إِلهكم إله واحد
  • أدلة على وحدانية الله تعالى.
  • لا أدلة على الوثنية .
  • الكون نظام محكم في خدمة الإنسان.
  • الوحي ينزل لإحياء الحقائق الدينية.
__

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (23)

شرح الكلمـات:

منكِرة: أنكره: جهِله (الأقرب). (لمزيد من الشرح راجع الآية رقم 63 من سورة الحِجر).

التفسـير:

إن قوله تعالى إلهكم إله واحد ليس ادعاء بدون دليل، لأن القرآن الكريم أثناء حواره مع الكفار لا يعرض عليهم الدعوى فقط، إذ لا تجدي الدعوى بدون دليل نفعًا، بل إنه يتبع أحد طريقين: إما أن يعرض عليهم الدعوى أولاً ثم يسوق عليها البراهين، أو يقدم الأدلة أولاً ثم يذكر النتيجة المنطقية. وكل من الطريقين طبيعي يطمئنّ إليه العقل، وكل واحد منهما نافع جدًّا في محله. وقد اتبع القرآن الكريم هنا الطريق الثاني، حيث كانت الآيات السابقة تتحدث عن موضوعين: أولهما أن كل ما في الكون منسلكٌ في سلك نظام واحد، وأن كل شيء فيه يستند إلى غيره ويعتمد عليه، وأن الإنسان هو الغاية من خلق الكون. ثم بيّن أن غذاء الإنسان حيواني أساسًا، وأن هذه الحيوانات تتغذى على النبات من شجر وعشب، والنباتات تعيش وتنمو بالماء، والبشر يستقون من هذا الماء أيضًا كما يأكلون من هذه النباتات. وكل هذه الأشياء تأخذ في النماء والازدهار بتأثير ظاهرة الليل والنهار والأجرام السماوية من شمس وقمر ونجوم وغيرها، كما تعتمد هذه الأشياء كلها على البحر الذي يحتفظ بذخيرة الماء، فيتبخر منه ليصل إلى البشر والحيوان والنبات نقيًّا صافيًا. ولكي تبقى البحار على حالها جعل الله الجبال التي تدّخر الماء على شكل ثلوج، ومنها يجري الماء باستمرار على شكل أنهار تمر بدروب معينة لينفع العالم، ثم لينصبّ في البحر مرة أخرى، من دون أن ينتشر ويغطي سطح اليابسة كلها، وتبقى اليابسة صالحةً لعيش الإنسان عليها. كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كل ما في الكون مرتبط بعضه ببعض تحت نظام محكم، وأن العالم ليس مجموعة أشياء مبعثرة لا نظم بينها ولا ربط، بل إن كل شيء فيه يمثّل حلقةً في سلسلة كثيرة الحلقات، لو نزعت منها حلقة واحدة لانفصمت السلسلة ولم يعد لها وجود. كذلك لو نُزعت ظاهرة من هذه الظواهر لشمل الدمارُ الكونَ كله. فمثلا لو جفّت البحار لما وُجد الماء، ولو يبست الأنهار لنفدت البحار، ولو أُزيلت التضاريس التي تهيئ مجرى للأنهار لغطّت مياهها وجه اليابسة كلها، وبالتالي لم تعد الأرض صالحة للعيش عليها. ولولا الجبال لتعرضت الأرض للزلازل باستمرار، وهلك أهلها، ولجفّت الأنهار التي تستمد مياهها من ذخيرة الثلوج على قمم الجبال، لأن الأنهار سوف تصب مياهها مرة واحدة في البحار مما سيؤدي إلى الفيضانات البحرية من جهة، وإلى حرمان أهل اليابسة من الماء الذي يتوزع فيها على مدار السنة من جهة أخرى. ولولا الأجرام الفلكية لحُرمت الأرض وما عليها من تأثيرات النجوم النافعة، ولم تبق الأرض على حالتها. ولولا الشمس لما كانت الأمطار، ولمات الإنسان والحيوان عطشًا، ولم تنضج الثمار ولا الخضار، مما سيضر بصحة الإنسان، بل لما كانت هناك أية فرصة لتيسُّر الغذاء الحيواني له.
وبالاختصار فإن كل ما في الكون يعمل معًا على خدمة للإنسان، وكل شيء فيه يعتمد على الشيء الآخر. وإذًا كيف يصح – والحال هذه – الاعتقاد بوجود أكثر من إله في الكون. لو كان هناك آلهة أخرى من دون الله فدُلّونا على شيء في الكون ليس بخاضع لهذا النظام حتى يقال عنه إنه مخلوق بيد خالق آخر. فبما أن كل ما في الكون خاضع لنظام واحد كحلقات سلسلة واحدة فلا مناص من التسليم بأن الكون مخلوق بيد إله واحد.. اللهم إلا أن يقال أن الإله الواحد لم يكن بمفرده قادرًا على خلق الكون كله، فتوزّع الآلهةُ المتعددة الأعمالَ فيما بينهم، فأنجز كل منهم ما عُهد إليه بحسب الخطة المتفق عليها فيما بينهم من قبل. ولكن لا أحد يعتقد بهذا حتى ولا الملحدون، لأنه منافٍ للعقل، إذ لا يمكن أن يكون الناقص إلهًا. وهذا الدليل يوصل المرء إلى نتيجة واحدة فقط هي: إلهكم إله واحد .

