عليه وعلى مُطاعهِ الصلاة والسلام

الأجدر بالقبول دون أي نقاش، أنَّ ذلك الإله الحق الذي يجب على عباده أن يعبدوه، لهوَ ربُّ العالمين، ولا تُحدُّ ربوبيته بقومٍ دون آخر، ولا تقتصر على زمنٍ دون زمن، ولا تختصُّ ببلدٍ دون بلد، بل إنّه ربُّ جميع البلاد، وينبوعٌ فيّاض لكل الخيرات. وإنّه لهو المبدأ لكل القوى الروحانية والجسمانيّة، وبه تتربّى كل الموجودات، وبه قوام كل وجود وعماده.

إنَّ فضله لعميمٌ لكل الأُمم وجميع البلدان، ومحيطٌ بكل الأزمان، ولذلك لئلا تتأتّى لقومٍ شكوى بأنَّ الله اختصَّ قومًا بنعمه دون الأقوام الأخرى، ولكيلا يقول الناس: أنَّ فلانًا من الأقوام تلقَّى من الله كتابًا لهدايته ونحن محرومون، أو أنه تجلّى في زمنِ كذا وكذا بوحيه وكلامه ومعجزاته ولم يتجلَّ بذلك في زمننا بل ظلَّ خفيًّا عن أعيننا. فإنّه عزَّ وعلا دحض كل الاعتراضات بإظهار فضله العميم وأرى مظاهر صفاته الواسعة العليا بحيث لم يحرم من أفضاله الجسمانيّة والروحانيّة أي قوم، ولم يكتب لزمن من الأزمان الشقاوة الأبدية. (بيغام صلح -رسالة الصلح) ص 10، 11)

إنَّ الله قد بيَّن في القرآن الحكيم صفاته بطريقتين لكي يُتيح لعباده العاجزين إدراك معرفته الكاملة:

أولاً: بيّنها بصورةٍ تُشابه بها صفاته بصفات الإنسان على سبيل الاستعارة كما نرى أنّه كريمٌ ورحيمٌ ومُحسن، وأنّه لشديد الانتقام، كما أنّه شديد الحب… وكذلك بيده استمرار سلسلة الخلق منذ القديم، وليس لشيء من الأشياء قدم شخص. أجل له قدامةٌ نوعيّة، وهي أيضًا ليست من لوازم صفة الخلق، إذ كما إنَّ الخلق من صفاته كذلك تجلّي الوحدة والتجرَّد من صفاته عزَّ وعلا، وليس لصفةٍ من الصفات تعطُّلٌ دائم، غير إنَّ التعطُّل المؤقت فيها ممكن. وبالجملة إنَّ الله خلق الإنسان وجعله مظهرًا لصفاته التشبيهيّة التي يُشارك الإنسان فيها الله ببادئ النظر ككونه خالقًا، لأنَّ الإنسان أيضًا خالق أي موجد في نطاق سعته، وكذلك يمكن أن تقول للإنسان إنّه كريم، لأنّه يتصف بصفة الكرم إلى حدِّه المحدود، وكذلك يمكن أن نصفه بالرحيم، لأنّه يتضمَّن قوة الرحم أيضًا، كما يوجد فيه قوة الغضب، وكذلك إنّه مزوَّدٌ بالسمع والبصر وغيرهما. فكان من الممكن إذن أن تُثير هذه الصفات التشبيهيّة اشتباهًا في نفوس بعض الناس بأنَّ الإنسان يُشابه الله في هذه الصفات فهو كمثل الله تعالى. فلذلك إنَّ الله عزَّ وعلا ذكر بجانب هذه الصفات صفاتِه التنزيهيّةَ، وهي التي تدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ الإنسان لا يشاركه تعالى لا في ذاته ولا في صفاته شيئًا من المشاركة، وليس خلقه تعالى كخلق الإنسان، وليست رحمته كرحمة الإنسان، ولا غضبه كغضبه، ولا حبُّه كحبِّ الإنسان، ولا هو بحاجة إلى مكانٍ مثل الإنسان.

واختصاص الله تعالى بهذه الصفات دون الإنسان، يتبيَّن بعدة آياتٍ من القرآن الحكيم، كما يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

ثم يقول عز وجلّ في موضعٍ آخر:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .

  أي إنَّ الوجود والبقاء الحقيقي والصفات الحقيقيّة كلّها لله وحده، لا شريك له فيها. وإنّه هو الحيُّ بذاته ومنه تستعير سائر الكائنات الحيّة حياتها. إنَّه القيُّوم أي قائمٌ بذاته، ومنه تستمدُّ سائر الموجودات بقاءها. وإنّه لأسمى من الموت، ولا يطرأ عليه أتفه تعطُّلٍ كنومٍ أو نُعاس، بينما سائر المخلوقات خاضعة لسلطان الموت كذلك هي عرضةٌ للنوم والنُعاس. وله وحده كل مالا ترونه في السماء والأرض. من قدرته وُجد ومن رحمته كُتبَ له البقاء. وليس من أحدٍ يشفع عنده دون إذنه. وإنَّ علمه لمحيطٌ بالحاضر والغائب، ولا يمكن لأحدٍ أن يُدرك شيئًا من علمه إلا ما شاء. إنَّ سلطانه وعلمه يحويان جميع السماوات والأرض. إنّه ليضطلع بأعبائها ولا شيء يضطلع بعبئه. ولا يأخذه التعب من حفظ هذا النظام السماوي والأرضي. وإنّه لأجلُّ من أن يُعزى إليه الضعف والعجز والتقصير.

ثم يقول تعالى في موضعٍ آخر:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ .

أي إلهكم وربّكم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم توجّه بعد أن تجلّى بصفاته التشبيهية نحو التمكُّن من مقام التنزُّه والتجرُّد. تحقيقًا لصفاته التنزيهيّة، ذلك المقام الذي هو وراء الوراء وأبعد من جوار البشر، وهو الذي يُسمَّى بالعرش. وبلفظٍ أوضح إنَّ جميع المخلوقات في أول الأمر كانت في حيّز العدم، وكان الله عندئذٍ متجلّيًا بعرشه الذي هو أبعد وأعلى من كل عالم، ولم يكن تجلّيه إلا به، ولم يكن ثمّة كائنٌ إلا ذاته عزّ وعلا. ثم أنشأ السماوات والأرض وما فيهما. ولما تمَّ ظهور المخلوقات، أخفى نفسه، فأراد أن يُعرف بما صنع وخلق. ولكن لا يغيبنَّ عنكم أنّ الصفات الإلهية لا تتعطّل أبدًا تعطُّلاً غير منقطع، وليس لأحدٍ سوى الله قدامةٌ متشخِّصة، ولكن لا بدّ لغير الله من قدَامةٍ نوعيّة، وليس من تعطُّلٍ دائمٍ لصفة من صفات الله، غير أنَّ التعطُّل المؤقت فيها لا بدّ منه، وبما أنَّ الصفتين الإيجاد والإفناء ضدَّان متضادان، فلذلك تتعطّل صفة الإيجاد ما دام الإفناء يسود العالم.

