب يخفق بمشاعر تتواءم مع وداعة العصفور. وإذا بالدنيا كلها تتغير وتتبدل، وتختفي منها المنغصات الصغيرة.. ويصير كل شيء بسيطا ويسيرا، لأن ما فيش حاجة تستاهل.

طلب مني الطبيب المعالج أن أتردد عليه دوريا في المستشفى لإجراء تحاليل الدم ومتابعة الحالة. وفي بعض الأحيان كنت أتردد على المستشفى كل أسبوع. وهناك كنت أرى زملاء المرض. وتستطيع أن ترى الفرق بين المرضى في زياراتهم الأولى وبين المرضى المخضرمين. إذ تستطيع التعرف على المرضى الجدد حين تلمح في أعينهم الدموع. وأحيانا ترى الدموع في أعين المصاحبين لهم. زوجة تعين زوجها وتحاول إخفاء دموعها بعد أن عرفت بحقيقة مرض زوجها. أو ابمة تساعد أمها وتمسح دموعها ودموع أمها المريضة. والبعض منهم كان تحت العلاج المشع، والبعض كان يذهب إلى المستشفى يوميا من أجل العلاج. وهناك تسمع عن مرضى أصابهم المرض وهم في عنفوان الشباب. وتسمع عمن أصابه المرض في الكبد أو الأمعاء، ويضطر أن يعيش حياته مقيدا إلى خراطيم تخرج من جسمه لتعينه على التخلص من الفضلات. ومرضى أصابهم المرض في المخ، وبعد الجراحة فقدوا النطق أو الحركة. وكان عليهم أن يقضوا بقية حياتهم على كرسي متحرك. حينما أرى وأسمع كل هذا.. وأرى نفسي ما زلت قادرا على أن أذهب للمستشفى على قدمي.. أتطلع إلى السماء وأقول: شكرا لك يا رب، فكم أنا محظوظ!!

قد لا يدرك الإنسان مدى النعم التي يتمتع بها في كل لحظة وفي كل آن. وقد يبحث اإنسان عما ليس له، وتتعلق أنظاره بما ليس في يده.. بينما يغفل عما يملأ حياته من نِعم يتمنى الملايين من الناس لو أسعدهم الحظ فنالوا ولو جزءًا بسيطا منها.

كنت أقرأ في كتاب عن السيدة فاطمة الزهراء.. وكيف أنها كانت تعاني من الضعف والمرض طوال حياتها. وبالإضافة إلى الضعف والمرض.. كانت هناك المعاناة والفقر والعوز والحاجة، حتى أنها لم تكن تستطيع أن تستخدم أحدا ليساعدها في أعمال البيت. بل إنها كانت تقضي اليوم والليل دون طعام، حدث ذات مرة أن دخل عليها والدها فوجدها تعاني من شدة المرض فسألها: “كيف تجدينه يا بنيّة؟ فقالت: “إني لوجعة”، ثم أضافت: “وإنه ليزيدني أني ما لي طعام آكله”.. فتحدرت عبرات الوالد الحنون لأنه لم يكن يملك أن يُطعم ابنته التي تعاني آلام الجوع مع آلام المرض.

كنا نقرأ عن السيدة مريم العذراء أنها كانت تتعبد في المحراب، وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا. ويقال في بعض كتب التفسير أن زكريا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء. وكان المفسرون يعتبرون ذلك من المعجزات والكرامات والفضل الكبير ال1ي كان الله ينعم به على السيدة مريم. ولو فكرنا قليلا لرأينا أننا نعيش في عصر المعجزات والكرامات.. إذ أنك تستطيع أن تذهب إلى أي محل يبيع الخضار والفاكهة وسوف تجد فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء، كلاهما في متناول يدك. وإنني كلما مررت على طبق الفاكهة الكبير الذي يربض على المنضدة في منزلي، وأرى أنه يضم فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء.. بل فاكهة الغرب والشرق، وفاكهة الشمال والجنوب.. تطلعت إلى السماء شاكرا وقلت: نعم، كم أنا محظوظ.

على مدى التاريخ.. سمعنا وقرأنا عن ملوك وسلاطين. كانوا يعيشون في عز الملك ورفاهية السلطان. وكم قرأنا عن عصر هارون الرشيد، وسمعنا حكايات ألف ليلة وليلة، وانبهرنا بالأبهة والفخامة التي كان يستمتع بها أولئك الملوك. ثم أخذني التفكير لإلى الأبهة والفخامة التي نعيشها في هذا البلد وفي هذا العصر، فإننا نتمتع بأشياء لم يكن يحلم بها الملوك على مر العصور. أستطيع بأطرافأصابعي أن أضغط أزرارا فأتحدث مع أحد من الأصدقاء أو الأقارب في أي مكان على ظهر الأرض، وأضغط زرًّا من الريموت كونترول فأتواجد في قاعة المحكمة مع أو. جي. سمسون، وأتابع الأحداث في أنحاء العلم على شاشة التلفزيون. وإذا عنَّ لي الانتقال أو السفر إلى الشرق أو الغرب.. فلن أحتاج إلى البساط السحري؛ وهو على أي حال لم يكن مكيف الهواء. لن أحتاج أكثر من مكالمة تلفونية مع وكالة السفر، لأكون في المكان الذي أريده في اليوم التالي دون أن أخطو بقدمي سوى خطوات بسيطة .. من البيت إلى السيارة.. ومن السيارة إلى المطار، وهناك ينتظرني كرسي متحرك، لأنني مريض، وشركات الطيران توفر كل أسباب الراحة لركابها وخاصة المرضى من أمثالي. وأتصور عز الملك الذي كان يعيش فيه هارون الرشيد.. وأرى الرفاهية التي أنعم بها وأقول فعلاً، كم أنا محظوظ!!

حينما علمت أسرتي بمرضي، وكنت قد أخفيته عنهم لبعض الوقت، تغيرت معاملتهم لي تماما. صار الجميع يعاملني بود، ويحرص الكل على إبداء المشاعر الجميلة. اختفت المشاكل، وتلاشت المنغصات، وانعدمت الخلافات، وصرت مثل “سي السيد” الذي يعمل له الجميع ألف حساب. يحرصون على راحته، وتوفير طلباته.. ليس خوفا ورهبة من “سي السيد”.. ولكن محبة وحنانا. إن الإنسان في مثل سني المتأخرة -رغم أني لم أصل بعد إلى الستين- من النادر أن يعيش قصة حب جديدة، أو يخفق قلبه بمشاعر الغرام.. ولكنني أشعر أنني وزوجتي نعيش مرة أخرى أيام الحب الدافئ. وتنبض قلوبنا بالعواطف الجميلة والمشاعر الحلوة. ألم أقل لكم إنني محظوظ!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك