رب الأرباب وترك الأسباب

رب الأرباب وترك الأسباب

مصطفى ثابت

السيرة المطهرة (36)

تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبررا الأحداث الهامة من حياة حضرته المطهرة

ذكرنا في العدد السابق الشروط الواجب توفرها لتتحقق النبوءة العظمى التي ذكرها رسول الله والتي تذكر وقوع آيتين من السماء تصديقا لظهور الإمام المهدي الحق، وأوضحنا أن من آتاه الله شيئا من العقل يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء صدق سيدنا أحمد ، ولكن علماء السوء وأئمة الكفر من المخالفين والمعارضين من بين المولويين (جمع مولوي: الشيخ المتعصب) والمبشرين المسيحيين وعلماء الهندوس والآريا، أعماهم التعصب والعناد وأضلوا عامة الناس وخاصة أولئك الذين يجدون الأمان والاطمئنان في اتباع الغالبية من “أكثر الناس” ولذلك كان لا بد من وقوع آية أخرى من السماء تكون عقابا للمكذبين وتأييدا للصادقين”

وقد رأى سيدنا أحمد رؤيا في 6 فبراير (شباط) عام 1898، أي بعد مرور أربع سنوات على تحقق آية الخسوف والكسوف، ورأى في هذه الرؤيا أن ملائكة الله تغرس في مختلف نواحي البنجاب أغراسا سوداء، قصيرة الطول مهولة المنظر، حالكة اللون قبيحة الصورة. فسأل بعض الملائكة الذين يغرسونها عن ماهيتها، فقالوا هذه أغراس الطاعون الذي سيتفشّى في البلاد. وقد اشتبه عليه الموعد الذي حددته الملائكة لتفشي الطاعون، فلم يتذكر ما إذا كانوا قد قالوا في الشتاء القادم أو في الشتاء الذي يليه.

كذلك كان الإمام المهدي قد تلقى من قبل وحيا يقول: “إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، وتلقى أيضًا وحيًا آخر يقول: “الأَمْرَاضُ تُشَاعُ وَالنُّفُوسُ تُضَاع”. وقد فهم من هذا الوحي أن عقاب الله تعالى في صورة مرض أو وباء، يوشك أن ينْزل على المكذبين والمخالفين. فلما طغى المكذبون ونشروا فسادهم في البلاد، دعا الله تعالى أن ينـزل عليهم عقابه، وقد ذكر ذلك في قصيدة نشرها في أحد كتبه التي كتبها باللغة العربية، ووجّهها إلى أهل مكة المكرّمة، وفي نهاية الكتاب نظم قصيدة طويلة بدأها بهذه الأبيات:

دُمُوعِي  تَفِيضُ  بِذِكْرِ  فِتَنٍ أَنْظُرُ

وَإِنِّي أَرَى فِتَنًا كَقَطْرٍ يَّـمْطُرُ

.

تَـهُبُّ  رِيَاحٌ  عَاصِفَاتٌ  مُبِيدَةٌ

وَقَلَّ صَلاَحُ النَّاسِ وَالْغَيُّ يَكْثُرُ

.

وَقَدْ  زُلْزِلَتْ  أَرْضُ الْهُدَى زِلْزَالَهَا

وَقَدْ كُدِّرَتْ عَيْنُ التُّقَى وتُكَدَّرُ

.

وَمَا كَانَ صَرْخٌ يَصْعَدَنَّ إِلَى الْعُلَى

وَمَا مِنْ  دُعَاء ٍ يُسْمَعَنَّ وَيُنْصَرُ

.

فَلَمَّا  طَغَى  الْفِسْقُ  الْمُبِيدُ  بِسَيْلِهِ

تَمَنَّيْتُ لَوْ كَانَ  الْوَبَـاءُ الْمُتَبِّرُ

.

فَإِنَّ هَلاَكَ النَّاسِ عِنْدَ أُولِي  النُّهَى

أَحَبُّ وَأَوْلَى مِنْ ضَلاَلٍ يُخَسِّرُ

(حمامة البشرى، الخزائن الروحانية ج7 ص326)

إن الأنبياء عادة يرجون لأقوامهم النجاة من العذاب، ويبذلون قصارى جهدهم حتى يقبل الناس الحق ويُغيّروا ما بأنفسهم فيستجلبون رحمة الله عليهم. ولكن في بعض الأحيان، يخبر الله تعالى أنبياءه عن حتمية وقوع العذاب، لأن الناس لا يريدون أن يُغيروا ما بأنفسهم، بل يتّبعون الأغلبية ويلتزمون جانب “أكثر الناس”، فلا بد من إنزال العقاب حتى يرى الناس أين الحق وأين الباطل. وحين يدعو النبي على قومه لنُزول العذاب، فإنه لا يفعل ذلك من تلقاء نفسه، وإنما بعد أن يخبره الله تعالى أن العذاب قد تقرر. وقد دعا نوح على قومه فقال:

رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (نوح:27)

ودعا موسى على فرعون وقومه فقال:

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (يونس:89)

ودعا رسول الله على قومه أن يصيبهم القحط فقال: “اللهم… وابعث عليهم سنين كَسِنِي يوسف” (البخاري، كتاب الإكراه). لذلك ليس من المستغرب أن يدعو الإمام المهدي على قومه، خاصة وإن الله تعالى قد أنبأه بنُزول العذاب، وذكر هو في منظومته المذكورة عاليه، أن الفسق إذا طغى وصار كالسيل المبيد، يكون هلاك أولئك الفاسقين، في نظر أصحاب العقول والإدراك السليم، أحب وأولى من انتشار الضلال الذي يسبب الخسران.

كان وباء الطاعون في تلك الآونة قد بدأ ينتشر في أقاصي جنوب الهند، واتخذت الحكومة البريطانية إجراءات صحيّة حاسمة لمنع انتشاره، وأعلنت أن البنجاب التي تقع في شمال الهند خالية تماما من المرض. ولذلك، حينما أعلن سيدنا أحمد أن وباء الطاعون سوف ينتشر في البنجاب، قابل الناس إعلانه بالاستهزاء المعتاد، فقد كانوا يثقون في تأكيدات الحكومة الأرضية، ونسوا حاكم السماوات والأرض الذي أخبر نبيّه بقرب نزول العذاب.

وفجأة.. بدأت تظهر حالات الطاعون في البنجاب، ومع غروب شمس كل يوم كانت المستشفيات تتلقى عشرات ثم مئات ثم آلاف الحالات، وانتشر الطاعون بسرعة رهيبة كما تنتشر النيران في العشب الجاف، واتخذت الحكومة البريطانية إجراءات صحية مشددة، ومنعت السفر والانتقال حتى إن الحج مُنع أيضا، ولكن لم تستطع كل الإجراءات الصحية التي اتخذتها الحكومة أن توقف انتشار الوباء.

وتلقّى الإمام المهدي وحيًا يقول:

“إِنِّي أُحَافِظُ كُلَّ مَنْ فيِ الدَّار، إِلاَّ الّذِينَ عَلَوْا مِنِ اسْتِكْبَار”

وهذا يعني أن الله تعالى سوف يحفظ كل من في دار الإمام المهدي من لهيب هذا الوباء المدمّر. ثم تلقى وحيا آخر باللغة الأردية بما معناه أن النار خادم لنا بل هي خادم خدّامنا، وهذا يشير إلى أن العصمة من لهيب الطاعون، التي قدّرها الله تعالى للقاطنين في دار سيدنا أحمد ، سوف يعطيها أيضا للخدّام المخلصين من أتباع الإمام المهدي .

أمّا علماء السوء والمبشرون المسيحيون وأعداء الإمام المهدي من الهندوس والآريا وغيرهم فلم يرتدعوا، وصدّقوا دعايات الحكومة بأن الوباء سوف يتم القضاء عليه في أيام قليلة، وزعموا أن هذا الوباء قد أرسله الله ليقضي على مرزا غلام أحمد وعلى أتباعه، وأصدر الكثير من العلماء والمولويين نشرات وإعلانات، يتنبأون فيها بهلاك سيدنا أحمد في شهور قليلة.

وأخذ العامة من الناس يرقبون الموقف، فلو كان غلام أحمد كاذبا كما يصفه العلماء، ولو كان دجّالا مفتريا على الله كما يصمه كل المخالفين، فلا بد أن يُهلكه الله تعالى، ولا بد أن يُصيبه وباء الطاعون كما تنبأ بذلك الكثير من العلماء، الذين أصدروا ضده فتاوى التكفير. وأما إذا كان صادقا فسوف يعصمه الله تعالى من هذا المرض الفتاك، ويُحقق بذلك صدقه للناس.

كان من ضمن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمكافحة انتشار المرض، القيام بحملة واسعة لتطعيم المواطنين بالمصل الواقي من الطاعون. فتقدم سيدنا أحمد بطلب إلى الحكومة لإعفائه هو وأتباعه من التطعيم، وذكر أن هذا الوباء القاتل، إنما هو عقاب من الله تعالى للمكذبين والمخالفين، وأنه آية للناس ليروا بها مدى تأييد الله تعالى لعبده الإمام المهدي، وأنه قد وعد بعصمته هو وأتباعه المخلصين، فهم ليسوا بحاجة للتطعيم. وقد أضاف طلبه هذا المزيد من حملات الاستنكار والاستهجان من جانب المعارضين له، وكتبوا الكثير من المقالات ضده يستنكرون مسلكه، وقامت ضجّة كبيرة على صفحات الصحف والجرائد تنتقد هذا التصرّف وتدينه.

ولأن وباء الطاعون كان ينتشر بشكل سريع في مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا، كان هناك الكثير من الاهتمام العالمي بأخباره، وتناقلت الجرائد العالمية ما أعلنه الإمام المهدي في إشهاراته المختلفة، وذكرت أنه طلب من الحكومة إعفاءه هو وأتباعه من التطعيم. ووصل الأمر إلى مصر، وكان فيها في ذلك الوقت شاب يتزعّم حزبا سياسيا هو “الحزب الوطني”، الذي أنشأه للمطالبة باستقلال مصر من الاستعمار البريطاني، وكان هذا الشاب هو الزعيم المصري المعروف مصطفى كامل باشا، وكان الحزب الوطني يُصدر صحيفة اسمها جريدة “اللواء”، كان يتولّى تحريرها مصطفى كامل باشا. ولما نما إلى علمه أخبار الطاعون، والطلب الغريب الذي تقدم به سيدنا أحمد للحكومة، كتب في جريدة اللواء المصرية مقالا ينتقد فيه مسلكه، ويلومه لعدم الأخذ بالأسباب. ووصل مقال مصطفى كامل باشا إلى سيدنا أحمد ، فكتب كتابا باللغة العربية ردّ فيه على الاعتراضات التي أثارها مصطفى كامل باشا في مقاله، وسوف نذكر فيما بعد مقتطفات من هذا الكتاب الذي أسماه “مواهب الرحمن”، وكان الفصل الأول منه بعنوان: “اللواء وآية من السماء”.

مرّت الأيام.. ولم يتحقق ما زعمه علماء السوء عن هلاك سيدنا أحمد بالطاعون، بل الغريب أن واحدا بعد الآخر من هؤلاء العلماء والمولويين أنفسهم.. كان يسقط فريسة للمرض، ثم يودّع الدنيا ملوما محسورا. وبدأ بعض العقلاء من عامة الناس يرون بأنفسهم أن ما يقوله العلماء والمولويون لا يتحقق، بينما يعيش سيدنا أحمد في أمان تام من الطاعون. وشد الكثير منهم الرحال إلى قاديان ليبايعوا الإمام المهدي . ولكن المولويين والمبشرين المسيحيين الذين أعماهم الحقد والغيرة، لم يكفوا عن التطاول عليه، ووجدوا في امتناعه عن التطعيم سببا لتوجيه اللوم والنقد اللاذع إليه.

لم يُفكر هؤلاء للحظة واحدة.. أن هناك إلها قديرا يحوي ملكوته السماوات والأرض، وأنه سبحانه على كل شيء قدير. لم يعلم هؤلاء العميان أنه لو كان سيدنا أحمد.. حسب ظنهم.. كذابا مفتريا على الله تعالى، لأهلكه الله تعالى مهما كان قدْر وكفاءة وتأثير مصل الطاعون. لم يُدرك أولئك الجهال أن سيدنا أحمد كان يُرجع عصمته وحفاظته إلى الله تعالى، ويستدل بذلك على صدقه وحقيقة دعواه، فكيف يكون كاذبًا ويتركه الله تعالى آمنا، بل ويؤيده بهذا الشكل، وهو الذي قال في كتابه العزيز:

وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كّذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (طه:62)

وأكد سيدنا أحمد على أن الله سوف يحفظه هو وأتباعه المخلصين، وأن الأمن والسلام والعصمة في جانبهم وليس في جانب التطعيم، وطلب من مخالفيه أن يصبروا قليلا حتى يحكم الله بينه وبينهم في هذا الأمر.

ومرّت الأيام، وبدأت الشائعات تنتشر عن أخطار المصل الواقي من التطعيم، وقيل إنه يُسبب عقم النساء، وقيل إنه يسلب الرجولة من الرجال، وقيل إنه يسبب الكثير من الأمراض ويُضعف الإنسان. ولكن الإمام المهدي لم يتصرف كالمتلهف على إثبات صدقه، ولذلك لم يلتفت إلى تلك الشائعات، حيث لم تتوافر الأدلة المادية الكافية على صحتها، إلى أن شاء الله تعالى أن يكشف فساد رأي أولئك المولويين، ويفضح خطأ كلامهم، ويُثبت بالدليل القاطع صدق عبده الإمام المهدي . فإذا بالحكومة تعلن أنه قد حدث أن جاءت إحدى الحملات الصحية إلى بعض القرى لتطعيم أهلها ضد الطاعون، وما أن انتهت الحملة من عملها إلاّ وسقط العديد من الأهالي فريسة المرض، ومات البعض منهم. وقد انتشر الخبر بسرعة في البلاد مما اضطر الحكومة إلى إيقاف جميع حملات التطعيم.

وهكذا كشف الله تعالى فساد رأي المولويين، وأظهر آيات تصديقه لسيدنا أحمد ، وبسبب كل هذه التطورات، ولظهور كل هذه الآيات، استطاع الكثير من الناس أن يروا نور الحق، فدخلوا في دين الله أفواجا. وتلقى الإمام المهدي وحيا من الله يقول: “وَسِّعْ مَكَانَكَ وَلاَ تَسْأَمْ مِنَ النَّاسِ”. ففهم من ذلك أن الناس سوف يأتون إليه في أفواج وأعداد غفيرة، مسلمين مؤمنين قانتين، تائبين عابدين سائحين، سائرين وركبانا.

ولنذهب إلى كتاب: “مواهب الرحمن” الذي كتبه سيدنا أحمد وردّ فيه على اعتراضات مصطفى كامل باشا، ونرى كيف أوضح كل هذه الأمور.

يقول في الفصل الأول تحت عنوان “اللواء وآية من السماء”:

“قد اعترض علينا صاحب “اللواء”، عفا الله عنه وغفر له خطأه الذي صدر منه من غير عزم الإيذاء. قال: وردَت إلينا نشرة باللغة الإنكليزية متضمنة آراء المسيح الذي ظهر في بعض البلاد الهندية، وادعى النبوة، وادعى أنه هو عيسى، ليجمع الناس على دينٍ واحدٍ وليهديهم إلى سبيل التُّقى. وإنه زعم أنّ التطعيم ليس بمفيد للناس، واستدل بآيةٍ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا ، فانظروا إلى سقم هذا القياس.

ثم بعد ذلك قال صاحب اللواء: إن هذا المدعي يزعم أن ترك الدواء هو مناط التوكل على واهب الشفاء. وليس الأمر كذلك.. فإن الاتكال على الله تعالى هو العمل بمقتضى سنّته، التي جرت في خليقته، وقد أُمرنا في القرآن أن ندرَأ الأمراض والطواعين بالمداواة والمعالجات، ولا نجد فيه شيئا مما قال هذا الرجل من الكلِم الواهيات. بل الاتكال بالمعنى الذي يظن هذا المدعي هو عدم الاتكال في الحقيقة، فإنه خروجٌ من السنة الجارية الـمَحْسوسةِ المشهودة في عالَـم الخَلْق، وخلافٌ لآية: لا تُلْقُوا بِأَيدِيكُم إلى التَّهْلُكَة (البقرة:196)

هذا ما قال صاحب “اللواء” وما تَظنَّى. فالأسف كل الأسف عليه أنه اعترض قبل أن يُفتّش وتَجنَّى. ولما قرأتُ ما أشاعَ وأَمْلَى، قلتُ: يا سبحان الله! ما هذا الكذب الذي على مِقْوَله جرَى؟ وإني ما تفوهتُ قطُّ بهذا فكيف إليّ هذا القول يُعزَى؟ يطلبني في نياط وأنا على بساط، ويُبيّن ما فُهْتُ به بصورة أُخرى.

فأقول: على رِسْلِك يا فتى.. ولا تَعْزِنِي إلى قولٍ ما أتعزَّى. ومن حُسْن خصائل المرءِ أن يُحققَ ولا يعتمد على كلّ ما يُروى. فاتق الله يا من يُجرّح جِلْدتي ويُشهّر منقصتي، وتعال أقصّ عليك قصتي، واسمع مني معذرتي، ثم اقض ما أنت قاض، واخْطُ خطوة التقى، واسلُكْ سبيل التقوى، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ولا تتبع الهوى.

إني امرؤ يكلّمني ربي، ويُعلّمني من لدنه، ويحسن أدبي، ويوحي إلي رحمة منه، فأتّبع ما يُوحى، وما كان لي أَنْ أترك سبيله وأَخْتارَ طُرقًا شَتّى. وكلّ ما قُلتُ قلت من أمره، وما فعلت شيئًا عن أمري، وما افتريت على ربي الأعلى، وقد خاب من افترى”. (مواهب الرحمن، الخزائن الروحانية، ج19، ص219-221)

ثم بين أن الله لا يتقيد بالأسباب فقال: “أتعجب من هذا؟ فلا تعجب من فعل القدير الذي خلق الأرض والسَّماوات العُلى، وإنه يفعل ما يشاء، ولا يُسْأل عما قضى. وعندي منه شهادات كثيرة، وإنه أرى لِي آياتٍ كُبرَى، وله أَسْرارٌ في أنباء وحيه الذي رزقني ورُموزٌ لا تُدركها عقول الورى. فلا تُمارِني في ترك التطعيم، ولا تكن كمثل من أغفل الله قلبه فاتّخذ أسبابه إلـهًا وكان أمره فُرُطًا. ولكلِّ سببٍ إلى ربّنا المـُنْتهَى، ويَفْنى السبب بعد مراتب شتَّى. ثم تأتي مرتبة الأمر البحت لا يشار فيه إلى سبب ولا يومى، ويبقى الله وحده وتُقْطَع الأسباب وتُمحى. وليس للأسباب إلا خطواتٌ، ثم بَعْده قدرٌ بَحْتٌ لا يُدْرَك ولا يُرى، وخزائن مخفية لا تُحَدّ ولا تُحْصى، وبحرٌ لا ساحل له، ودَشْتٌ نَطْناطٌ لا يُمْسَح ولا يُطْوى. أعُطّلتِ القدرةُ البحتُ وبقي الأسباب؟ تلك إذا قسمة ضيزى!

أَلا تعلم كيف خلق الله آدم وعيسى، وتتلو ذكرهما في القرآن ثم تنسى؟ أنسيت قصة الكليم وفلق البحر العظيم، إِذْ أَجاز البحر وأُغرِقَ فرعون اللئيم؟ فبَيِّنْ لنا أي فُلْكٍ كان ركِبه موسى؟ وما قص الله هذه القصص عبثًا بل أودعها معارف عُظمى، لتَعلمُوا أَنّ قدرة الله ليستْ مُقيّدةً في الأَسباب، وليزداد إيمانكم وتفتح عيونكم وتنقطع عروق الارتياب، ولتعرفوا أن ربكم قديرٌ كاملٌ ما سُدَّ عليه باب من الأبواب، ولا تنتهي قدرته ولا تبلَى. ومن أنكر سعة قدرته وقيّدها بسببٍ لقلة فطنته فقد خرّ مِن ذُرَى الصدقِ وهوى، وكان خروره أصعب وأَدْهى. فلا تسُبّ الذين يتركون بعض الأسباب بأمر الله الوهّاب، ولا تُقيِّدْ سنن الله في دائرةٍ أضيق وأغسى”. (المرجع السابق ص221-223)

وبيّن حضرته أن الأسباب مدخل للشرك فقال: “اعلم أن الأسباب أصل عظيم للشرك الذي لا يُغْفَر، وأنها أقرب أبواب الشرك وأوسعها للذي لا يحذر، وكم من قوم أهلكهم هذا الشرك وأردى، فصاروا كالطبعيين والدهريّين، يضحكون على الدّين متصلفين ومستكبرين، كما تشاهد في هذا الزمان وترى. ولا نمنع من الأسباب على طريق الاعتدال، ولكن نمنع من الانهماك فيها والذهول عن الله الفعّال، ومَن تمايل عليها كل التمايل فقد طغى. ثم مع ذلك إن كان ترك الأسباب بتعليم من الله الحكيم، فهِيَ آية من آيات الله الجليل العظيم، وليس بقبيح عند العقل السليم، وقد سمعتَ أمثالها فيما مضى”. (المرجع السابق ص223-224)

وأوضح أن الأسباب خُلقت للأولياء فقال: “واعلمْ أن لأولياء الله بعضَ أفعال لا تدركها العقول، ولا يعترض عليها إلا الجهول. أنسيت قصّة رفيق موسى وهي أكبر من قصّتي كما لا يَخْفَى؟ إنّه قتل نفسًا زكيّةً بغير نفس، ومُنِع فما انتهى، وخرَق السفينة وظُنّ أنه يُغرق أهلها وجاء شيئا إِمْرا.

ثم ههنا نكتة لطيفة وهو أنّ الأسباب خُلقت للأولياء، ولولا وجودهم لبطلت خواص الأشياء، وما نفَع شيء من حيل الأطبّاء، وأنهم لأهل الأرض كالشفعاء، وأن وجودهم حِرْزُهم، ولولا وجودهم لمات الناس كلّهم بالوباء. فليس الدواء في نفسه شيئا، بل يأتي الفضل من السماء، كما قال لي ربي في وحي منه: “لولا الإكرام لهلك المقام”، وإن في ذلك لعبرة لمن يخشى. ثم جرت عادة الله أنّ بعض الناس يُبْتَلون بكَلِمِ أوليائه ولا يتدبرون ولا يفهمون، ويُضل الله بهم كثيرا، ويهدي بهم كثيرا، وكذلك قَدَّر وقضى. ولا يَضلّون إلا الذين في قلوبهم كبرٌ فهُمْ لكبرهم ينطَحون، ولا يخافون يوم الحساب، ويصرّون على ما يقولون، وما لهم بِهِ علم ولا يتّقون، ويسبّون رسل ربهم بغير علم ويعترضون على قولهم الأَخْفى. ولا يُهْدَونَ إلى نورهم لِشقْوةٍ سبقت، ولذنوب كثرت، ولمعاصٍ بلغت إلى المنتهى. فلا يَرون إلا عيوبهم ولا يُوفَّقون، ويُغشّي الله أبصارهم لئلا يبصروا، ويُصمّ آذانهم لئلا يسمعوا، ويختم على قلوبهم لئلا يفهموا، فينظرون إليهم وهم لا يبصرون. ذلك بما قدمت أيديهم وبما تمايلوا على الدنيا، وداسوا تحت أقدامهم دَار العُقْبى. يسبّون ولا يظلمون إلا أنفسهم ويُبارِزون الله الأغنى. وإنْ سبُّهم إلا حسرةٌ عليهم وحفرةٌ من النّار، فيقربون الحُفرة ظلمًا وطغوى، ومن دنا منها فقد تردَّى”. (المرجع السابق ص224-226)

ثم بين أن الله تعالى قد أرى على يديه أكثر من مائة ألف آية فقال: “يقولون ما رأينا من آية وما رأينا من أمرٍ عجيب. يا سبحان الله! ما هذه الأكاذيب؟ ما لهم لا يخافون أيام الحسيب؟ وقد رأوا منّي أكثر من مائة ألفٍ آياتٍ وخوارقَ ومعجزاتٍ، فنَسِيَ كل منهم ما رأى. فكيف إذا سُئِلوا يوم القيامة وكُشِفَ ما كتموا، وأتوا ربهم بنفسٍ تتعرَّى؟ وإنّ لعن الصادقين المرسلين ليس بِهَيِّنٍ، فسوف يرون ثمرة ما يبذرون، ويرون من أُخِذَ ومن نجا. وإن الله يأتي ينقُص الأرضَ من أطرافها، فيُري الفاسقين ما أرى في قرونٍ أُولى. وإن لحوم أوليائه مسمومة، فمن أكلها بالاغتياب والبهتان عليهم فقد دعا إليه الردى. وسيبدي السمّ آثاره، ولا يفلح الفاسق حيث أتى. وإن الله غيور لنفوسهم كما هو غيور لنفسه، فلا يترك من عادى، فانتظروا المدى. وإنّ أَشقى الناس من عاداهم وإن أَسْعدَهم من وَالَى”. (المرجع السابق ص226)

إني من عند الله

وأكد أنه يقينا من عند الله فقال: “وإنّي والله من عنده، وهو لي قائم، فما رأيك أيها العزيز.. أتقبل أو تأبى؟ وما أنكرني إلا الذي خاف الناسَ، أو كان من الذين يستكبرون، أو ما فكّر حَقَّ فكره، فتخلَّفَ مع الذين يتخلّفون، أو لم يصبر على ما ابتلاه به الله، فعثر وصار من الذين يهلكون.

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنون

وقد ردِف الابتلاء نفوسَهم وأموالهم وأعراضهم، ليعلم الله أنهم كانوا يصدُقون وما كانوا كحَطَبٍ يتشظى.

ثم اعلم أيها العزيز، أني لستُ كرجل يخالف الأسباب من تلقاءِ نفسه ويسلك مسلك الحمقى، بل أعلم أن رعاية الأسباب شيء لا يُتْرك ولا يُلْغَى إلا بعد إيحاء الله الوهاب، وما كان لبشر أن يترك الأسباب من غير وحي انجلى. فلا تعجَلْ عليّ من غير بصيرة، ولا تجعلني دَرِيّةً لرماحك وغرضًا لعائر يُرْمَى. إنك لا تعلم دخيلة أمري وخَبِيءَ باطني، فليس لك أن تَزْرِيَ قبل أَن تدري، وكذلك من السعداء يُرْجَى.

وقد أرسلني ربّي الذي لا يترك المخلوق سدى. وإنّي واللهِ صدوق وما كُنْتُ أن أتمنّى­، ففَكِّرْ وكذلك من الكرام أتمنَّى²، ولا تجادِلْني في ترك التطعيم، وقُلْ رَبِّ زِدْنِيْ عِلْمًا. وللهِ تصرّفاتٌ في مخلوقه بالأسباب ومن دون الأسباب ويعلمها أولو النهى. بل هذا كاللُّب وذاك كالقَشْر، فلا تقنع بالقشر كالقَدريّة، واطلُبْ سرَّ أقداره ليُعْطَى”. (المرجع السابق ص226-228)

وأوضح بعض صفات الله تعالى وأنه على كل شيء قدير فقال: “إنّ الله يفعل ما يشاء، ولا تُدْركه الأَبْصار، ولا تحدّه الآراء، ولا يحتاج إلى مادةٍ وهَيُولَى. وإنّه قادرٌ على أن يشفي المرضى من غير دواءٍ، ويخلق الوُلْدَ مِنْ غَيْرِ آباءٍ، ويُنْبِت الزّرع مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْقَى. وما كان لدواءٍ أن ينفع من غير أَمْر ربّنا الأَعْلى. يودع التأثيرَ فيما يشاء، وينـزع عما يشاء، وله الأمر في الأرض والسماوات العُلَى. ومن لم يؤمن بتصرفه التّام، ولم يعرف أمره الذي لم يأبه ذرّة من ذرّات الأنام، فما قدَره حق قدره، وما عَرفَ شأنه وما اهتدى. ومَن ذا الذي حَدَّ قوانينَ قدرته، أو أحاط علمُه بِسُنّته؟ أتعلم ذلك الرجل على الأرض أو تحت الثرى؟

أتقول كيفَ تُبْرَأُ المرضى بغير دواءٍ.. ذلك أَمْرٌ بعيد؟ وقد بَرَأَك الله ولم تكُ شيئًا، ثم يُفني ثم يُعِيد، وذاك فعلٌ قد جرى فيك فكيف عنه تحيد؟ فاتق الله ولا تُنكر قدرته العظمى. وإنّ الطاعون تَرمي بشررٍ يُقعِص على المكان، فبأيّ دواءٍ يُرْجى الأمان؟ وإنّ الدواء ظنون، والظنّ لا يغني من الحقّ يا فتيان. أتذكر التطعيم؟ وإنّه شيء لا يغني من لَهَبٍ بسَط جناحه على جميع البلدان، فما عندكم من تدبير يمنع قضاء السماء ويردّ هذا الثعبان. وإنها بليّة ترى القوم منها صَرْعى. وقد ضل الذين زعموا أنهم أحصوا سنن الله وأنهم بقوانينه يحيطون. سبحانه وتعالى عما يصِفون! وإن هم إلا كَالعُمْي أو أضَلُّ سبيلا. بل الحق أنّ سُنّته أَرفع من التحديد والإحصاء، وله عادات، فيخرق بعض عاداته للأحبّاء والأتقياء، ويُبدي لهم ما لا يُتصور ولا يُرى. ولولا ذلك لشَقِيَ طُلابُه، ونُكِّرَ جنابُه، ومات عُشّاقه في الحُجبِ والغشاءِ والعمَى. وواللهِ لولا خرق العادات لضاعت ثمرات العبادات، وماتت عبادُه تحت مكائد أهل المعاداة، ولصَار المنقطِعون خاسرين في الدنيا والأخرى، ولضاعت نفوسُهم مِنَ الهِجْران، وماتوا وما لهم عينان، وما كان أحد كمثلهم أَشقَى. وإنّ الله جَنّتهم وجُنّتهم، وإنهم تركوا له عيشهم وراحتهم، فكيف يتـرك الحِبُّ مَن كان له؟ بل يسعى فضله إلى من مشى. والخلق عُمْيٌ كلّهم لا يعرفون أولياءه، فيعرّفهم بآياتٍ يجلّيها كالضحى. ولولا ترك العادات.. فما معنى الآيات؟ ألا تُفكّرون يَا وُلْدَ المسلمين وأمّةَ نبيِّنا المصطفى عليه سلامُ الله إلى يوم تَرى الناسَ فيه سُكارى ومَا هم بسُكارَى.

