هكذا تُسبح الكائنات

هكذا تُسبح الكائنات

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

لقد ألقى إمام  الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد أيدَّه الله، سلسلة من خُطب الجمعة بيَّن فيها أساليب التمتُّع بالصلاة ويَسرُّنا تقديم ثانيةً هذه الخُطب التي قد أُلقيت يوم 7، 12 ، 1990، بمسجد (الفضل، لندن) (التقوى).

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ .

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (الإسراء: 45 – 47)

كل الكائنات في السماوات والأرض، الأحياء وغير الأحياء في الظاهر.. جميعها تُسبِّح بحمد الله. والخطاب في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ موجَّهٌ إلى الرسول الكريم وإن لم يُصرِّح باسمه. والحاجز أو الساتر الذي يقف حائلاً بين الكافرين والنبي خفيٌّ لا يُرى. وقد وضع الله تعالى على قلوبهم صنوفًا من الأغطية، وفي آذانهم شيئًا ثقيلاً. فالأغطية على القلوب تمنعهم من الفهم، فلا يفهمون القرآن، وآذانهم تصدُّ الأصوات فلا تسمع. وما دامت مغلّفةً بالأحجبة. ليس حجابًا واحدًا، وإنّما صنوفًا عديدة، وما دامت الآذانُ ثقيلةً.. حُرِمت من فهم كلمات الحق. وإذا عرضتَ عليهم عقيدتك في وحدانية الله تعالى كما جاء بها القرآن الكريم نفروا منها مبتعدين.

في الأسبوع الماضي تحدَّثتُ في خطبة الجمعة عن واحدة من وسائل خلق المتعة في الصلاة، وذلك بلزوم تلاوة سورة الفاتحة بتفكُّرٍ عميق. وذكرتُ أنَّ كلمة “الحمد” فيها مفتاح كل السعادة. فإنْ حمِدَ المرء ربّه.. بحيث يكون عقله منسجمًا مع كلمات الفاتحة التي يتلوها وارتبط بها، ولا يبرح بإمعانٍ عميق يتغنَّى بحمد الله، ويفهم صفاته على نور الحمد.. فسوف يترتَّب على ذلك سلسلة لا تنتهي من الموضوعات التي تُشرق عليه بنورها. ونعلم من القرآن الكريم أنَّ كل من في الكون يحمد الله تعالى، ليس الأحياء وحدهم، وإنّما كل الموجودات، ظاهرها وخفيُّها، في السماوات أو في الأرض.. الكل يتغنّى بحمد الله.. ولكننا لا نفهمهم. أودُّ أن أوضّح للجماعة بعض النواحي لوسيلةٍ أخرى لفهم “الحمد” كي يتِّبعوها.

من هم أولو الألباب

نعلم من القرآن الكريم أنّه بوسع الإنسان إدراك الوجود الإلهي بالتفكُّر وإمعان النظر في الكون. هذه واحدة، والثانية أنّ يتأمّل الإنسان في نفسه، فيعي الوجود الإلهي. يجد المرء آيات الله في الكون وفي نفسه أيضًا. وبخصوص الكون يدلّنا القرآن الكريم كي يتذكّر الإنسان ربّه بإمعان النظر في خلق السماوات والأرض وما هو كائنٌ بينهما فيقول:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ (آل عمران: 192).

فأولوا الفهم هم الذين يتذكَّرون الله في كل أحوالهم وأوضاعهم. وذكرهم هذا ليس وليد الوهم أو الخيال، وإنّما هو ذو عمقٍ كبير.. اكتَسَبوه من النظر بإمعانٍ في خلق الله، وبالاستعانة به تبارك وتعالى. فالتفكُّر في خلق السماوات والأرض وفي تعاقب الليل والنهار له صِلةٌ عميقة بذكر الله. يقول تعالى: إن كنتم من أهل الفهم وأصحاب الذكاء، وأردتم أن تذكروني.. أدلكم على هذه الطريقة: تفكَّروا في خلقي تعرفوني، وتنشأ فيكم علاقةٌ عميقةٌ بي.. ولسوف تذكرونني شأن المحب مشبوب العاطفة.. ليلاً ونهارًا، قائمين أو سائرين، جالسين أو مستلقين على جنوبكم، في كل حالٍ سوف تذكرونني.

وعندما نصحنا القرآن الكريم بذلك.. أخبرنا في الوقت ذاته بأننا في هذا الحمد لسنا وحدنا، فالأشياء التي نتفكَّر فيها وتساعدنا على الذكر.. كل واحد منها مشتغل بذكر الله والتغنّي بحمده. وهذا الموضوع المتعلِّق بمن يذكرون الله شديد الاتِّساع.. بحيث انّ كل ذرة من الكون كله مستغرقة في ذكر الله تعالى بالحمد. ومع ذلك فالإنسان الذي وُهِبَ الذكاء الأكبر هو الأكثر جهلاً. قيل في حقه: وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. أي لا تفهمون الحمد في هذه الأشياء، فأيّ تدبُّر هذا الذي تفعلون، فلا يتولّد في قلوبكم ذكر الله على أثر تفكُّركم في خلق الله، ولا أنتم مشتغلون بحمده؟ إنّكم تنظرون ولا تفهمون.

وقد يبدو موضوع الآية التالية غير متصل بالسابقة ولكنه في الحقيقة عميق الصلة بها وبما يليها في نفس السياق. وسوف أشرح ذلك فيما بعد إن شاء الله، ولكن أودُّ أولاً أن أزيد الجزء الأول من هذا الموضوع بيانًا.

علماء يتفكَّرون بدون الحمد

في هذه الأيام، وفي هذه البلد، المملكة المتحدة، يُقدِّمون وفي أُمسيات الأربعاء في التلفزيون أفلامًا عن شتّى صور الحياة للعالم البيولوجي الخبير.. دافيد أتنبورو (David Attenborough)، الذي يجهِّز أفلام الفيديو عن مختلف جوانب أشكال الحياة، في أحوال لا تُرى عادةً، ثم يقدِّمها بطريقةٍ تُبرز أمام المشاهد أعظم ترتيب ونُظم الحياة. إنّه يأخذ جوانب الحياة المتنوعة، ويجمع بين الأفلام ليرى المشاهد في نظرةٍ واحدة الأساس المشترك في جانبٍ من جوانب الحياة. وتتضّح هذه النقطة أكثر عندما أسرد لكم مثالاً لذلك.

هؤلاء هم الناس الذين يتفكَّرون في خلق الله. ولقد كشفوا النقاب عن كثير من الأسرار العميقة. ولكن هناك أناسًا منهم، أقل عددًا، يميلون إلى ذكر الله كثمرةٍ لبحوثهم. إنّهم يرون الأشياء وينطبق عليهم موضوع الآية، فلا تفهم حمدها لأنّ سجيتك لا تنسجم مع حمده. فأنت لا تفهم ماذا تصنع هي، أو لِمَ تحمد الله، أو كيف تحمده، ولا يتجه عقلك إلى هذه التجلِّيات العجيبة المدهشة لخلق الله. عند النظر إلى أعمال أحد الفنانين.. لا يتجمَّد عقل الإنسان هناك، وإنّما يتجه إلى الفنان، ويميل قلبه إلى الثناء عليه. وتستخلص النتيجة إذا تأمّلت وتفكَّرت في الكون. كلما وقعت العيون على بديع صنع الله تعالى في خلقه، وبقدر هذه المشاهدة والمعرفة ينبغي أن تنهمك في ذكر الله، ولكن القرآن يقول: أنتم تنظرون ولا تفقهون.

هذه البرامج تُثير الاهتمام كثيرًا، وإن كنت لا أجد وقتًا كافيًا لمشاهدتها، فأرى بعضها،  وأطلب من نبيل، ابن أخينا عبد الباقي أرشد، أن يُسجّلها ويرسلها لي. وأبعث منها إلى ربوة حتى يطَّلع عليها جيلنا الصاعد، الذي ينمو فيه الاهتمام بمشاهدة أفلام الغناء وما لا نفع فيه، ليشاهدوا هذه البرامج المذكورة في القرآن، والتي حضَّنا على مشاهدتها والتفكُّر فيها. وعندئذٍ تنشأ في المرء محبةٌ لله بلا عناء ولا صراع. ينشأ حبُّ الله تلقائيًا، وينمو ويكبر في القلب، وتصير مشتغلاً بذكر الله بلا اختيارٍ منك. سوف يندفع الحمد من فِيكَ كأنّه عين ماءٍ منبثق. لقد أرسلتُ عددًا من هذه الأفلام، وأتعشَّم أن نجمع أكبر عدد منها ونرسلها إلى بلادٍ أخرى في أفريقيا وغيرها. وينبغي عرضها على الأطفال كي يطَّلعوا على هذه الموضوعات.

والآن أسوق مثلاً يُبيّن كيف أنَّ هذا الرجل وُهبَ قدراتٍ عجيبة، وكيف يُطلعنا على هذه الموضوعات بطريقةٍ رائعة.. لم أرَ من قبل عالمـًا يعمل هذه الأفلام بمثل هذه الحكمة والذكاء والعمق. فمثلاً في موضوع الاتصالات بين الحيوانات، استخدم دافيد وسائل خاصة ومتنوعة. وبكل وسيلة قدَّم أمثلةً متنوعة من الحيوانات لتوضيح الموضع، وليتبيّن بجلاء أنَّ هناك خالقًا أعظم وأعلى.. أبدع هذا العالم العجيب في خطةٍ منظمة. إنّه ليس صدفة.

هكذا تُسبِّح الحيوانات

هناك حيواناتٌ تتصل مع بعضها عن طريق الضوء. صوّر لنا دافيد كيف تبعث الحشرات النارية نورها. ويلعب الأطفال بهذه الحشرات ويجدون فيها تسلية، ونحسب أنَّ الضوء يخرج منها بالصدفة وينطفئ آليًا.. وهذا كل ما في الأمر. ولكن القرآن الكريم يقول إنّه عندما يتفكَّر المؤمنون في هذه الأشياء تنطلق قلوبهم تلقائيًا لتقول: رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَذَا بَاطِلًا ۚ سُبۡحٰنَكَ !.. إنّك يا رب لم تخلق هذه الأمور بغير هدفٍ أو معنى. لقد وصلت عقول هؤلاء العلماء إلى هذه الحقيقة: لم يُخلق شيءٌ باطلاً، وعسى الله تعالى أن يُوفِّقهم لاتخاذ الخطوة التالية، ويقولوا: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، ويأخذوا بذكر الله. ولعلَّ بعضهم يذكر الله فعلاً، ولكن معظمهم للأسف محرومون منه.

وبخصوص الاتصالات عن طريق الضوء.. تتبَّع دافيد ذُباب النار في بلادٍ عديدة وفي فصولٍ مختلفة، وصوَّرها، وتفكَّر فيما فيها من رسائل، وفهمها بحيث استطاع أن يُقدِّم الإثبات العلمي على ما توصّل إليه. استطاعت نظرة العلماء أن تصل إلى رسالة الذكر إلى الأنثى، وكيف تصل رسالة الأنثى إلى الذكر؛ ولكن دافيد تقدَّم أبعد من ذلك، وقدَّم أمثلةً على أنَّ هناك جوانب أخرى أكثر. هناك رسائلٌ أكثر، ولغة حقيقية في هذه الومضات الضوئيّة. وفي تتبُّعه لهذه الحشرات النارية ذهب دافيد إلى ((ماليزيا)). وهناك شهد المشاهد الرائعة التي تجعل قلب المرء يتزوَّد بحمد الله تبارك وتعالى. وقد يكون هناك مليون من هذه الحشرات في مكانٍ فسيح، كما لو كانت حشرة على كل ورقة من نبات؛ وفي انسجامٍ تام، كأنَّ هناك نوتة موسيقيّة تُنظِّمهم، وبتناغم كما لو كان هناك قلبٌ واحد ينبض..  تومض وتُطفئ معًا. يقول دافيد: “من العجيب أننا شاهدنا هذه الحشرات في أمريكا تومض وتُطفئ بطريقةٍ فردية، ولكن هنا عالمـًا مدهشًا من عوالم الله.. حيث تعلَّمت كيف تكون في تناغم مع بعضها”. ولما تعمَّق دافيد في هذا الموضوع تبيَّن له أنَّ الذَكَر يبعث رسالته إلى الأنثى بإشارةٍ ضوئيّة، وإذا رغبت الأنثى أن تردّ عليه بالقبول وتدعوه إليها أرسلت له رسالتها بعد ثانيتين بالضبط، وبقيت مضيئةً لمدة ثانية واحدة.. وهذا معناه أنّها مستعدةٌ للقائه وتدعوه للحضور. وأثبت دافيد ذلك باستخدام مصباح كهربائي صغير، لما أومض الذكر أضاء له المصباح بعد ثانيتين ولمدة ثانية واحدة، وإذا بالحشرة الذكر تهبط على يده. والتوصل إلى مثل هذه الحقيقة البسيطة يتطلّب عملاً شاقًا متواصلاً لسنواتٍ طويلة مع الدرس والتفكُّر لإثباتها علميًا.

أذكر انني كنت في بنجلاديش لزيارة جماعةٍ جديدة في سندربان، وهناك رأيت المشهد لأول مرة. ولا زلت أذكر المشاعر وقتئذٍ، ويتعذر عليّ وصفها. وعندما ترى هذا المشهد بنفسك، حيث تكتظُّ الأشجار بهذه الحشرات النارية لمسافة أميال، تومض وتُطفئ مع بعضها، لا تستطيع أجمل الألعاب النارية أن تؤثِّر في قلبك بمثل هذا العمق. لا أعرف عن المشهد في ماليزيا، ولكني رأيتُ شيئًا آخر في سندربان بنجلادش. هناك حشرة أخرى تُشبه الجمبري تُحدث صوتًا، ويسمُّونها (دقّاق الجرس) لأنها تُحدث صوتًا كما لو كان جرس يدق. فمن ناحية كان وميض الحشرات النارية وإظلامها مع بعض في وقتٍ واحد، ومن ناحيةٍ أخرى كانت دقّات الأجراس مع بعضها في وقتٍ واحدٍ أيضًا، وكان بعقب ذلك صمتٌ مفاجئ.. يُحدث شعورًا مدهشًا. وكانت تجربةً ذات تأثيرٍ مذهل، تفكَّرتُ فيه كثيرًا، وأحسستُ بالدهشة أن كيف نشر الله تعالى مثل هذا الجمال في أماكن شتّى؛ وما أعظم المشاهد التي يُجلِّيها ، ولا يُبالي ما إذا حضر الناس لمشاهدتها أم لا، وما إذا فهموها أم لا!

ولكن لماذا تومض الحشرات وتُطفئ في تناغم؟ إذا كان الغرض من ذلك اجتذاب الإناث فإنَّ عادة الحيوانات أن تتلاقى بعيدًا عن الآخرين وتصدر مثل هذه الإشارات الخاصة حتى لا يتدخّل المنافسون ويقتربوا من الإناث.. ولكن لم يكن الحال هكذا. لما رأيتُ برامج “دافيد أتنبورو”..  ذكرت فجأةً أنَّ هذه الطريقة هي للحمد. كل شيءٍ في الدنيا يتغنّى بحمد الله. البعض عن طريق الأصوات، والبعض الآخر عن طريق الوميض. والبعض عن طريق الغناء. والبعض عن طريق السجود. هناك الملايين من أنواع الحياة، والأحرى بنا أن نقول أنواعًا لا حدَّ لها، ونمرُّ عليها بنظرةٍ غافلة مهملة، ولا نُدرك روعة هذه الأشياء التي صنعها خالقٌ واحد.

التحاور بالأضواء تحت الماء

وبمناسبة الأنوار.. أتذكّر عندما كنت في بنجلاديش، واتتنا الفرصة للسفر ليلاً في قارب. وكانت هناك أسماكٌ تلمع في الظلام كالفضة وتجري بحذاء القارب. كانت أول فرصة لي لمشاهدة هذه الأسماك التي تسطع كالفضة وتتلألأ عندما تقترب من سطح الماء.

صوّر “أتنبورو” في برنامجه إلى جانب الحشرات التي تُضيء في الهواء تلك التي تسير على الأرض والتي تعيش في البحر كذلك، وبيّن لنا أنّه لا الهواء ولا الماء ولا اليابسة تخلو من هذه التجلّيات. كان من بين ما عرضه كائناتٌ بحرية تعيش قريبًا من سطح الماء، وتتحاور فيما بينها بومضاتٍ ضوئيّة، وتُعطي مناظر جميلة. ومن المدهش الذي أحسَّ به “دافيد” وجعل المشاهد يُشاركه في الإحساس، ما صوّره في قاع البحر حيث يصل الضغط 50 ضغطًا جويًّا، ولو نزل الإنسان إلى هناك بدون التجهيزات اللازمة لتقطّع جسمه وتحطّم بسبب ما يقع عليه من ثقل يبلغ أطنانًا عديدة. نزل “دافيد” في غوّاصةٍ مجهّزة لهده الضغوط الهائلة ومعه الكاميرات اللازمة. ولا يكاد الإنسان يتخيّل وجود حياةٍ تحت هذه الضغوط المرتفعة؛ ولكن المدهش أكثر من ذلك انعدام الضوء عند هذه الأعماق، فلا يستطيع ضوء الشمس أن ينفذ إلى الأعماق الكبيرة نتيجة امتصاص الماء له. إنّه عالَمٌ مُظلم. وعندما وصلت الغواصة إلى هناك رأت أسماكًا مدهشة. وحياةً بحرية تتواصل مع بعضها بومضات الضوء. فهناك أيضًا.. في الظلام التام، علَّم الله تعالى مخلوقاته مهارة الاتصالات الضوئية، ومنحهم المقدرة على ذلك، وزوَّدهم بأعضاء لا يمكن للعلماء المعاصرين صنع مثلها وإدخالها في أجسام الحيوانات، كي تعمل بهذه الطريقة المذهلة التي يستحيل على الإنسان فهم كيفية عملها، وحلّ معضلاتها.

هذه الشعلات والمصابيح التي أودعها الله في كثير من أنواع السمك تشبه اللمبات الكهربائية ذات الأزرار للإنارة والإطفاء حسب الرغبة، جعلها الله تعالى تحت تصرُّف الحيوانات. إنّها لا تُضيء تلقائيًا أو طبيعيًا، وإنّما تُضيء بحسب رغبة الحيوان.. إن شاء أضاء وإن شاء أطفأ. ولها ألوان جذّابة عندما تُبديها تلك الأسماك لا تُجاريها أية ألعاب نارية في الدنيا، وتُبدي أروع المناظر. والعجيب أنها تتحكم في ذلك، فبوسعها أن تُضيء من جانب واحد أو من الجانبين حسب رغبتها. وعلى سبيل المثال.. إذا كان الزوجان لا يريدان أن يلاحظهما غيرهما فإنّهما يُضيئان الجانبين المتقابلين بألوانٍ جميلة، ويُبقيان الجانبين الخارجيين مظلمين. وقد تمكّن “دافيد” تصويرهما هكذا. وإذا عكست وضعهما انعكست الجوانب المضيئة. بداخل أجسامها كريات دقيقة ذات أشكال مختلفة، تطفئها وتنيرها حسب رغبتها.

وهكذا أنشأ الله تعالى نظامًا للاتصالات عن طريق الإضاءة؛ وهو ليس مجرّد اتصال بين الذكور والإناث، وإنما تبعث بالرسائل إلى بعضها تعبيرًا عن مشاعرها. وحتى اليوم لم يتمكن الإنسان من فهمها فهماً كاملاً، لأنّها أولاً، مهمة شاقّة، وثانيًا لأنّه عندما يتجه فكر العلماء وجهة معيّنة فإنَّهم يلتزمونها، ويستخدمون كل نتيجة يصلون إليها لتفسيرها. فهم يفهمون أنَّ علاقة بين الذكور والإناث، فيأخذون كل إشارة بهذا المعنى، في حين أنَّ ملك الله واسع شاسع

وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ (البقرة: 255)،

فليس بوسعهم إدراك كل شيء عن جانب بسيط من العالم إلا بما شاء الله تعالى.

لا معنى للذكر بدون الحمد

وعندما يُخبرنا الله تعالى في القرآن أن نتفكَّر في الخلق، ونرى كيف تتجلّى صفات الله في الكون، عندما نرى ذلك يتولّد فينا ذكرُ الله جلَّ وعلا. وهذا هو تعريف اللُّبِّ والذكاء، فالذِكْر وحده لا معنى له.. والحمد بعينٍ مغمضة لا فَهْمَ فيه، لأنّه لا يدري ما هذا الذي يحمده.. والقول بأنّ هذا ذِكر حماقةٌ تامة. إذا كنت تستطيع رؤية شيء ولكنك لا تستطيع حمده فمعنى ذلك أنَّ انتباهك ليس موجّهًا نحو صاحب الحمد الحقيقي، وهذا أيضًا عمى. وعلامة الذكاء أن يكون الأمران معًا في وقتٍ واحد. يجب أن يكون بينهما اتصال متبادل، وعندئذٍ سوف ترى مجد الله تعالى في العالم كله، كما تُقرِّر الآية الكريمة تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.. ، فليس هناك شيءٌ واحد غير مشغول بذكر الله وحمده.

أصوات بموجاتٍ معينة

الحيوانات تتواصل مع بعضها، ولا نعرف كثيرًا عن ذلك؛ ونحن معشر البشر نتحدَّث إلى بعضنا البعض، ونحسب أنّ سائر الحيوانات ليس لها سوى إشارتين أو ثلاث.. تعبيرًا عن نداءات الخوف أو الرغبة بأصواتٍ مفكّكة. والواقع أنّه لو بحث الإنسان في حياة الحيوانات، وحاول فهم نداءاتها لتعلّم عنها أشياء كثيرة. لقد وجّه علماء اليوم انتباههم إلى هذا الموضوع، وشرعوا يبحثون فيما إذا كانت أصواتهم صيحاتٍ تعني التحذير من خطرٍ فحسب أم أنها تُبلغ رسائل أخرى. ووجدوا أنها لا تقتصر على تعبيرات الخوف أو الرغبة فحسب.. وإنّما تبلغ رسالات متنوعة. لقد حدّد لنا الله تعالى موجاتٍ صوتية معيّنة نسمعها، ولا نسمع ما فوقها وما دونها، ولكن الحيوانات لها القدرة على سماع موجات أعلى وموجات أقل تردّدًا. فهي تسمع موجاتٍ أكثر من البشر. وفي بعض المجالات أعطى الله تبارك وتعالى للحيوانات تفوّقًا، فتسمع مجالاً أوسع من الأصوات، وما تسمعه ينقل لها رسالات.

سُليمان ومنطق الطير

وفي طفولتنا كنا نسمع أنَّ سيدنا سُليمان تعلّم لغة الحيوانات والطير، وكنا نتعجّب وكان يتجه فكرنا تلقائيًا نحو قصص الأساطير والجنِّيات التي تحكي عن حيوانات وطيور تتكلم كالبشر وتتبادل الحديث مع بعضها. ولكن بمساعدة العلم، والتفكُّر في هذه الأمور.. أدركنا أنَّ الله تعالى منح سيدنا سُليمان حكمةً رائعة، فلم يحسب نداء الحيوان أصواتًا سخيفةً لامعنى لها.. وإنّما كان يتدبّرها ويتفكّر فيها، ونتيجةً لذلك اتَّضح له الكثير من مراميها ومعانيها.. وإن كانت خفيّةً عن عامة الناس. هناك معانٍ أخرى “للطير” في كتب التفسير، ولكن إذا فسَّرناها بظاهر الكلمة تبيّن لنا أن سيدنا سُليمان كان وُهِبَ حكمةً بالغةً من الله تعالى إلى جانب ما أُوتيَ من علوم النبوّة. وكان له اهتمام للتعرُّف من إشارات الحيوانات والطير وحركاتها ونداءاتها عمّا تريد قوله.

وعن هذا الموضوع صنع “دافيد أتنبورو” فيلمًا مُثيرًا للاهتمام. ولعلّه صنع أكثر من فيلم، ولكن أُتيحت لي رؤية واحدٍ منها.. يعرض نداءات الطيور التي يفهمها نفس الأنواع، كما تفهمها الأنواع الأخرى أيضًا. ففي مناسباتٍ معينة إذا أرادت أن تنقل رسالةً خاصة فإنَّ الغابة كلها تمتلئ بهذه الصيحات. ويتعجّب المرء: من يسمع هذه الصيحات الصادرة من طائرٍ صغير وسط هذا الصخب والضجيج؟ ولكن ((دافيد)) وجد بالدراسة العميقة أنَّ الحيوانات التي تودُّ توصيل نداءاتها لغيرها من بني نوعها تتحيَّن لحظات السكون بين هذا الضجيج، عندما تتوقف الأصوات العالية التي يمكن أن تضيع فيها صيحاتها.. في هذا التوقيت بالضبط تندفع فجأةً وترسل صيحاتها. وفي هذا الصدد اكتشف “دافيد” أشياء كثيرة مشوِّقة. تعلَّم أنَّ هناك نغماتٍ مناسبة من درجاتٍ صوتية خاصة وصفاتٍ أخرى تجعل أصواتها متميّزة عن غيرها. وذلك يشبه ما تفعله محطات الراديو من تخصيص موجات خاصة تُذيع عليها حتى لا تتداخل مع المحطات الأخرى. ففي خضمِّ هذه الأصوات الصاخبة التي يبدو اختلاط الحابل بالنابل فيها.. يصل صوت الحيوان بأسلوبه الخاص وصفاته المميزة إلى رفاقه من بني نوعه. فالحيوانات تستفيد أحيانًا من لحظات السكون، وأحيانًا تتمكن من الاتصال اعتمادًا على قدرتها في إصدار نغمات ذات درجات صوتية خاصة.

وبالإضافة إلى صيحاتها تلجأ بعض الطيور إلى أصوات إضافية. فالببغاء ذو العرف (Cockatoo)، عندما يريد إعلان سيادته على منطقة معينة، وتأكيد أنَّ شجرةً ما تخصُّه فلا يقربها ببغاءٌ آخر.. فلا يكتفي بإطلاق صيحاته لهذا الغرض، وإنّما يُضيف عليها أصوات الطَرْق بغصنٍ جاف.. يكسره ويضرب به الشجرة، كأنّما يدقُّ طبلاً بدقات خاصة. إنّه لا يدقُّ الغصن عشوائيا، وإنّما بانسجام وتوافق مع صيحاته.. وكأنه يعلن على دقات الطبول سيادته وامتلاكه لشجرته فلا يقربها أحد.

عالم الأسماك وأصواتها

ثم هناك أصواتٌ متنوعة تصدر تحت سطح البحر، لو أنّها سُمعت خارج الماء لصارت حياة الإنسان غير محتملة. رغب بعض الأثرياء في مدينة “سان فرنسيسكو” أن يعيشوا في مساكن بحرية ظنّوا أنها أكثر متعة من حياة البرّ.. كما يحدث في كشمير في بحيرة ضهال (Dhall). ولكنهم لم ينعموا بالهدوء المنشود إذ سمعوا أصواتًا مرعبةً أخافتهم، واعتقدوا من نوعية الأصوات أنَّ الكابلات الكهربائية تحدث موجات مغناطيسية تنتج عنها هذه الأصوات عند اصطدامها بالأمواج. وحَسِبَ البعض أنَّ الصوت من دفعات مضخَّات الصرف الصحي. فقدَّموا الشكاوى ورفعوا القضايا ضد الهيئات المسئولة التي أفسدت عليهم راحتهم. وأثناء نظر القضايا أجرى بعض العلماء بحوثًا فاكتشف السبب. هناك نوع من الأسماك يمكث صامتًا طوال النهار، ويُصدر الأصوات في الليل. وهي أصواتٌ تتبادل بها الأسماك الرسائل ويدعو بعضها بعضًا. فأصدر العالِم أصواتًا مماثلة وسجَّلها، وعلَّق مكبر صوت مضاد للماء، وأعدَّ الكاميرات المناسبة. وعندما أخرج الصوت المسجّل اندفعت الأسماك نحوه، وعندئذٍ تبيّن أنَّ هذه الأسماك هي مصدر الصوت. إنَّ الإحساس بالأصوات يكون أشدّ تحت سطح الماء، ولكن هذا الصوت كان شديدًا حتى أنّه سُمِعَ خارج الماء. وتحت سطح المحيط يكون صوت بعض الأسماك شديدًا حتى إنّها لتتبادل الاتصال عبر مسافةٍ تزيد على 300 مِيل. قد سُجِّلت هذه الأصوات على هذا البعد وأكثر، وعرفت ماهيّة الرسالة. وقد وصل “دافيد أتنبورو” إلى هذه الأعماق بمعدّات التسجيل ووجد هناك عالَمًا مذهلاً. نعم، هناك أيضًا يمكن مشاهدة الله جلَّ عُلاه! هناك جلبة وضجيج. ومع أنَّ آذاننا لا تستطيع في الظاهر سماع شيء.. ولكن دنيا البحار تُصدر أصواتًا وكلامًا مع بعضها البعض، يمثل ما يقولون عن سوق السمك حيث لا يفهم أحدٌ ما يُقال هناك. ولو استطاع إنسانٌ أن يسمع كل الأصوات، ناهيكَ عن فهمها، لانشقّت أغشية الأُذن، لأنها من القوة بحيث لا يستطيع الإنسان سماعها.

نعمة الحجاب المستور

فإذا قال الله تبارك وتعالى أنّه جعل على الآذان حِجابًا مستورًا فلا تستطيعون السمع.. فقوله واقعٌ حقّ. لقد خلق الحُجب، وهي موجودة في العالَم الطبيعي ولا نستطيع رؤيتها. هناك مثلاً حجاب اختلاف تردّد الموجات الصوتية. فانت تسمع أصواتًا ولا تستطيع سماع أصوات أخرى؛ ولو أنّك سمعتها ما استطعت أن تسمع صوتك أنت. إنّها أصواتٌ قوية تُمزِّق طبلة أذنك. لقد خلق الله تعالى هذه الحُجب لحمايتك؛ ولكن التعساء هم الذين يُحرمون من الحقّ بسبب حُجبهم.. تلك الحُجب التي خلقها الله تعالى لغرضٍ خاص.

وعندما نتحدَّث عن العالَم الروحاني فالحُجب خلقها الله لهدفٍ معين، ولكن المنكودين يبقون محرومين من الحقيقة بسبب تلك الحُجب. لقد منح الله الإنسان حُجبًا كي يحتمي بها من الأمور السيئة؛ وليقي نفسه من السخافات ومن الأمور التي تبعده عن الله تعالى. هذه هي الحكمة من خلق الحُجب، فهي من خلق الله تعالى، ولكن الإنسان إذا أساء استخدام خلق الله أضرَّ به ما خُلِقَ لمنفعته. فإذا قرأتَ في القرآن الكريم أنَّ الله خلق حِجابًا وستارًا فاصلاً وحدودًا.. فليس معنى ذلك أنّ الله يريد الضرر للإنسان. معاذَ الله! إنّما يعني ذلك أنَّ الله خلق النواميس لصالح الإنسان وخيره، ومنحه القدرة على الانتفاع من بعض هذه القيود. فمثلاً يستطيع الإنسان أن يُغلق عينيه، وهذه نعمة من الله. إذا لم يستطع المرء أن يُغلق عينيه لانهدم الجهاز العصبي لأنّه عندئذٍ لن يستطيع النوم، ويكون انفتاح عينيه الدائم عذابًا. وهكذا يتبيّن لك أن قدرتك على إغلاق عينيك عطيّةٌ من الله. ولكنك إذا اغلقت عينيك من الضوء فسوف تتعثر وتقع وتتألم، وتصبح حياتك اليومية عذابًا مستمرًا.

خرجنا مرةً نستبقُ في السير لنرى من يستطيع السير في خطٍ مستقيم وهو مغمض العينين. إنّه لمن الصعوبة بمكان أن تسير مغمض العينين، هذا أولاً، وثانيًا إنّك تفقد اتِّزانك، وثالثًا إنّه يضيع منك الاتجاه المستقيم. في نزهةٍ مع بناتي حاولنا ذلك، فسار كل منا في اتجاهٍ مختلف، وتعثَّرت إحداهنَّ وتوقفت عن المسير. فإغماض العينين نِعمةٌ مباركة، ولكن إغماضها في مكانٍ غير مناسب لا يعود بركة بل مشكلة كبيرة، ولا يستطيع المرء القيام بمتطلّبات حياته اليومية.

يقول الله تعالى: لقد خلقتُ الحُجب لأغراضٍ معينة، ولكن القوم المساكين هم الذين يستعملون تلك الحُجب في غير مناسبتها ووقتها. نجدهم ذوي أبصارٍ حادة في بعض النواحي، ولكنهم في نواحٍ أخرى لا يرون شيئًا. وللأسف أنَّ مثل هذه الحجب موجودةٌ على أبصار بعض الشيوخ المسلمين. فهناك أشياء يفشلون في رؤيتها. ومن العجيب أنَّ القرآن الكريم علَّم أسرارًا عظيمةً لا توجد في أي كتابٍ في الدنيا.. ولكن مشائخ المسلمين ما زال بعضهم محرومًا من التفكُّر في الكون الذي خلقه الله تعالى. كانت بغداد منذ بضعة قرون مركزًا للحكومة الإسلامية حيث تقدَّم العلم فيها وازدهر كثيرًا بلا شك. ولكن هذا أمسى من أمور الماضي. والآن لا يفتح المسلمون أعينهم للتفكُّر في ذلك بينما الآخرون يفعلون. لا يميل المسلمون إلى ذلك. يضع أحدهم على عينه حجابًا، ويضع الآخر نوعًا ثانيًا من الحُجب. وفيما يتعلق بحال القلب يقول القرآن المجيد: جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (الإسراء: 26). فليس حجابًا واحدًا، وإنّما كثيرًا من الحُجب. ولسوف أتناول هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، في مرةٍ قادمة لأنَّ الوقت قد تأخر، وأنتقل الآن إلى موضوع الآية التالية، لأشرح لكم العلاقة بينها وبين الآية التي قبلها.. فهناك صلةٌ ولكنها تتطلّب توضيحًا.

أشدُّ الحيوانات عمىً

يقول الله تعالى:

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (الإسراء: 46).

يا محمد! عندما تتلو القرآن لا يفهمونه. القرآن ذكرٌ أوحاه ربّك إليك، وعندما تقرأه تنغمس في عالم من النعيم والسعادة، ولكن أولئك القوم الذين لا يعقلون شيئًا قد جعلنا لهم حُجبًا، كما لو كانت موجات سمعهم تختلف تمامًا. وفي الواقع العملي هناك موجاتٌ مختلفة في العالم الروحاني. هناك أصواتٌ متنوعة.. يمكن لذوي العلم العميق بالله أن يتعرَّفوا عليها، أما الذين تعوزهم المعرفة فأنّى لهم فهمُ تلك الأصوات. وهكذا ترى كيف فسّر القرآن الكريم الجانبين بطريقةٍ رائعة.. في هاتين الآيتين القصيرتين. ففي جانب بيَّن سوء حظّ الإنسان.. إذ يتغنّى كلُّ شيءٍ بحمد الله؛ كل الكائنات التي هي دون الإنسان مشتغلةٌ بذكر الله وحمده، ومع أنَّ الإنسان يراها فهو لا يستطيع سماع حمدها ولا يفهم قولها ولا كيف تقوله. ومن الجانب الثاني صار الإنسان مهملاً لذكر ربّه حتى إذا بعث الله رجلاً هو الأرقى في مجال حمد الله.. رجلاً يذكر الله تعالى ولم يولد مثله في الأولين، ولم يُولد مثله في الآخرين.. أي سيدنا محمد المصطفى الذي وصفه الله بأنّه ذِكْرًا * رَسُولاً (الطلاق: 11-12)، فهو ذِكرٌ لله مجسَّد.. تسمعون كلمات ذكر الله جليلةً في كلامه.. ومع ذلك تقف حُجبكم بينكم وبينه.

وهكذا صار الإنسان أشدَّ الحيوانات عمىً في الدنيا.. فلا هو يملك بنفسه مهارة الحمد، ولا هو يتعلّم شيئًا من ملاحظته لخلق الله؛ ولا يفهم حمدهم، والكون كله مملوءٌ بذكر الله وحده.. بوسع المرء ان يسمع أصواتهم وأضواءهم ومناظرهم العجيبة التي تنتشر في كل مكان.. في الهواء، في الأرض، وفي البحر.. ليلاً ونهارًا، الله تعالى يبدو في كل الأشكال والصور، ولكن المراقبين يفشلون في رؤيتها وسماعها ولا يقدرون على فهمها. وهكذا يُصبحون عُميًا جُهَّالاً، وإذا تلا عليهم سيدنا المصطفى ذكر الله دخل الحجاب بينهم وبينه فلا يفهمون شيئًا منه.

لو أنّك ربطت بين هذا الموضع والموضع السابق، وتفكَّرت في قلبك.. في داخل نفسك.. في عالمِكَ، فلسوف ترى الله تعالى. وهذا ما يُسمَّى بالإشراق أو التنوير من الباطن والظاهر. وعندما يتحدَّث الصوفية ويقولون: إنَّ أحوالنا كلها قد استنارت.. فاستضاء داخلنا واستنار ظاهرنا، لا يفهم العامة الذين لا يُدركون كُنه النور، مُرادَهم لأنَهم يظنّون أنَّهم ربما تلقّوا هذا النور فجأةً كأن يدير أحدٌ النور الكهربائي فيضيء المصباح فجأةً. إنّه ليس كذلك، وإنّما هي أنوارٌ تنشأ كثمرةٍ لحياةٍ طويلة في ذكر الله، يمكن مشاهدتها من الخارج ومن الداخل، ولا تزال تزداد سطوعًا. ينشأ فيهم بهاءٌ جديد، ويتجلّى منهم لونٌ جديد. هذه الأعماق من البحار التي تمثّل أشدّ الظلمة لبعض الناس.. إذا اكتسبتَ النظرة الذكية استطعتَ أن ترى الأنوار تتلألأ هناك أيضًا. ينبغي أن تفهموا موضوع ذكر الله.. فهذا وحده هو الحمد. بعد التفكُّر، ومن خلال الحمد.. سوف تكتسبون المحبة والصلة بالله تعالى. فإذا جاءت كلمة الحمد في صلاتكم سترون صفات الله تعالى متصلةً بهذا الحمد، وسوف ترون فيها أنوارًا جديدة، ويبدو لكم إشراقٌ جديد، وترون الكلمات تتغنّى بحمدٍ جديد، وتغوص أرواحكم في أعماقٍ من السعادة لا توصف. ولكن ليس من الممكن أن تروا كل المشاهِد دفعةً واحدة في كل صلاةٍ من صلواتكم. عليكم أن توطِّنوا أنفسكم بالتدريج، خطوةً خطوة، بقدر استطاعتكم. في كل مرة تقف فيها متعبِّدًا.. عليك أن تتفكَّر ولو لفترةٍ قصيرة على الأقل.. في الحمد الذي يسيطر على قلبك في حالك الذي أنت عليه وقتها. لو سكنت لدقيقة أو نصف دقيقة.. فلا بدَّ  أن تتحسَّن وتتقدَّم بعد ربط هذا الموضوع بالمعنى الحقيقي للحمد الذي أحسسته بنفسك. وينبغي ألا تُردِّد بالكلمات وحدها.

فكل المشاهد التي رويتها لكم هي مشاهد ألوهية.. وصفاتٌ ألوهية فحسب. فهو الخالق القيُّوم الرازق لكلّ العوالم.. وما أعظم وأروع أعماله “الفنيّة” التي خلقها كلها.. والتي لم نتعلّم معشارها، بل ولا جزءًا من الألف، ولا من المليون، ولا من البليون. ومع ذلك فكل ما وجدناه كان مدهشًا للغاية، وكلما زادت معرفتك ازداد حمدك وازداد وعيك. ولذلك ينبغي أن تتفكَّر في نفسك وفي قلبك وفي حياتك، وتتفكَّر في خبراتك اليومية، وتتفكَّر في أفضال الله عليك، وكلما ازداد تفكُّرك كلما ازدادت المتعة في صلاتك عسى الله تعالى أن يوفِّقكم إلى ذلك!

علاجٌ وحيد

إنّي أحاول الشرح، ولكنها موضوعاتٌ يصعب شرحها. ولكني أؤكِّد لكم أنَّ هناك علاجًا وحيدًا.. علاجًا واحدًا فحسب.. ذلك هو فتح باب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .. إننا نعبدك وحدك ولن نعبد سواك، ولكن كيف؟ بـــ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .. بالتماس العون منك وحدك. إذا لم يكن لنا عونٌ منك فلن نتمكن من عبادتك وحدك.

ذكرت لكم أنَّ العبادة تتضمَّن موضوع “الحمد”، وبدون “حمد” صادق لا يمكن للمرء أن يقوم بواجب العبادة. وإذا لم يكن “حمد” صادق مع العبادة لا يمكن قبول دعاء إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأن الحمد له صلةٌ وثيقة بقبوليّة الدعاء. ويتضح هذا بما يُقال عند الاعتدال من الركوع: (سمع الله لمن حمده)، فالله يسمع ويُجيب لمن حمده. وقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يخبرنا أن نبتهل إلى الله تعالى بأننا نعبدك وحدك، وندعوك من فضلك وكرمك أن تأتي لمعونتنا وقبول دعائنا. ولكن لا بد ألّا تخلو العبادة من الحمد.. وإلا رُفِضت تلك الصلاة. هذا هو موضوع “سمع الله لمن حمده”، فمن خلال الحمد تتوطّد العلاقة مع الله.

فيجب عليكم أن تُقيموا علاقة الحمد مع الله تبارك وتعالى، وأن تنموّها وتعملوا على تقويتها وتوطيدها في حياتكم اليومية. وعندما تُقدِّمون أنفسكم للعبادة بين يديه جلَّ وعلا.. ستجدون الله أكثر قربًا إليكم، وتتوطد علاقاته الكثيرة معكم. وكلما تفكَّرتم في الحمد كلما تقدَّمت وازدهرت علاقة محبتكم مع الله. اللهم وفقنا ومكِّنا من ذلك!

Share via
تابعونا على الفايس بوك