وقُصارى القول إنَّ صفة وحدانية الله هي التي كانت متجلّية وحدها في أول الأمر، وليس لنا أن نُحدّد تجلّيها بحدود الزمان والمكان، بل نتيقّن بأنّ ذلك الدور كان غير متناهٍ. وعلى كل حال إنَّ صفة الوحدانية متقدِّمة الزمان على سائر الصفات، وعلى هذا الأساس. ولذلك يُقال إنّه تعالى كان في أول الأمر لا شريك له، ثم أنشا السماوات والأرضين وما فيهنَّ، ومن ثم أظهر أسماءه الحسنى؛ من أنّه كريم ورحيم وغفور وقابل التوب، لكن الذي أصرَّ على المعاصي ولم يمسك عنها فإنّه لن ينجو من عذابه وعقابه. ومن أسمائه التي تجلّى بها أنّه يحبُّ التوّابين، ولا يثور غضبه على الذين يأبون إلا الإصرار على المعاصي والشرور.. إنّ كل صفاته لَتليقُ بذاته العليا وليست كمثل صفات الإنسان. ليست عينه جسمانية، وليست صفة من صفاته تُشابه أي صفة من صفات الإنسان، كما نرى أنَّ الإنسان يُعاني ثورة الغضب عندما يغضب ولا يلبث أن يذهب عنه سروره، ويأخذ قلبَهُ شبه التحرُّق والتلهُّب، ويعلو عقله مادةٌ سوداوية، ويطرأ عليه تغيّر، لكن الله تعالى عن كلّ ذلك علوًّا كبيرًا. إنّ مظهر غضبه ليس إلا أنّه يرفع عن الشرير المتعنِّد ظلَّ حمايته ورحمته، ويُعامله طبق نواميس قدرته معاملة إنسانٍ غاضب، ويُسمَّى عمله هذا غضبًا على وجه الاستعارة. وكذلك حبّه ليس كمثل حبّ الإنسان، لأنَّ الإنسان يتأذّى بحبه أيضًا، وتتألم نفسه بفراق حبيبه وهجرانه، لكن الله يجلُّ عن كل هذه الآلام. وكذلك قربه ليس كقرب الإنسان، لأنَّ مقاربة الإنسان تحتاج إلى مغادرة مقامه الأول، لكن الله عزّ وعلا أبعد ما يكون مع قربه وأقرب ما يكون مع بعده. وبالجملة إنّ كل صفة من صفاته تُغاير صفات الإنسان، غير أنّها متشاركة باللفظ فقط. ولذلك يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: ليس كمثله شيء، أي ليس له مثيلٌ في ذاته أو صفاته.

(جشمه معرفت – عين المعرفة) ص:260، 264)

إنَّ الله عزّ وجل لن يتعطّل عن الصفات. إنّه كان ولا يزال رزَّاقًا وربًّا والرحمان الرحيم، وعندي إنَّ البحث في ذاته العظيمة الجبّارة ليس إلا مأثمًا. إنّه تعالى لم يُكره الإنسان على شيءٍ لم يدعمه بشاهدٍ أو دليل.  (الملفوظات، المجلد الرابع ص: 347)

“فليتبيَّن أنَّ النجوم كما تتناوب الظهور، كذلك صفات الله تعالى لا تبرح تتجلّى للإنسان متناوبة. فأحيانًا يكون الإنسان تحت أظلال الصفات الجلالية والاستغناء الذاتي، وطورًا يكون مهبط الصفات الجمالية، وإلى ذلك يُشير الله تعالى قائلاً: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ . فمن منتهى الجهل أن نظنّ أنَّ صفات الرحمة ستتعطَّل للأبد بعد أن يُلقى المجرمون في النار، ولن تتجلّى بتاتًا، لأنَّ تعطُّل صفات الله ممتنع، بل إنَّ الصفة الحقيقية لله هو الحب والرحمة، وهي أُمُّ الصفات، وإنّها تهيج أحيانًا بمظاهر الجلال والغضب لأجل إصلاح الإنسان، وعندما يتم الإصلاح تتجلّى كصفة الحب بصبغتها الحقيقية، ثم تُلازم الإنسانَ دون انقطاع كموهبةٍ إلهية. وليس الله كإنسانٍ فظٍّ غليظ القلب يتطلّع دومًا إلى معاقبة الناس. وإنّه تعالى ليس بظلّامٍ لأحد، بل الناس يظلمون أنفسهم. إنَّ حبّ الله تعالى وحده هو المنجاة، وإنّ الابتعاد عن عتبته لعذابٌ وأيّ عذاب”

(جشمة مسيحي-عين المسيحية) ص: 51 و52)

Share via
تابعونا على الفايس بوك