يقولون ما رأينا من آية وما رأينا من أمرٍ عجيب. يا سبحان الله! ما هذه الأكاذيب؟ ما لهم لا يخافون أيام الحسيب؟ وقد رأوا منّي أكثر من مائة ألفٍ آياتٍ وخوارقَ ومعجزاتٍ، فنَسِيَ كل منهم ما رأى. فكيف إذا سُئِلوا يوم القيامة وكُشِفَ ما كتموا، وأتوا ربهم بنفسٍ تتعرَّى؟ وإنّ لعن الصادقين المرسلين ليس بِهَيِّنٍ

وإنّ إلهنا إِلَهٌ واحِدٌ قَديمٌ أزَليٌّ، وقد كفَر مَن شَكَّ وبالسوء تَظنَّى. ولكنه مع ذلك يتجدّد لأَصْفيائه، ويبرُز في حُلَلٍ جديدةٍ لأوليائه، كأنّه إله آخرُ لا يَعْرِفه أحَدٌ من الوَرَى، فيفعَلُ لهم أَفعالاً لا يُرى نظِيرُها في هذه الدنيا. ولا يخرق عادته إلا لِمَنْ خرَق عادته وتزكَّى، ولا ينـزلُ لأحدٍ إلا لِمن نـزل من مركب الأمّارة ورَكِبَ الموتَ لابْتغاء الرضَى، وخرّ على حضرته وأحرق جذبات النفس ومحا. وإنّه يُبدِّل عاداته للمُبدِّلين، ويتجدّد للمتجددين، ويهَب وجودًا جديدا لمن فنَى. وهذا هو المطلوب لكل مؤمن.. ومن لم ير منه شيئا فما رأى. وإنه يتجلّى لِعبادهِ المنقطعين بقُدرةٍ نادرةٍ، ويقوم لهم بعنايةٍ مُبتكرة، فيُري لهم آياتٍ ما مَسَّها أحد وما دنا. وإذا أقبلوا عليه بتضرع وابتهال، سعى إليهم ونجّاهم من كلّ نكال ومِنْ كُلِّ مَن آذى. وإذا اسْتفتَحوا بجُهْدهم وإقبالهم على الحضرة، قُضِيَ الأَمْر لهم بخرق العادةِ، وخاب كلّ من آذاهم وما اتّقى. وكيف يستوي وليُّ الله وعدوّه.. ألا ترى؟ الذين طحِنتهم رحى المحبّة، ودارت عليهم لِحِبّهم أنواعُ دَورِ المصيبة، فهم لا يُهْلكون. ولا يجمع الله عليهم موتين.. موتٌ من يده وموتٌ من يد عدوّه.. لئلا يضحك الضاحكون، وكذلك مِن بدءِ خلقِ العالم قضى. إنْ يُهْلِكهم فهم عباده.. وإنْ ينصُرْهم فما العدوّ وعناده؟ وإنه كتب لهم العزّ والعُلَى. قوم أخفياء تحت ردائه، لا يعرفهم الخلق من دون إدرائهِ، واللهُ يعرفُ ويرى. فيقوم لهم كالشاهدين، ويُري لهم آياتٍ في الأرضين، ويهدي من يبتغي الهدى. ويتجالد لهم العدا، ويخلق لهم أسبابا لا يخلق لغيرهم، ويأمر ملائكه ليخدموهم بإِيصال خيرهم، فينصر عبده من حيث لا يُحْتسب ولا يُتظنّى”. (المرجع السابق ص228-232)