وبالاختصار فإن كل ما في الكون يعمل معًا على خدمة للإنسان، وكل شيء فيه يعتمد على الشيء الآخر. وإذًا كيف يصح – والحال هذه – الاعتقاد بوجود أكثر من إله في الكون. لو كان هناك آلهة أخرى من دون الله فدُلّونا على شيء في الكون ليس بخاضع لهذا النظام حتى يقال عنه إنه مخلوق بيد خالق آخر.

وكان الموضوع الثاني الذي نوقش في الآيات السابقة هو أن كل من اتُّخذ إلهًا من دون الله تعالى قد أدركه الموت، فليس هناك إلا الإله الواحد الحق الذي هو أسمى من أن تصل إليه يد الفناء؛ فثبت بذلك أن قوله تعالى إلهكم إله واحد نتيجة منطقية لما ذُكر من قبل، وليس بادعاء خال من الدليل والبرهان.
ثم قال فالذين لا يؤمنون بالآخِرة قلوبُهم منكِـرةٌ وهـم مستكبرون . والفاء هنا جاءت بمعنى الواو بحسب عادة العرب (راجِع الأقرب)، وتمثّل هذه الجملة ردًّا على اعتراض محتمل وهو: إذا كانت وحدانية الله أمرًا بديهي الثبوت فلماذا ينكر الناسُ ذلك؟ فقال : إن إنكارهم وحدانيةَ الله تعالى ووقوعهم في الأعمال الوثنية لا يستند إلى دليل ولا برهان، وإنما مرجعه أنهم قد أصبحوا في الواقع منكرين للبعث بعد الموت، فلم يعودوا جادّين في أمور الدين. ذلك لظنهم أنهم لن يحاسَبوا على أعمالهم فلا يفكّرون بجدية فيما إذا كانت أفعالهم حسنة أم سيئة، كما لا يرون في التعصب والتعنت بأسًا، وبالتالي يتمكن الجهل والغباوة من قلوبهم، فلا يبقى لديهم تلك الفطنة والشعور التي يملكها من يدرك أن أعماله ستأتي حتمًا بنتائج هامة، فينكر هؤلاء حتى البديهيات اليقينيات غير مكترثين. فقوله تعالى قلوبهم منكِرة يعني أنهم غافلون وأغبياء، فلا يدرون أن هناك تعارضًا سافرًا بين عقائدهم.
وهناك مرض آخر يصيب هؤلاء المنكرين – نتيجة إنكارهم للبعث بعد الموت- ألا هو الكِبر والغطرسة، لأن منكر الآخرة لا يحذر من العواقب، والذي لا يخاف العواقب يتكبر ولا يرى لقبول الحق حاجة.
فالواقع أن الآية تذكر نوعين من المشركين: أولهما مَن قلوبهم منكرة ، أي الذين قد ركِبهم الجهل، فلا يملكون من الشعور ما يدفعهم للتفكير بجدية؛ وإن مرض قلوبهم هذا يحرمهم من الإيمان. والنوع الآخر مَن هم مستكبرون ، أي الذين إذا سمعوا البراهين على وحدانية الله استيقنتها قلوبهم، ولكنهم يأبَون الاعتراف بالحق بألسنتهم تعصبًا واستكبارًا، لأن إنكارهم للجزاء والعقاب قد جعلهم غير مبالين، فلا يرون في إنكار الحق حرجًا ولا ضررًا.

لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (24)

شرح الكلمات:

لا جَرَمَ: مِن جرَم يجرِم جَرمًا: قطَع: قال الفرّاء: هي كلمة كانت في الأصل بمنـزلة ’’لا بدَّ‘‘ و’’لا محالةَ‘‘، فجَرتْ على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القَسم وصارت بمنـزلة ’’حقًّا‘‘، وهو مأخوذ من معنى القطع (الأقرب).

التفسـير:

يعلن القرآن الكريم هنا أن البراهين المذكورة أعلاه إذ تدل على وحدانية الله ، فإنها تؤكد أيضًا على كونه عالِمَ الغيب، وأن الذي يعلم سرَّهم وعلانيتهم لا بد أن يجزيهم على أعمالهم؛ بيدَ أنه لن يعاقب الجميع على سواء، بل الذين كفروا بيوم البعث جهلاً سيكونون أخفَّ عقوبةً من الذين علموا أن التوحيد حق، ومع ذلك أنكروه عنادًا واستكبارًا؛ فقوله تعالى إنه لا يحب المستكبرين إشارة إلى أن الذين يكفرون عمدًا يستوجبون عقابًا أشدَّ.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

شرح الكلمات:

أساطير: سطَر الكاتبُ: كتَب. سطَر الرجلَ: صرَعه. سطَره بالسيف: قطَعه به. والإسطار والأُسطار والأُسطور والأُسطير: ما يُسطَر أي يُكتب، وتُستعمل في حديث لا نظام لـه، و(تُستعمل أيضًا) للحكاياتِ، جمعه أساطيرُ (الأقرب).

التفسـير:

لقد عاد الحديث هنا إلى الموضوع الأصلي مرة أخرى حيث يخبرنا القرآن أن منكري التوحيد والبعث حين يسمعون هذه البراهين لا يفكّرون فيها، بل يقولون: ما الجديد الذي يقدّمه هذا النبي؟ إنه ينقل ما كتبه الأولون من أمور تافهة لا قيمة لها.
لا شك أن ’’الأُسطور‘‘ يعني الكتاب والحكاية أيضًا، ولكن من الأفضل – نظرًا إلى السياق – أن نأخذه هنا بمعنى الكتاب، لأن هذه السورة لا تحكِي لنا قصص الأنبياء، وإنما تتناول بعض الأدلة والبراهين؛ فالمعنى أن أعداء الحق حين يسمعون هذه البراهين ويخافون أن يقتنع بها الناس فإنهم يقولون على سبيل الازدراء: ليس في هذه الأقوال من جديد، فقد سبق أن ذكر الأوائل في كتبهم مثل هذه الأمور التافهة؛ وذلك لكي يوهموا أتباعَهم أن ما يقوله النبي ليس من كلام الله ، وإنما نقل عن كتب الأولين، وكُنّا به عالمين ومن خطئه متأكدين.
الحق أن أعداء الحق وأئمة الكفر في كل عصر يلجئون إلى هذه الحيلة الملتوية. فحين يسمعون من أهل الحق أدلتهم القوية ويرون أنهم عاجزون عن دحضها يفرّون من المواجهة دومًا قائلين: على رِسلك يا فلان! ليس بيدك شيء معقول؟ إذ ما زال الناس منذ القدم يردّدون مثل هذه الأقوال السخيفة. فيَظل الجهال الذين يتبعون أعداءَ الحق هؤلاء غافلين عن قوة براهين أهل الحق، فرحين بأن ما يقول لهم نبيهم ليس بشيء جديد، فلا يمكن أن يكون من عند الله تعالى. وكأن كل ما ينـزل من عند الله يجب أن يكون شيئًا جديدًا، مع أن الواقع يخالف ذلك؛ لأن الهدف من نزول الوحي هو إحياء الحقائق السابقة التي تلاشت واختفت من العالم. لا شك أن الوحي يتضمن أيضًا بعض المعارف الجديدة وفق مستجدّات العصر، ولكن المبادئ التي يدعو إليها الأنبياء جميعًا هي موحَّدة مشترَكة بينهم، ومن خالَفَ تلك المبادئ وجاء ببدع فهو كاذب حتمًا.

