إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

من الشيوخ إلى الشبان

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعاً التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع القارئ اليوم بعضاً من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

لا نستطيع أن ننكر عليكم معشر الأبناء أن شبابكم أعظم قوة ونشاطًا، وأبعد همة، وأقوى عزيمة، من شيخوختنا، وأن أيدينا الشاحبة المعروقة لا تستطيع أن تصل إلى ما تصل إليه أيديكم الفتية المقتدرة، وأن آراءكم وأفكاركم وجميع تصوراتكم وآمالكم التي تتلون بها شبوبيتكم أكثر حدة وحرارة، وأبعد غورًا وعمقًا، من آرائنا وتصوراتنا، ولكن الذي ننكره عليكم ونعتب عليكم فيه أشد العتب هو زرايتكم علينا، واحتقاركم لنا، ورميكم إيانا بالجمود مرة، وبالخرف أخرى كلما اختلفنا معكم في شأن من الشؤون، كما أننا ننعي عليكم كبرياءكم وخيلاءكم بأنفسكم هذا الاعتداد العظيم الذي يخيل إليكم معه أن هذه الألوان الجميلة التي تتلون بها حياتكم الحاضرة إنما هي خاصة بكم، ووقفٌ عليكم، لم تمر بعصر غير عصركم، ولم يزه بها شاب غير شبابكم، وأنكم أنتم أصحاب الفضل الأول في ابتكارها واختراع عذرتها، ولو أنكم استطعتم أن تحملوا أنفسكم على الروية والأناة، وأن تنتقلوا بأنظاركم من الحاضر إلى الماضي -وإن لم يكن ذلك من طبيعة الشباب ولا من خصائصه- لعلمتم أن هذا العهد الذي يمر بكم اليوم، والذي تفاخروننا به وتدلون علينا بأحلامه وأمانيه؛ وتصوراته وخيالاته مر بنا مثله في زماننا، فقد كان لنا شباب مثل شبابكم نتصور فيه كما تتصورون ونفكر كما تفكرون، ونردد في أنفسنا وأحاديثنا وعلى نسلات أقلامنا جميع هذه الآراء والأفكار التي ترددونها اليوم، حتى انطوى ذلك العهد، وزالت معالمه، وهدأت على أثره تلك الثورة النفسية الهادئة التي كانت تعترك بين جوانحنا ودخلنا غمار الحياة الحقيقية حياة الجد والعمل والنظر والتأمل، والخبرة والتجربة فاستطعنا أن نرجع إلى نفوسنا، ونثوب إلى رشدنا، وأن نهبط بهدوء وسكون إلى أعماق قلوبنا ونستعرض تلك الآراء والأفكار، والأحلام والآمال، بإمعان وتدقيق، فاستطعنا أن نميز صالحها من فاسدها، وصادقها من كاذبها ومعقولها من موهومها، وأن نقلب الأشياء على جميع وجوهها ونرى وجوه الحسن فيها ووجوه القبح، ونوازن بين هذه وتلك، فأخذنا بما أربت حسناته على سيئاته، وأطرحنا ما زادت سيئاته على حسناته فلا فضل لكم في الحقيقة في هذا الذي تزعمون أن لكم الفضل فيه وحدكم من دون الناس جميعًا، وإنما الفضل للشباب ومزاجه وطبيعته وحدته ولا علاقة للعلم والجهل والذكاء والغباوة والتقدم والتأخر بشيء من ذلك. وللشاب خصائص كثيرة وصفات متعددة، وأخص صفاته قصر النظر، وسرعة الحكم، والعجز عن إحكام الصلة بين أدوار الزمان الثلاثة ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو لا يستطيع أن يتصور تصورًا ثابتًا متينًا أن الماضي أساس الحاضر ومنبع وجوده، لا يشرق إلا من مطلعه، ولا ينبت إلا في تربته، وإن المستقبل بيد الطبيعة القاسية وقوانينها الصارمة، وليس أقرب إليه من أن يتصور أن في استطاعته أن يمحو بيده في لحظة واحدة وجه الكون بأرضه وسمائه، ثم يخلقه خلقًا جديدًا على الصورة التي يريدها ويتصورها، وإن في إمكانه أن يحيل الترب أمواها، والأمواه تربًا، وأن يحجب بيده وجه الشمس فلا ينبعث لها شعاع إلا بإرادته، وأن يرغمها متى أراد أن تمزق حجاب الليل وتبرز في سمائه، ولا يزال يتخبط في أمثال هذه التصورات والأحلام التي لا فائدة فيها ولا نتيجة لها حتى تطلع في رأسه أول طليعة من طلائع الشيخوخة فتهدأ ثورته، وتفتر حدته، ثم لا يلبث أن يسقط جاثيًا بين يدي القوة الإلهية والقوى الطبيعية معترفًا بعجزه وقصوره وفراغ يده من كل حول وقوة هاتفًا: إن للكون إلهًا لا أستطيع محادته، وللطبيعة سنة لا أستطيع تبديلها.

كنا نفكر كثيرًا في شأن المرأة كما تفكرون اليوم، ولا نجد حديثًا ألذ ولا أطرب من الحديث عنها، وكنا لشدة إعجابنا بها، واهتمامنا العظيم بترفيهها وتدليلها، والوقوع من نفسها موقعًا جميلاً ندافع عنها ضد أنفسنا، ونطلب لها من النفوذ والسيطرة علينا أكثر مما تطلبه لنفسها، ونتمنى بجدع الأنف لو أننا رأيناها متمتعة بالحرية إلى أقصى حدودها، فتتبرج كما تشاء وتسفر كما تريد وتجلس إلى الرجل جنبًا لجنب في المجتمعات العامة والخاصة، دون أن يعارضها معارض، أو يُكدر عليها صفوها مكدر.. وكنا نظن أن هذه الآراء آراء حقيقية راسخة في نفوسنا، صادرة من أعماق قلوبنا، ثم علمنا بعد ذلك أننا كنا مخدوعين فيها، وأنها آراء الشباب وخواطره وأحلامه وتصوراته، ولا يثقل على الشباب في ريعانه شيء مثل ذلك الحجاب المسبل على وجه المرأة، وذلك الجدار القائم بينها وبينه.

وكنا نبتهج بكل جديد كما تبتهجون، وننفر من كل قديم كما تنفرون ونعد الأول آية الآيات مهما سخف واستبرد، والثاني نكبة النكبات مهما غلت قيمته ونفس قدره، لا لأننا وازنّا بينهما، وفاضلنا بين مزاياهما فحكمنا عليهما، بل لأننا كنا قرب عهد بزمن الطفولة، والطفل سريع الملل كثير السآمة، لا يصبر على لعبته أكثر من يوم ثم يملها فيكسرها ويستبدل منها.

وكنا مولعين بالتقليد ولعكم به، لا نكاد نعرف لأنفسنا صورة خاصة ترتكز عليها أعمالنا في الحياة، بل كانت تمر بنا جميع الصور على اختلاف أنواعها وألوانها فنلتقطها بأسرع مما يلتقط “الفلم” صوره، كأن فضاء حياتنا معمل لتجارب الحياة واختباراتها. وكان العارف منا بلغة أجنبية لا يلبث أن يفتتن بها وبأصحابها افتتانًا شديدًا ربما حمله على احتقار لغته وتاريخها، فيرتفع عن ذكر رجالها وعظمائها في أحاديثه واستشهاداته، ويسخر منهم كلما جرى ذكرهم على لسان أحد غيره لا لأنه يفهمهم أو يفهم غيرهم، بل لأنه كان بسيطًا غريرًا يحتقر كل ما في يده، ويستعظم كل ما في يد غيره.

ولم نعرف إلا بعد زوال ذلك العهد أننا كنا مخطئين في جميع هذه التصورات والأفكار، وأنها لم تكن عقائد راسخة في نفوسنا بل أشباحًا وصورًا تتراءى في حياتنا، فنعجب بها، ونستطير فرحًا وسرورًا بجمال منظرها وبهجة ألوانها فأصبحنا معتدلين في آرائنا متئدين في أحكامنا، نحب حرية المرأة ولكنا نكره فسقها وفجورها، ونأخذ مواد المدنية والحضارة من الأمم المتمدنة ولكنا لا نقلدها، ونحن نحب أدب الغربيين ونعجب بأدبائهم وعلمائهم، ولكنا لا نحتقر من أجل ذلك رجالنا وتاريخنا.

نحن لا نطلب منكم معشر الأبناء وأنتم في ثورة الشباب ونشوته أن تكونوا معتدلين متئدين في أحكامكم وتصوراتكم، أو هادئين في مطامعكم وآمالكم، فليس من الرأي أن نطلب عندكم ما لم نكن نطلبه عن أنفسنا، ولكن أمرًا واحدًا كنا نحرص عليه في عهدنا أشد الحرص هو الذي عليكم أن تحرصوا عليه مثلنا، وتضنوا به ضننا.

كنا نعتقد مثلكم أننا خير من آبائنا وأجدادنا، وأوسع منهم علمًا وأقوى إدراكًا، وربما اعتقدنا في الكثير منهم كما تعتقدون فينا اليوم أنهم جاهلون أو مخرفون، أو متأخرون أو جامدون، إلا أن ذلك لم يكن يمنعنا من أن نحفظ لهم منزلة الأبوة وكرامتها فلا نلقبهم بلقب من هذه الألقاب التي تلقبوننا بها؛ ولا نذكرهم في حضورهم أو غيبتهم بكلمة سوء تنغص عليهم ما قدر لهم أن يقضوه بيننا من أيام حياتهم، وكان شأننا معهم في بِرّهم وإكرامهم واحترام عقائدهم ومذاهبهم مع اتساع مسافة الخلاف بيننا وبينهم شأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق إذ كان مسيحياً فأسلم وحسن إسلامه، وكان أبوه لا يزال على دينه فطلب إليه أن يبني له بيعة في قصره يقوم فيها بأداء واجباته الدينية فبناها له كما أراد ولم ينع عليه شأنًا من شؤونه طوال أيام حياته حتى ذهب إلى ربه.

ذلك ما نضرع إليكم فيه أن تحفظوه لنا كما حفظناه من قبلكم لآبائنا وأجدادنا واذكروا أن سيأتي عليكم ذلك اليوم الذي أتى علينا، وأنكم ستكرهون فيه أن يعاملكم أبناؤكم وأحفادكم بمثل ما تعاملوننا به اليوم، فاتقوا الله فينا وفي شيخوختنا فنحن آباؤكم الذين ولدناكم -وأساتذتكم آباؤكم- أن ترموهم في وجوههم بالجهل والجمود، وما هم بجاهلين ولا جامدين ولكنهم شيوخ عاجزون.

(النظرات، الجزء الثالث)

Share via
تابعونا على الفايس بوك