من الذي لا يضره ترك التطعيم

وتحدث حضرته عمن ينفعه ترك التطعيم فقال: “أتلومني لترك الأسباب مع أنني أُمرتُ من رب الأرباب. فلا أعلم على ما تلومني.. ما لك تُبصر ثم تتعامى. وإني ما أمنع الناس من التطعيم، ولا ينفع تركه إلا إيّايَ ومن اتبعني بقلبٍ سليم، وعمِل عملا صالحًا لرضى الرب الرحيم، وانسلخ من نفسه كما تنسلخ الحيّة من جلدها، وبَعُدَ مِن كل إثم وأثيم، أولئك الذين حُفظوا من هذا اللظى. أنسيتَ عجائب أمره تعالى في خلقِ المسيح وحفظِ الكليم وخلقِ يَحْيى؟ أو تزعَمُ أن ربَّنا ليس بربٍّ كان في قـرونٍ أُولى؟ أتظنّ أنّ موسى عند عبوره من غير السفينة ألقى نفسه وقومه إلى التهلكة؟ ولا بد لك أَنْ تُؤمن بهذه الواقعة، وتقرّ بأنّ موسى ما ركب الفلك وما أوى إلى جَسْرٍ لرعاية الأسباب المعتادة العادية، وتَرَكَ محلّ الأَمَنة وترَك سُنَن اللهِ وعصَى. ففَكِّرْ أيها الذي سللتَ عليّ المـُدى، أليس هذا محل الزراية كما أنت عليّ تتزرّى؟ أتعلم كم من سفائن جمَع موسى على البَحْر لرعاية الأسباب؟ فأَخْرِجْ لنا إن كنت قرأت في الكتاب، ولا تَهِمْ في وادي الهوى. ذلك ما عُلِّمْنا من كتاب الله، فلا أَعْلم إلى أَين تتمشَّى، ومِن أين تتلقَّى. ما نَجِدُ في صُحف الله بيانك وما نَرى”. (المرجع السابق ص232-234)

وقد ذكر أن الكذاب لا يمكن له أن يفتري على الله في مثل هذه الظروف فقال: “أتعجب مِنْ آيات الله، وكان الله على كلِّ شيءٍ مُقْتدِرا؟ أَلا ترى أنّ نار الوباء مشتعلة، وموت الناس كالقلاص متتابعة، والطاعون في الاقتناص لا يغادر ذَكرًا ولا أُنْثَى؟ فلو كنتُ كذوبًا لأخذني رُعب العقوبة، وما اجترأتُ على مثل هذا عند هذه الطوائف المخدوبة والخليقة المشغوبة، ولو كنتُ متقوّلا ومزوّرا لإراءة الكرامة، ما كانت لي جرأة أن أتفوّه بكلمة عند قيام هذه القيامة. وإنّ غضب الله شديد ترتعد منه فرائص المـَلأ الأَعْلَى، وما كان لكاذب أَن يَفْتَري على حضرةِ الكِبرياء، في وقتٍ تُرْمَى النّار مِنَ السَّماءِ، ويُقْعَص الناس على المـَثْوى، ويُمسي إنسانٌ حيًّا ويصبحُ فإذا هو من الموتى. أَعند هذا القعاص يُفتي العقل أَنْ يقوم أحد كالخَرّاص، ويفتري على قديرٍ يعلم ويرى؟ أليس العذاب قام أمام الأعين وشاع في القُرَى؟ ودُعِيَ الناس من كل قوم لهذا القِرَى؟

وإنِّي بُشِّرتُ في هذه الأَيّام مِن ربّي الوهّاب، فآمنتُ بوعده ورَضِيت بترك الأسباب، وما كان لي أَن أَعصِيَ ربي أو أشكّ فيما أَوحى. ولا أبالي قول الأعداءِ، فإن الأرض لا تفعل شيئًا إلا ما فُعِلَ في السماءِ. وإنّ معي ربي فما كان لي أن أفكر فكرا، وإنّه بشّرني وقال: “لا أُبقي لك في المخزِيات ذكرًا”، وقال: “يعصِمك الله من عنده”. وهو الولي الرحمـن، وإنْ يُعْزَ حُسنٌ إلى سوادٍ فيتراءى الحُسنانِ. هذا ربّنا المـُستعَان، فكيف نخاف بعده أهل العدوان؟ فلا تُعيّرني على ترك التطعيم، وإنَّ رَبّي بكلّ خَلقٍ عليمٌ.

ألا تعلم ما جرى على أُمّ موسى إِذْ أَلْقت طفلها في البحر وقلبها تتشظّى، وآمنتْ بوعد ربها وما وهَنتْ كمَنْ تظنّى؟ أتعلم بأيّ دواءٍ كان عيسى يبرئ الأكمه والمبروص؟ فتصفَّحِ الفرقان والصحيحَينِ وأَرِنا النصوص، أو أَخْرِجْ لنا كتابًا آخر مِنْ كتُبٍ أُولى. أتكفيكَ هذه الشواهد أو نأتيك بأمثالٍ أُخرى؟ فَإِنْ فكّرتَ فيما تلوتُ عليك من الأمثال ذكرا، فستعلم أنّك قد بلَغت منّي عُذْرا، هذا.. وسأكشفُ علَيْكَ أمرًا لم تستطِعْ عليه صبرا”. (المرجع السابق ص 234-236)

­  أي أفتري: يقال تمنى أي كذب ووضع حديثا لا أصل له. (الناشر)

²   أي أرجو. (الناشر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك