في رحاب القرآن
يَا أَيُّهَا الذين آمنوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (105)

شرح الكلمات:

راعنا– راع: فعل أمر من راعى، و”نا”ضمير الجمع للمتكلم. وراعاه مراعاة: لاحَظَه محسِنا (الأقرب).حيث إن راعى من باب المفاعلة الذي يقتدي مشاركة الفريقين في العمل على السواء..لذا فأن راعنا تعني عاملنا بإحسان والتفت إلينا برفق نعاملْك بإحسان ونلتفت إليك برفق.

انظرنا –أصغ إلينا؛ تأنَّ علينا وانتظرنا (اللسان). وكأنه أيضًا بمعنى (راعنا) ولكن ليس فيه شرط المشاركة.

التفسير: كان اليهود يمكرون بالمسلمين مكرَيْن: مكر خارجي ومكر داخلي. وتتحدث هذه الآية عن مكرهم داخل المجتمع الإسلامي. فكما كانوا يغرون القبائل والدول الأجنبية بالقضاء على الإسلام من الخارج..كانوا يلجئون لأنواع الحيل والمكر لتنفير المسلمين من الإسلام وتقليل حبهم وإجلالهم للرسول .

فكانوا إذا رأوا أحدًا قد أصيب بضرر أسرعوا يتظاهرون بالعطف عليه. وكانوا يستخدمون في مجلس النبي كلمات ذات وجهين.. حسن وسيئ (البخاري، كتاب الاستئذان)، بقصد أن يستخدمها المسلمون أيضًا في حديثهم مع النبي .. فيزول من قلوبهم الحب والتقدير له، ويحل محله قلة الأدب ونقص الاحترام شيئا فشيئا. وعلى سبيل المثال: كانوا يسألونه سؤالا لا طائل منه استهزاء وسخرية، لكي تخف من قلوب المؤمنين هيبته ويضعف إخلاصهم له، أو كانوا يسألونه سؤالا عن العبرية استخفافا به.. مع أنه ليس في ذلك ما يشين المرء في الحقيقة. وكان النبي إذا لم يعرف شيئا يصرح بأنه لا يعرف. روي أن النبي ذات مرة رأى بعض أصحابه يقومون بتلقيح النخل، فسألهم عن سبب ذلك. فقالوا: هكذا نفعل يا رسول الله. قال: لعلكم إذا لم تفعلوا كان أكثر ثمرا . فتركوا التلقيح ظنا منهم أن النبي لم يستحب ذلك. ولكن حينما لم تثمر النخيل جيدا شكوا إلى النبي قلة الثمر فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر (مسلم، الفضائل).

فكان الرسول إذا لم يعلم بالشيء اعترف أنه لا يعلمه، ولكن اليهود كانوا يحاولون بهذه الطريقة إحراجه أمام أصحابه. ولكن الله تعالى كان يحميه من شرورهم بالوحي.

ومن شرور اليهود هذه أنهم كانوا يستخدمون في الحديث مع النبي كلمات تحمل في طيّها تحقيرا واستهزاء، وإذا نهاهم أحد عن استخدامها قال قائلهم: ما فهمت قصدي، لأن نيتي لم تكن كما تظن. ورد في الحديث أنهم كانوا يسلمون عليه بقولهم: السام عليكم، بدلا من السلام عليكم. فكان السامع يظن أنهم سلموا عليهم، ولكنهم في الحقيقة دعوا عليه..لأن السام يعني الهلاك والدمار. ومرة فطنت إلى ذلك السيدة عائشة – رضي الله عنها –فردت على اليهودي: عليكم السام واللعنة! ولكن النبي قال لها: مهلا يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقالت: يا نبي الله، أولم تسمع ما يقولون؟ قال: أو لم تسمعي أرد ذلك عليهم فأقول: عليكم. (البخاري، الدعوات).وهذا يدل على عادة بغض اليهود وعداوتهم واستخفافهم بالنبي.