الهدف من نزول الوحي هو إحياء الحقائق السابقة التي تلاشت واختفت من العالم. لا شك أن الوحي يتضمن أيضًا بعض المعارف الجديدة وفق مستجدّات العصر، ولكن المبادئ التي يدعو إليها الأنبياء جميعًا هي موحَّدة مشترَكة بينهم، ومن خالَفَ تلك المبادئ وجاء ببدع فهو كاذب حتمًا.

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (26)

شرح الكلمات:

أوزار: وزَره: حمَله. وفي اللسان: حمَلَ ما يُثقل ظهرَه من الأشياء المثقِلة. والوِزْر: السلاحُ لثقله على حامله؛ الحِملُ الثقيل، وجمْعُه أوزار (الأقرب)

التفســير:

يقول الله تعالى: لا جرمَ أن أعداء الحق ينجحون في خداع العامة بأقوالهم، ولكنهم يفسدون بذلك عاقبتَهم أكثر من ذي قبل، لأنهم سوف يعاقَبون على تضليل الآخرين بالإضافة إلى جزاء معاصيهم.
مع العلم أن اللام في قوله تعالى لِيحمِلوا هي لام العاقبة أي لبيان النتيجة، والمراد أن عذابهم المضاعَف نتيجةٌ للخداع الذي كانوا يلجئون إليه.
وقوله تعالى بغير علم متعلق بضمير (هم) الوارد في قوله يُضلّونهم ، والمعنى أن أئمة الكفر هؤلاء كانوا يُضلّون بأقوالهم أتباعَهم الذين كانوا بغير علم.. أي كانوا جاهلين. وليس المراد أن أئمة الكفر كانوا بسبب جهلهم يُضلون الآخرين، إذ صرحت الآيات السابقة أنهم يُضلّونهم تعصبًا وفسادًا لا غير.
ويمكن تفسير لفظ كاملةً بطريقتين: أولهما أن نعتبره متعلِّقًا بيوم القيامة، فيكون المعنى أنهم سينالون جزاء بعض أعمالهم في الدنيا، ولكنهم يُجزَون عليها كاملةً يوم القيامة. وثانيهما أن يكون متعلقًا بفعل لِيَحمِلوا ، فيكون المعنى أنهم سيحملون أثقال أعمالهم كاملةً من دون أن يُنقص منها شيء، ذلك أن المؤمن يستغفر اللهَ في الدنيا فيغفر له ذنوبه ويقلّ ثقلُه، ولكن هؤلاء المتكبرين يصرّون على الذنوب عنادًا، فلا يُحَطّ من ذنوبهم شيء، لذلك سوف يحملونها كاملةً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك