الرحيل.. والقدرة الثانية

الرحيل.. والقدرة الثانية

مصطفى ثابت

تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مُبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياة حضرته المطهرة.

الفصل الخامس عشر

مهما طالت الحياة الإنسانية فهي حتمًا إلى نهاية، ومهما امتد العمر بالإنسان فهو لا بد أن يذوق الموت. وهكذا كتب الله على كل نفس أن تموت، وهكذا قدر الله لكل حيٍّ. ففي منتصف العقد الأول من القرن

العشرين.. جاء الوحي إلى سيدنا أحمد يخبره بقرب موعد الرحيل، وينبئه بأن رحلته في الدنيا قد أوشكت على الانتهاء، وآن للروح الطاهرة المطهرة أن تصعد إلى بارئها وتنعم بلقائه في حياة أخرى لا يشوبها خوف ولا حزن ولا تأثيم، بل قُربٌ ووصالٌ ونعيم مقيم.

كان سيدنا أحمد خلال سنوات شبابه قد تلقى وحيًا من الله تعالى يخبره فيه أن عمره سوف يمتد إلى ما يقرب من ثمانين عاما وأنه سوف يرى نسلا بعيدا. كان ذلك في عام 1865.. أي حينما كان في الثلاثين من عمره. وقد كتب ذلك الوحي في كتابه البراهين الأحمدية الذي نشره عام 1880. وقد يجمح الخيال ببعض المتشككين إلى الظن أن بعض الشباب قد يأخذه غرور الفتوة والصحة والقوة، فيظن أن عمره سوف يمتد إلى أمد بعيد. ولكنهم يغفلون أمرًا هامًا، وهو أن الله تعالى هو الذي يكتب الآجال، وهو الذي يحدد عدد السنين والأيام التي يعيشها كل إنسان، وإذا اشتطَّ الخيال بأحد فظن أنه سوف يعيش أمدا طويلا، فإنه لا يستطيع، مهما بلغ به الغرور والقوة، أن يفرض على الله تعالى أن يُبقيه على قيد الحياة حتى يبلغ بالفعل هذا العمر المديد.

وها قد تحققت الوعود، وها قد سارت قافلة حياته الطاهرة الكريمة إلى هدفها المنشود، وها قد قاربت رحلة العمر من الانتهاء، فأخبر الله تعالى عبدَه المسيح الموعود بأن موعد اللقاء قد قَرُب، وساعة الانتقال إلى جوار الله قد دنت.

وينسى هؤلاء المتشككون أن النبأ الذي تلقاه سيدنا أحمد  من الله تعالى حينما كان في الثلاثين من عمره، يتضمن أيضا أنه سوف يرى نسلا بعيدا، أي أنه لن يعيش عمرا مديدا فحسب، بل سوف يرى أيضا نسلا بعيدا من أبنائه وأحفاده. ولعل أولئك المتشككين لا يعلمون.. أو يتجاهلون ويتناسون.. أن الله تعالى قد اختص نفسه بهذه الأمور فقال:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (الزمر: 43)، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا (المنافقون: 12)، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (الحج: 6)، لَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (الشورى: 50).

فليس الأمر إذن أمر غرور شاب بقوته وحيويته، وليست القضية قضية فكر جمح به الخيال، وإنما هو أمر الله وقضاؤه الذي قدّره، وأنبأ عنه عبدَه ميرزا غلام أحمد في سنوات شبابه، حتى يكون ذلك شهادة من الله تعالى على صدقه وتأييد الله له، وحفظه إياه على قيد الحياة حتى جاوز السبعين من العمر، ولإثبات أنه تعالى هو الذي وهبه النسل من الذكور والإناث، وبارك في حياته وفي نسله حتى رأى بعينيه نسلا بعيدا، وحقق الله تبارك وتعالى وعده الذي وعده إياه منذ أكثر من أربعين عاما، من نوال العمر الطويل ورؤية النسل البعيد.

وها قد تحققت الوعود، وها قد سارت قافلة حياته الطاهرة الكريمة إلى هدفها المنشود، وها قد قاربت رحلة العمر من الانتهاء، فأخبر الله تعالى عبدَه المسيح الموعود بأن موعد اللقاء قد قَرُب، وساعة الانتقال إلى جوار الله قد دنت. ويكتب سيدنا أحمد  كتابا باللغة الأردية يذكر فيه هذه الأنباء التي تلقاها من الله تعالى، ويُضمّنه وصيته، ويُسطّر فيه بعض النصائح للجماعة فيقول ما تعريبه:

“الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد. فيما أن الله أخبرني بوحيه المتواتر أنّ موعد وفاتي قد دنا، وقد تواتر هذا الوحي إلى درجة هزّت أصول كياني حتى فَتَرتْ فيّ الحياةُ، لذلك رأيتُ من المناسب أن أسجل بعض النصائح لأحبتي وكذلك لجميع الراغبين في الاستفادة من كلامي. فأولا أطلعكم على ذلك الوحي المقدس الذي أخبرني بقرب أجلي مما دفعني لأُقدم على هذه الخطوة. وفيما يلي ذلك الوحي الذي نزل باللسان العربي…. “قَرُبَ أجلُك المقدّر، ولا نُبقي لك من المُخزِيات ذِكرًا. قَلَّ ميعادَ ربّك، ولا نُبقي لك من المخزيات شيئًا. وإمّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهم أو نتوفَيَنَّك. تموت وأنا راضٍ منك. جاء وقتك. ونُبقي لك الآياتِ باهراتٍ. جار وقتك ونبقى لك الآيات بيّناتٍ. قَرُبَ ما توعدون. وأمّا بنعمة ربك فحدّثْ. إنه من يَتَقِّ الله ويصبِرْ فإن الله لا يُضيع أجر المحسنين.”…

واعلموا أن لوحي الله هذا: ” ولا نُبقي لك من المخزيات ذكرا” معنيين:

أولهما أننا سنمحو ما يشاع ضدك من اعتراضات بنية الإهانة والخزي، فلا يبقى لها اسمٌ ولا أثرٌ. وثانيهما أننا سنطمس من صحيفة الوجود أولئك المعترضين الذين لا يرتدعون عن الشر وإثارة المطاعن.

كما خاطبني الله باللغة الأردية حول وفاتي قائلا: “قلّتْ أيامُ حياتك. يومئذ يستولي الحزن على الجميع. سوف يحدث كذا وكذا وكذا ثم تقع حادثتك. بعد وقوع جميع الحوادث وإراءة عجائبات القدرة سيقع حادث وفاتك.” (الوصية، الخزائن الروحانية ج ٢١ ص ٣٠١، ٣٠٢ )

وقد ذكر سيدنا أحمد في هذا الكتاب أن الله تعالى أراه مكانا وقيل له: هذا موضع قبرك، إذ رأى ملاكًا يقيس الأرض، فوصل إلى موضع وقال له: هذا موضع قبرك. وقد رأى أيضًا أن هذه الأرض قد سُمّيت باسم “بهشتي مقبرة” أي مقبرة الجنة، ورأى فيها مقابر المختارين من جماعته الذين هم من أهل الجنة. ويقول إنه، بعد أن رأى تلك الرؤيا، ظل يُفكر في شراء قطعة من الأرض لهذا الغرض، ولكن ارتفاع ثمن الأراضي الجيدة كان يحول دون ذلك، فاقترح تخصيص قطعة أرض من أملاكه الملاصقة لحديقته. وقد دعا الله تعالى أن يُباركها ويجعلها مقبرة الجنة، وأن تكون محل راحة لأصفياء القلوب من أفراد الجماعة الذين قدّموا دينهم بكل صدق على دنياهم، وأعرضوا عن حب الدنيا، وأصبحوا لله وحده، وأحدثوا في أنفسهم تغييرًا صادقا، وضربوا للعالم أروع نماذج الصدق والوفاء، كما فعل صحابة رسول الله .

ويستطرد سيدنا أحمد ويشرح سُنّة الله تعالى حين يتوفى أنبياءه فيقول:

“… أنبأني الله بكلامه أن الحوادث آتيةٌ، والآفاتُ نازلةٌ. فمنها ما يظهر في حياتي، ومنها ما يقع من بعدي. وأنه تعالى كتب النصرَ لجماعتي، بعضَه على يدي، وبعضه من بعدي. هذه هي سُنّة الله تبارك وتعالى التي لا يزال يُظهرها منذ أن خلق الإنسانَ في الأرض أنه ينصر رسله وأنبياءه، ويكتب لهم الغلبة، كما قال الله تعال: كَتَبَ اللهُ لأغْلِبنَّ أنَا وَرُسُلِي . والمراد بالغلبة هو أن الأنبياء والرسل كما يريدون أن تتم حُجّة الله في الأرض بحيث لا يقدر أحد على مقاومتها، كذلك تماما يُظهر الله صدقهم بالآيات القاهرة، ويبذر على أيديهم بذرةَ الصدق الذي يريدون نشره، إلا أنه لا يُكمل هذه المهمة على أيديهم، بل يتوفاهم في وقت يصحبه الخوفُ بالفشل باديَ الرأي، ليُفسح بذلك المجالَ للمعارضين ليَسخَروا ويستهزئوا ويطعنوا ويشنّعوا، وحين يُفرغون ما في جعبتهم من سخرية واستهزاء يُظهر الله تعالى يدَ القدرة الثانية، ويهيئ من الأسباب ما تكتمل به الأهداف التي بقيت ناقصةً لحدٍّ ما.

فالحاصل أنه تعالى يُري قسمين من قدرته: فأولاً، يُري يدَ قدرته على أيدي الأنبياء أنفسهم، وثانياً، يُري يد قدرته العظيمة بعد وفاة النبي حين تواجه المحن، ويتقوى الأعداء بحيث يظنون أن الأمر الآن قد اختل، ويوقنون أن نهاية الجماعة قد دنت، حتى إن أعضاءها أنفسهم يقعون في الحيرة والتردد، وتُقصَم ظهورهم، بل ويرتدّ العديد من الأشقياء منهم، وعندها يُظهر الله تعالى قدرتَه القوية ثانيةً، ويُسند الجماعة المنهارة. فالذي يبقى صامدًا صابرًا حتى اللحظة الأخيرة يرى هذه المعجزة الإلهية، كما حصل في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ، حيث ظنوا أن وفاة الرسول قد سبقت أوانَها، وارتد الكثير من جهال الأعراب، وأصبح الصحابة لشدة الحزن كالمجانين، عندها أقام الله تعالى سيدنا أبا بكر الصديق ، وأظهر نموذجًا لقدرته الثانية، وساند الإسلام المتهالك، وهكذا أتم وعده الذي قال فيه: (وليمكّننَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم وليُبدِّلنَّهم من بعد خوفهم أمنًا).. أي أنه تعالى سوف يثبّت أقدامهم بعد الخوف.

وهذا ما حدث في زمن موسى أيضا، فقد اختطفته يد المنون وهو على الطريق ما بين مصر وأرض كنعان، قبل أن يوصل بني إسرائيل إلى المنزل المقصود حسب الوعد…. وحدث نفسه مع المسيح عيسى حيث تشتت حواريوه لدى حادث الصليب، حتى إن أحدهم أصبح من المرتدين.

فيا أحبائي، ما دام من سنة الله القديمة أنه تعالى يُري قدرتين لكي يحطّم بذلك فرحتين للأعداء كاذبتين. فمن المستحيل أن يغيّر الله تعالى الآن سنته الأزلية. لذلك فلا تحزنوا لما أخبرتكم به ولا تضيقوا ذرعًا، إذ لا بد لكم من أن تروا القدرة الثانية أيضًا، وإن مجيئها خير لكم، لأنها دائمة ولكن تنقطع إلى يوم القيامة. وإن تلك القدرة الثانية لا يمكن أن تأتيكم ما لم أغادر، ولكن عندما أرحل سوف يرسل الله لكم القدرة الثانية، التي سوف تبقى معكم على مدى الأيام”. (المرجع السابق ص ٣٠٥)

هكذا أعلن سيدنا أحمد عن قرب رحيله عن هذه الدار، وأشار إلى سُنّة الله المستمرة التي تقع بعد وفاة الأنبياء الكرام، كما كان الشأن بعد وفاة موسى وعيسى وسيد الأنبياء، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. إذ ربما يبدو أن النبي المبعوث من الله تعالى قد غادر مسرح الحياة، وترك غرسته التي غرسها بأمر السماء قبل أن يصلب عودها، حتى إن الأعداء والمنافقين يظنون أنه من السهل اقتلاع٦٦ها والقضاء عليها، فإذا به سبحانه يتجلى بتأييده وحمايته مرة أخرى، عن طريق الخلافة التي يقيمها سبحانه بنفسه، لتعهد الغرسة الخضراء الصغيرة إلى أن تصير شجرة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

لقد أطلق سيدنا أحمد على الخلافة اسم “القدرة الثانية”، لأنه بعد أن ينتقل النبيُّ إلى الدار الآخرة يتجلى الله تعالى بقدرته مرة ثانية من أجل الحفاظ على الدعوة وحمايتها، ويستخلف من بين المؤمنين من يحمل المشعل. وقد أشار سبحانه إلى هذا الاستخلاف في آية سورة النور التي استشهد بها سيدنا أحمد في المقطع الذي سبق ذكره في كتابه “الوصية”. يقول :

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور: ٥٦).

ويتضح من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أن يستخلفهم في هذه الأرض، وأنه هو الذي يقيم هذه الخلافة المباركة الراشدة، وأنه بواسطة هذه الخلافة يثبّت دعوته في الأرض، ويُبدّل الخوف الذي ينتاب المؤمنين إلى أمن واطمئنان. ومعنى هذا أن الخلافة الراشدة تتبع السُنن الإلهية الخاصة بالنبوة والأنبياء، ولا تتبع السنن التي وضعها الله تعالى لعامة البشر.

وهذا النصر الذي وعده الله تعالى للرسل وللمؤمنين، يتحقق جانب منه أثناء حياة أولئك الرسل، ويتحقق جانب آخر بعد وفاتهم، على أيدي من يستخلفهم الله تعالى من بعدهم.

ولإلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع نذكر أن السُنن الإلهية الخاصة بالنبوة والأنبياء هي سُنن لا تتجلّى إلا للأنبياء فقط، ونذكر منها على سبيل المثال ما ذكره القرآن المجيد.. أن الناس دائما يكذّبون الرسل ويهزأون بهم ويسخرون منهم كما يقول تعالى:

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (يس: 31)

ومن سُنن الله مع الأنبياء أنه يؤتيهم جرأة وإقداما فلا ينتابهم الخوف من أعدائهم مهما كانت الظروف. يقول تعالى:

إنّي لا يَخافُ لدَيَّ المُرسَلُون (النمل: 11)

وغني عن القول أن نذكر هنا أن الخوف الذي ينتاب الأنبياء في حياتهم فعلًا ليس هو الخوف من أعدائهم، ولكنه الخوف من أن يكونوا قد فرّطوا في أمر من الأمور، أو قصّروا في أداء واجب من الواجبات، مما قد يؤدي إلى غضب الله تعالى أو قد يؤخر نصره، ولذلك نجد أنهم أحرص الناس على ألا يشوب عملهم شائبة من إفراط ولا تفريط. ومن هنا كان دعاء رسول الله الذي دعا به الله تعالى بعد أن رماه الغوغاء بالحجارة في الطائف فأدموا رأسه الشريف، وسال منه الدم حتى وصل إلى قدميه، فأقبل على الله يدعوه ويقول: “إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي”. عليك رحمة الله وسلامه يا خير خلق الله، ويا أفضل وأعظم رسل الله.

ومن أهم سُنن الله مع أنبيائه، أنه تعالى ينصرهم على أعدائهم ومخالفيهم ومعارضيهم، رغم أن هذا النصر يبدو في أول الأمر مستحيلَ التحقيق، ولكنه يتحقق رغم كل الظروف وعلى عكس كل المؤشرات، ولذلك يؤكد الله تعالى على تحقيق النصر فيقول:

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (غافر: 52)

وهذا النصر الذي وعده الله تعالى للرسل وللمؤمنين، يتحقق جانب منه أثناء حياة أولئك الرسل، ويتحقق جانب آخر بعد وفاتهم، على أيدي من يستخلفهم الله تعالى من بعدهم. وإن الذي يراقب تطور الأحداث ويستقصيها، ويتتبع مجريات الأمور ويستقريها، فإنه لا بد وأن يصل إلى نتيجة محتّمة.. وهي أن دعوة الأنبياء تبدو في أول أمرها راجفة واجفة، لا يؤمن بها إلا أفراد قلائل، يذوقون الأمرّين من التعذيب والاضطهاد، ثم يقيم الأعداء حولها سياجا عاليا منيعا من المعارضة والتكذيب، حتى إن جميع المؤشرات تشير إلى الفشل، وإذا بالله تعالى يفتح لها بابا للنصر والازدهار من حيث لا يتوقع أحد. هكذا كان الحال في السنوات العجاف التي قضاها الرسول في مكة.. والتي كانت ملؤها الآلام والاضطهاد، وصلت إلى قمتها في عام الحزن، حين فقد الرسول زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، وفقد حماية عمه أبي طالب، ونجحت قريش في بث دعاياتها الكاذبة حتى انصرف الناس عنه، وأقامت حوله سياجا من “التعتيم الإعلامي”، حتى لم يعد أحد يستمع إليه. وإذا بالله يأتي بحفنة من الناس من يثرب، ليشدّوا على أيدي الرسول مبايعين، ثم يعودوا في العام التالي وهم نيف وسبعون، ثم يهاجر إليهم الرسول مقيما للدولة الإسلامية التي يكون هو على رأسها.

ويصف كتاب الله العزيز هذه الفترات الحرجة في حياة الدعوة فيقول:

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة: 215)

وتتكرر نفس المشاهد من البأساء والضراء والزلزلة التي تصيب المؤمنين، حتى ليكاد يسيطر عليهم اليأس والإحباط، وإذا بنصر الله يأتي من حيث لا يشعر أحد ولا يتوقع. وهكذا نرى أن الأمور لا تستقر في الدولة الإسلامية الوليدة، بل يحيط بها الأعداء من كل جانب، ويحاول المخربون من المنافقين تقويضها من الداخل، ويتآمر عليها اليهود ويخونون عهودهم مع المسلمين، ومن الخارج تأتي إليها أفواج المقاتلين والمحاربين للقضاء عليها، ويحيطون بها حتى لكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، كما حدث في غزوة الخندق، فإذا بالله يفتح بابا للنصر من حيث لا يشعر أحد، فيلقي الرعب في قلوب الجيوش المحاصرة فيفرون هاربين، ويلقي الرغب في قلوب اليهود فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ويقضي عليهم بالجلاء من المدينة. ثم تأتي سنوات من الأمن والسلام بعد صلح الحديبية، فتنتشر الدعوة بين القبائل، حتى إذا نقضتْ قريشٌ المعاهدةَ زحف الرسول إلى مكة رافعًا أعلام الظفر والانتصار. ومرة أخرى تتكرر مشاهد البأساء والضراء، حتى زُلزل المؤمنون زلزالا شديدا.. فإذا بنسمات التأييد الإلهي تهبّ عليهم، فتتابع وتتوالى بعدها مشاهد التأييد والانتصار.

ونلقي مرة أخرى نظرة عبر أحداث التاريخ، لِنَرى ما الذي يحدث لدولة الإسلام التي انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية واليمن.. فنشاهد من الداخل ردة القبائل عن الدين وقتلها عمّالَ الرسول ، ومن الخارج يتآمر الروم مع اليهود للقضاء على دولة المسلمين نهائيا، وتأتي الأنباء من كل أنحاء الجزيرة العربية ومن اليمن بانتفاض القبائل وخروجها على الدولة ومنع الزكاة، وتتزاحم حشود الرومان على حدود الدولة في الشمال. ثم يُفجع المسلمون بوفاة الرسول في هذه الظروف الحرجة، حتى إذا أيقن الأعداء أنهم غالبون، أقام الله تعالى أبا بكر ليعيد هيبة الدولة الإسلامية، ويقضي على الأخطار المحدقة بها، ويُمكّن الله دينه في الأرض، ويبدّل المؤمنين من بعد خوفهم أمنا.

هذه هي السُنّة الإلهية التي كتبها الله تعالى لأنبيائه، كما كتبها أيضا لمن يختارهم الله للخلافة على منهاج النبوة، إذ من خلال هذه الخلافة المباركة الراشدة.. تستمر بركات النبوة التي تستمطر تأييد الله، وتستنزل حمايته، وتستدعي نصرته. وبغير هذه الخلافة المباركة فإن الأمر يكون متروكًا للسنن العامة التي قدّرها الله تعالى لعامة الناس.. مَن جدّ وجد، ومَن زرع حصد، إلا ما شاء الله.. لا فرق في ذلك بين مؤمن أو كافر.

وليس كل نظام للحكم هو خلافة على منهاج النبوة، وليست كل قيادة هي خلافة راشدة، لذلك فإن البركات السماوية الخاصة لا تتنَزّل لكل نظام يُطلق على نفسه اسم الخلافة. وقد رأينا عبر التاريخ أنواعا من الأنظمة كانوا يسمّونها خلافة مثل خلافة الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين، ولكن رسول الله سبق وأخبرنا أن هذه الأنظمة ليست هي الخلافة التي على منهاج النبوة، بل هي الحكم المتوارث. ففي حديث من أحاديثه الشريفة قال : “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله تعالى.. (وهنا يشير إلى نبوته )، ثم تكون خلافًة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى ..(وهي الخلافة الراشدة)، فتكون ما شاء الله أن تكون. ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون مُلكًا جبريًة، (أي حُكمًا مستبدًّا.. وهو ما آلت إليه هذه الأنظمة)، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة (أي تعود الخلافة الراشدة مرة أخرى)، ثم سكت.” (مشكاة المصابيح، كتاب الرقاق، باب الإنذار والتحذير). وقوله : “…. ثم تكون خلافة على منهاج نبوة” يشير قطعًا إلى نبوة الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي تتبعه الخلافة، ولذلك فهي خلافة على منهاج النبوة. غير أن وعد الله تعالى بالاستخلاف مشروط بشرطين.. هما الإيمان والعمل الصالح، وإذا لم يتوافر هذان الشرطان.. فإن الله تعالى ينْزع هذه النعمة من الناس.

هذه هي بعض البركات المادية للخلافة.. الخلافة الراشدة.. الخلافة التي هي على منهاج النبوة.. و التي ينعم الله تعالى بها على عباده المؤمنين الذين يعلمون الصالحات، و ما دام قد توافر هذان الشرطان.. الإيمان و العمل الصالح..فإن فضل الله و نعمه و بركاته كانت تتنزل على الأمّة الإسلامية، كما يتنزل الغيث على الأرض الطيبة.

تعالوا لنلقي مرة أخرى نظرة عبر التاريخ لنرى ماذا حدث في السنوات التي تلت وفاة الرسول . أقام الله تعالى أبا بكر .. ورغم غياب جيش المسلمين بقيادة أسامة بن زيد في قتاله مع الروم، فإن أولئك الذين خرجوا على الدولة الإسلامية لم يستطيعوا أن ينالوا منها شيئا، حتى مع عدم وجود جيش يحميها، لأن الله تعالى كان يحميها ويدافع عنها، حتى إذا عاد الجيش بعد انتصاره على الروم، استطاع أن يقضي على الفتنة، ويُثبت أركان الأمن والسلام في ربوع الدولة. ولما توفي أبو بكر أقام الله تعالى عمر رضي الله عنهما، وأيده بروح من عنده، وبجنود من السماء، حتى إن هذه الدولة التي كانت لا تزال تحبو على أول الطريق، استطاعت رغم كل الظروف أن تنتصر انتصارا ساحقا على دولة الفرس العظمى حين تحرشت بالدولة الإسلامية، واستطاعت أن تحرر بيت المقدس والشام ومصر من مظالم الرومان. ولما رفع الأعداء رؤوس التآمر بالدولة الجديدة التي توسعت رقعتها، واغتالت الأيدي الآثمة خليفة المسلمين في مؤامرة دبرها أبو لؤلؤة المجوسي، وانتهز الأعداء فرصة مقتل الخليفة القوي عمر بن الخطاب للانقضاض على الدولة، وقامت فلول الجيوش المنهزمة برفع راية العصيان في أركان الدولة التي صارت مترامية الأطراف، أقام الله تعالى عثمان.. الكهل الذي بلغ من العمر سبعين عاما، والذي كان يتميز باللين والطيبة والحياء، فإذا به لا يقل صرامة وقوة وبأسا عن عمر، في الذود عن أمة المسلمين. فأرسل إلى أذربيجان وأرمينية جيشا بقيادة الوليد بن عقبة. ولما تحرشت قوات الروم بالشام، صدهم بجيش حبيب بن مسلمة. ولما هاجموا الإسكندرية بأسطولهم ليستولوا على مصر بعث إليهم بعمرو بن العاص فأصلاهم سعيرا. وحين جاءت جيوش البربر بجحافلهم التي بلغت مائتي ألف مقاتل، تصدّى لهم بجيش على رأسه ثلاثة من “عباد الله” هم عبد الله بن أبي السرح، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فهزموهم بإذن الله واستولوا على شمال أفريقيا. بل إنه كان أول من أنشأ السلاح البحري في الدولة الإسلامية، فركب المسلمون البحر وأنزلوا بأسطول الرومان هزيمة نكراء واستولوا على قبرص.

هذه هي بعض البركات المادية للخلافة.. الخلافة الراشدة.. الخلافة التي هي على منهاج النبوة.. و التي ينعم الله تعالى بها على عباده المؤمنين الذين يعلمون الصالحات، و ما دام قد توافر هذان الشرطان.. الإيمان و العمل الصالح..فإن فضل الله و نعمه و بركاته كانت تتنزل على الأمّة الإسلامية، كما يتنزل الغيث على الأرض الطيبة. علما أن هذه البركات المادية كانت علاوة على البركات الروحانية. و لكن حينما ترك المسلمون الصالحات من الأعمال و مالوا إلى الدنيا و الإمارة، وأخذوا ينتقدون أمراءهم، و يعصون أمر ولاتهم، و حين اندسّ بينهم المخربون والمنافقون ليقضوا على الدولة من الداخل، بعد أن فشلت الجيوش في القضاء عليها من الخارج، وحين دخلت في الإسلام جموع كثيرة من أهل البلاد المفتوحة، لم تنل من التربية الإسلامية قدرا يؤهلها ويعّودها على طاعة أولي الأمر، وحين استشرت الفتنة بانتقاد الخليفة نفسه، ومطالبته بالتنحي والاعتزال، ثم تآمرت ودبرت واغتالت أيدي المسلمين خليفتهم الذي أقامه الله  تعالى، دب الشقاق والخلاف بين صفوف المسلمين، ولو أنهم تابوا وأصلحوا، وسموا وأطاعوا، لعفا الله عنهم، ولقضى باستمرار نوالهم لأنعم الخلافة وبركاتها، ولكنهم خرجوا أيضا على الخليفة الرابع، وعصوا أمره، ثم اغتالوه وسفكوا دمه، فرفع الله منهم هذه النعمة، وظلوا منذ ذلك الحين في شقاق وخلاف، إلى أن بعث الله تعالى عبده الإمام المهدي والمسيح  الموعود ، ليفتح لهم باب الرحمة والائتلاف، بعد أن فتحوا بأنفسهم باب الفرقة والخلاف، وقضى .. تكرمةً لأولئك الذين آمنوا بعبده الإمام المهدي.. أن تعود إليهم نعمة الخلافة الراشدة مرة أخرى، تصديقاً لوعد رسول الله الذي سبق وأنبأ بقوله: ” ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” لذلك.. فقد حرص سيدنا أحمد أن يكتب وصيته يشير فيها إلى قدرة الله الثانية.. التي هي الخلافة الراشدة.. والتي سوف يرسلها الله تعالى من بعده، حينما تنتهي به رحلة العمر. وكان أيضا حريصا على أن يؤكد أن هذه الخلافة التي هي على منهاج النبوة إنما هي من فضل الله تعالى، يؤيد بها عباده الصالحين بروح القدس. (وللحديث بقية)

Share via
تابعونا على الفايس بوك