وهنا ضرب الله مثلا لمكر اليهود داخل المجتمع الإسلامي. ونصح المسلمين قائلا: أيها المؤمنون، لا تقولوا للنبي : راعنا، ولكن قولوا: انظرنا. وقد ذكر القرآن سبب هذا الأمر الإلهي في مكان آخر، حيث صرح بأن اليهود كانوا عندما يحضرون إلى النبي يسترعون انتباهه وعطفه إليهم قائلين: راعنا. وهذه الكلمة تعني: التفت إلينا بإحسان وعاملنا بلطف. ويبين القرآن أنهم لم يكونوا ينطقون بهذه الكلمة نطاقا عاديا، وإنما كانوا يلوون ألسنتهم بحيث يظن السامع أنهم يقصدون المعنى العادي، ولكنهم في الحقيقية يقصدون سب النبي وتحقيره. فقد قال الله تعالى (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) (النساء: 47).

أي أن بعض اليهود يقومون بتحريف كلام الله تعالى، ويقولون سمعنا وعصينا؛ واسمع قولنا لا أسمعك الله كلامه. ويقولون: راعنا، أي عاملنا بلطف. ولكنهم ينطقون بهذه الكلمة وهم يلوون ألسنتهم ويطعنون في الدين. ولو أنهم تركوا عادة الفساد والشر هذه، وقالوا بدل ذلك: سمعنا وأطعنا، وانظرنا.. أي سمعنا قولك فالتفِتْ إلينا بلطف وإحسان لكان خيرًا لهم وأدعي إلى تحسين حالتهم.

يقول المفسرون إن النبي رعى الغنم في صغره، ولذلك أشرار اليهود يقولون له “راعنا “، وكانوا يلوون ألسنتهم في نطق الكلمة بحيث تصبح ” راعينا” ويقصدون أنك كنت راعيا لنا..فكيف صرت الآن نبيا؟ (البحر المحيط). ولكن العلامة الراغب الأصفهاني يقول: “كان ذلك قولا يقولونه للنبي على سبيل التهكم، يقصدون به رميه بالرعونة ويوهمون أنهم يقولون راعنا أي احفظنا، من قولهم: رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن وأرعن (المفردات: تحت كلمة رعن).

وهذا يعني أن “راعنا ” يمكن أن تكون من رعن، أي رجل أناني متكبر مغرور؛ فهم كانوا ينسبونه إلى الرعونة والكبر والغرور باستخدام كلمة يوهمون بها الآخرين أنهم يبجلونهم ويحترمونهم، ولكنهم في الحقيقة كانوا يفرحون بأنهم قد سفهوا المسلمين.

ولكنني أرى هناك سببا آخر لنهي الله المسلمين عن قول ” راعنا “وهو أن “راع ” فعل أمر من باب المفاعلة الذي يقتدي الاشتراك في العمل من الطرفين..كقولنا: باهَلَه وقاتَلَه؛ ويعني: عاملنا بإحسان ورفق حتى نعاملك نحن أيضًا كذلك، وإلا فلا. أما كلمة “انظر”فأنها تعني فقط: التفت إلينا بعناية ورفق. ففي قول “راعنا “من سوء الأدب والوقاحة ما لا يليق بعظمة النبي ومكانته ، وليس المراد فقط تحاشي التشبه باليهود، لأن الإنسان إذا كان حسن النية فلا معنى لتشبهه باليهود، وإنما نهى الله المسلمون عنه كيلا يصابوا شيئا فشيئا بمرض سوء الأدب وقلة الاحترام مع النبي .

وهذا يعني أنه لا بد من أخذ الحيطة والحذر في صغار الأمور أيضًا. والواقع أنه لم يُصب المسلمون ما أصابهم من انحطاط وفساد ودمار إلا لأنهم أساءوا استخدام كلمات لها حرمتها وقداستها. فقد دُمرت حكوماتهم لأنهم استخدموا كلمة “الملك “بمعنى سفيه. فإذا سمي الملك سفيها..فكيف يحترمه الناس؟ ومتى فقد الملك احترامه ضاعت هيبة الحكم أيضًا.

كما انعدم احترام العلماء من نفوس المسلمين حتى أخذوا يطلقون كلمات التوقير مثل “حضرة ” -المختصة بالصلحاء والأولياء- على الأشرار والأوباش..حتى إنهم أساءوا استخدام لفظ الجلالة: فجعلوا يقولون عما لا يملك شيئا أنه “ليس معه إلا الله “.. يريدون أنه صار صفر اليدين، ولا يعنون بقولهم هذا ما أراده النبي أو سيدنا أبو بكر الصديق حين سأله الرسول مرة وقد تصدق بكل ما يملك: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله (الترمذي، أبواب المناقب).حقّا شتان بين قوله –رضي الله عنه –وبين ما يقول هؤلاء؛ لأنهم يقصدون أنه عاد لا يملك أي شيء. وكان نتيجة انتهاكهم لحرمة لفظ الجلالة أنهم فقدوا الإيمان بالله تعالى وصاروا ملحدين.

فإياكم واستخدام كلمات ذات حرمة وقداسة فيما لا تليق به.. وإلا فقدتم الاحترام والأدب نحوها، وجلبتم على أنفسكم الهلاك والدمار. كما يجب أن تحملوا غاية التقدير والاحترام لكلمات مثل: آية معجزة، كرامة، نبي، رسول، شهيد.. وغيرها، وإلا فقدتم احترام الشخصيات التي تختص بها هذه الأسماء، ومن ثم تنتشر فيكم الإباحية واللادينية. لقد كان الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) يقول دائما: الطريقة كلها أدب (ملفوظات ج3 ص 455).. أي أن الروحانية أساسها الأدب. فإذا لم يراع الإنسان الأدب واستخدم كلمات ذات وجهين جلب عليه الهلاك أحيانا.

كان (إنشاءَ الله خان) شاعرا مجيدا، وكان يحاول دائما أن يسبق غيره من الشعراء في مدح الملك. وذات يوم مدح أحد الشعراء الملك فوصفه أنه نجيب، فأسرع (إنشاءَ الله) قائلا: بل إنه أنجبُ –يريد أنه أنجب الناس؛ ولكن (أنجب) تعني أيضًا ابن الأَمة- ومن المصادفات الغريبة أن الملك كان ابن أمة، فساد السكوت المجلس، لأن الحاضرين فكروا في هذا المعنى. وكانت النتيجة أن غضب الملك غضبا شديدا وأمر بحبس الشاعر..وقد جن ومات في السجن (تاريخ الأدب الأردو، ص 247). لقد نصح الله –جل وعلا – المؤمنين ألا يقولوا: راعنا، بل يقولوا: انظرنا: ويتجنبوا كل ما يتسبب عنه سوء أدب ويمس كرامته .

وقوله “ليّا” يعني أيضا الإخفاء والكتمان مما يدل على أن اليهود عندما كانوا يقولون “راعنا “كانوا يخفون ما لا يبدون للآخرين. كانوا يعنون: أنت أحمق مغرور-والعياذ بالله –ويخدعون المسلمين ويفرحون بخداعهم هذا، ويريدون أن يوقعوا المسلمين أيضًا في قول يحطون به من شأنه .

وكلمة “انظرنا”تعني أيضًا: التفت إلينا برفق؛ انتظرنا أعطنا فرصة للكلام. فهي كلمة أدب، ومن الضروري للمؤمن أن يستعمل مثل هذه الكلمات إبداء للاحترام والتقدير الذي يكنه في قلبه للنبي .

و(اسمعوا): قد أمرناكم فاقبلوا ما نقول. ويعني أيضًا: اصغوا جيدا إلى حديث النبي، فلا تحتاجوا للسؤال مرة أخرى ولا تضطروا إلى استخدام مثل هذه الكلمات الركيكة، وإن لم تفعلوا كما نقول فاعلموا أن صغار الأمور هذه تصبح كبائر، وسوف تفقدون حبكم للرسول ..لأن للظاهر تأثيرا كبيرا على الباطن.

إلا أن الأدب والاحترام الظاهري لا يعني أن يفعل الإنسان ما يجعل منه عبدا لغيره كلمس الركبة أو القدمين.. لأن في ذلك إذلالا للمؤمن أي إذلال، ولا يجوز بأي حال. إنه بمقدور الإنسان أن يحترم غيره بدون إذلال نفسه، وينبغي ألا يختار الإنسان ما فيه مذلة لنفسه..لأن الإسلام لا يأمر بذلك.

(وللكافرين عذاب أليم)والمراد من الكافرين هنا شرار اليهود المفسدون الذين يمارسون هذه الشرور والمنكرات لأهانه النبي وبث النفاق في نفوس المؤمنون، وتقليل حبهم وتقديرهم للنبي . يقول الله تعالى: إذا لم يرتدعوا عن هذه الشرور فسوف يلقون عذابا أليما.

 

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (106)

التفسير:

يقول الله عز وجل إن أهل الكتاب والمشركين يريدون ألا ينـزل عليكم أيها المسلمون أي فضل ولا نعمة من الله، ويحاولون أن يقللوا من احترام النبي في نفوسكم، ويوقعوا بينكم النفاق والشقاق والفساد، وأن تفقدوا الوحدة التي تزيدكم قوة.. فاحذروهم جيدا. واعلموا أن عدوكم يريد أن يسخر منكم ويستهزئ بكم..ولكنه في قرارة نفسه يعلم جيدا أن أعماله المنكرة هذه تكشف عن خبثه وخسته هو، ولا تضر بمحمد رسول الله شيئا.

(والله يختص برحمته من يشاء).. أيها اليهود إن أعمالكم السيئة هذه لن تغني عنكم شيئا لأن الله يختص برحمته من يشاء، وقد اختص الآن محمدا برحمته، ومهما حاولتم سبّه وإهانته فالنصر حليفه دائما وأبدا..لأن غيرة الله قد ثارت لنصرته.

(والله ذو الفضل العظيم)..يوجه أنظارهم إلى أن رحمة الله واسعة لا تُحد، وتعُم الجميع، فإن تبتم وآمنتم لوجدتم أنتم أيضًا نصيبكم منها.

 

 مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (107)

شرح الكلمات:

ننسخ – نسخ الشيء: أزاله؛ أبطله؛ مسحه (الأقرب)

ننسها –أنسى الرجل الشيء: حمله على نسيانه (الأقرب). فمعنى ننسها أي ننسيك إياها ونمحو أثرها من الذاكرة.

آية – الآية: الرسالة.

التفسير:

إن هذه الآية من الأهمية والحيوية بمكان، وعندي أنه لو أن الإمام المهدي والمسيح الموعود –عليه السلام –قد اكتفى فقط بإزالة ما علق بأذهان المسلمين من مفاهيم خاطئة عن هذه الآية لكان هذا وحده دليلا قاطعا على صدقه..ذلك لأن ما شاع ما بين المسلمين من معان خاطئة حولها كان يشكل عقبة كبيرة في طريق الإيمان بأن الإسلام دين حقّ وسبيل للسكينة القلبية والطمأنينة الحقيقية، لأن المسلمين في ذلك العصر كانوا يفهمون من هذه الآية ويستدلون بها على وجود النسخ في القرآن.. بمعنى أن الله قد نسخ بعض الآيات القرآنية أي ألغى حكمها، وأنه سبحانه قد أنسى بعضها أصلا. والنسخ عندهم أنواع؛ الأول –أن هناك آيات نسخت لفظا وبقيت حكما. ويقدمون مثلا لذلك: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله، والله عزيز حكيم) (روح المعاني):أي إذا زنى رجل عجوز وامرأة عجوز فارجموهما. يزعمون أن هذه الآية المنحولة باقية حكما ومنسوخة لفظا، ولا بد من تطبيق هذا الحكم.. وإن كانت كلماته قد رفعت من القرآن ولا تتلى!

ويقدمون مثلا آخر لذلك في زعمهم وهو: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا. ولا يملأ جوفه إلا التراب) (تفسير فتح البيان).

والنوع الثاني: أن هناك آيات نسخت حكما وبقيت لفظا. ومثال ذلك عندهم قول الله تبارك وتعالى (لا إكراه في الدين) (البقرة: 257)..فيزعمون أن آية السيف قد نسخت حكم هذه الآية، ولا مانع من نشر الإسلام بالقوة والعنف.

كما يقدمون مثلا آخر لذلك وهو أن قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يديه نجواكم صدقة. ذلك خير لكم وأطهر) (المجادلة: 13).. قد نسخ حكمه بقوله تعالى: (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله. الله خبير بما تعملون) (المجادلة: 14). والنوع الثالث: ما نسخ لفظا وحكما. ومثال ذلك عندهم: الأمر بالاتجاه نحو القبلة الأولى بيت المقدس في الصلاة أول الأمر (التفسير الكبير للرازي). فكان المسلمون في البداية يتجهون نحو القدس، ولكن هذا لا يجوز الآن..فليس في القرآن الكريم أي أثر للآية التي أمر الله فيها بذلك، ولا هم يتجهون نحو القدس في الصلاة. ويرون أن كلمة (ننسها) تعني أن ينسى الناس تلك الآيات، ويضربون لذلك مثالا أن اثنين من الصحابة تعلما سورة من الرسول ..فأرادا أن يذكراها ويراجعاها، ولكنهما لم يقدرا على حفظ لفظ منها. فلما جاءا النبي وذكرا له ما حدث، قال إنهما مما نسخ ونسي (القرطبي وفتح البيان).

وقرأ البعض (ننساها) بدل (ننسها)، بمعنى أننا نبقيها في القرآن ولا نغيرها. وقرأ البعض الآخر (نُنْسها) ولكن بمعنى نُنْسِها، أي نذهب بها ونمحو أثرها من الأذهان (المرجع السابق).

ولكن لو تدبر الإنسان قليلا لوجد أن التسليم بوجود النسخ في القرآن يؤدي إلى الشكوك في القرآن نفسه. فلو زعم أحد أن الله نسخ حكم الآية الفلانية ومحا أثرها من القرآن أيضًا..فربما لا يترتب على هذا شك في القرآن، كما كان من المعقول أن لا يذكر في القرآن تلك الآيات التي أريد تبديلها بحكم دائم؛ ولكن أي جدوى في حفظ الآيات المنسوخة حكما في المصحف إذا لم يرد استبدالها بحكم دائم آخر؟

لا شك أن الأحكام المؤقتة تنسخ بأحكام أخرى، كما نسخت صحف إبراهيم، وكما نسخت صحف موسى بالقرآن الكريم..فلا غرابة في نسخ بعض الأحكام الدينية المؤقتة بالبعض الأخرى، ولكن ما لا نقبله هو أن يعزى إلى القرآن الكريم – وهو الشريعة الدائمة الأبدية – أن بعض آياته قد كتبت فيه ثم نسخت منه. وإذا كان الأمر قاصرا على الحذف فقط لم يكن بالغ الخطورة، ولكن أن تبقى بعض الآيات المنسوخة حكما موجودة فيه لفظا..ثم لا يأتي عليه بدليل من الوحي الإلهي وإنما من قياسهم الفارغ.. فهذا أمر خطير أشد الخطورة، يعرض القرآن للشك والريبة، ذلك أن الناس متفاوتون في الذكاء، فبعضهم يفهم شيئا ولا يفهم شيئا آخر. وإذا تركنا الأمر للعقل الإنساني يحكم كما يشاء في القرآن ليرى آية سارية الحكم، وآية أخرى منسوخة الحكم.. لأدى بنا ذلك إلى التسليم بنسخ القرآن كله؛ لأن فيه آيات تفهمها بعض العقول بينما لا تفهمها عقول أخرى. ولذلك نرى الاختلاف عندهم في عدد الآيات المنسوخة.. إذ يبدأ هذا العدد من خمس آيات ويصل إلى ألف ومائة آية.. وكأن الذي لم يتمكن من فهم خمس آيات زعم أن المنسوخ خمس آيات، ومن لم يفهم مائة قال إن المنسوخ مائة، ومن لم يقدر على فهم ألف ظن المنسوخ ألفا.. وهلم جرا.

 

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك