الغرض من الإنفاق في سبيل الله
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( الآية: 265)

شرح الكلمات:

صفوان- الصخر؛ ما لا ينبت شيئاً من الحجارة ومن الأرضين. يقال: حجر صلد وأرض صلد (الأقرب).

التفسير:

يقول : أيها المؤمنون لا تضيعوا صدقاتكم بالمن والأذى، وإضاعة الصدقات يعني إضاعة ثمراتها ونتائجها.

وقوله كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ يبين أنه مهما كان العمل حسناً فإن الإنسان إذا قام به مراءاة للناس فهذا سيئ جداً، لأن المتصدق تبطل صدقته عندما يتبعها بالمن والأذى، أما المرائي فتبطل صدقته بمجرد تفكيره في المراءاة. على أية حال، يقول الله تعالى إن الذي يُتبع صدقته بالمن والأذى تضيع صدقته مثلما تضيع صدقة المرائي، لأنه وإن لم يفكر في الرياء وقت الصدقة إلا أن فعله هذا يدل على أن في قلبه رياءً كامنا، وإلا لم يمنن على أحد ولم يؤذه.

وعند الحديث عمَّن ينفق ماله رياء الناس أضاف قوله وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، لأن الإنسان أحياناً ينفق ماله أمام الناس لحضهم على الإنفاق، كما قال الله في موضع آخر: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:275). فتؤكد هذه الآية أن القيام بالعمل الحسن علانية أمام الناس يُكسب المرء ثواباً بشرط أن تكون نيته حسنة.. أي حض الناس وترغيبهم في عمل الخير. أما إذا كانت نيته الرياء والفخر والمباهاة أمام الناس ضاعت أعماله الحسنة.. كمثل صخرة عليها شيء من التراب.. إذا نزل عليها المطر فإنه – بدلاً من أن ينبت نباتاً صالحاً يجرف التراب ولا يُبقي أي إمكانية لإنبات بذرة هناك.

الواقع أن الإنسان عندما يأتي بعمل حسن فإنه يريد أن يعلم الآخرون بعمله هذا، فالبعض يريد ذلك تفاخراً وتباهياً، بينما البعض بنية أن ينتفع بعمله هذا. لذلك مرة يقول القرآن: لا تكونوا كالذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ومرة أخرى يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى). وهذا الحديث عن نعم الله ليس رياء، وإنما لكي يسعى الآخرون لنيل هذه النعم. فليس كل إظهار للعمل رياء، وإنما يكون أحياناً من الرياء وأحياناً من الحسنات. فمثلاً لو ارتدى المرء رداء بهيّاً وخرج للناس ليتحدث الناس عن ثرائه فهذا تفاخر ورياء، أما إذا فعل ذلك وخرج يوم العيد أو يوم الجمعة عملاً بسنة الرسول وأمْرِه فهذا ليس من الرياء في شيء. أو مثلاً لو كان هناك وباء منتشر، وعند الإنسان كمية من الدواء، فيعلن للناس عن توافر هذا الدواء عنده.. فهذا لا يعتبر رياء، ولن يقول عاقل أنه يتظاهر بذكائه أمام الآخرين، بل إن كل شخص ينتفع من هذا الدواء الذي يقيه من المرض.

فيكون عمله رياء إذا لم يكن مؤمنا بالله واليوم الآخر، أي لا يبتغي ثواباً من الله تعالى، وإنما يريد أن يغبطه الناس. أما إذا قام الإنسان بعمل الخير أمام الناس وقلبه مطمئن بالإيمان بالله واليوم الآخر.. ترغيباً لهم في عمل الخير.. فلا يمنع الله من ذلك، بل يثني عليه ويقول إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ (البقرة:272).

والمعنى الثاني أن المرائي لا يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، إذ لا يُمنُّ إلا الذي ليس مؤمناً بالله واليوم الآخر. لو كان يعتبر أن هذه النعمة من الله تعالى ومنه يرجو الأجر.. لم يرغب في الثناء من الناس على عمله. كذلك لو اقتنع أنه ينال على إنفاقه في سبيل الله أجراً في اليوم الآخر ما فكر أن ينال أجره من المسكين الذي أعانه بشيء من المعونة. لذلك استخدمت الآية كلمة ’المن‘ وبإزائها ’رياء الناس‘، وكلمة ’أذى‘, ومعها كلمة ’لا يؤمن بالله واليوم الآخر‘.. لأن المن يكون وراءه مراءاة الناس، والأذى يحدث عندما لا يتوقع المرء جزاء من الله وليس في قلبه يقين بالله واليوم الآخر.

ثم قال فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ وهنا بين الله مثالاً آخر، فقال إن من ينفق رياء للناس ينفق فعلاً، ولكنه كمثل صخرة عليها تراب، فينزل عليها مطر شديد، وبدلاً من أن يروي التربة لتنبت زرعاً فإنه يجرفها ويزيل كل ما عليها من تراب. فهذا الذي تصدق بماله كانت به بعض الخصال الطيبة، ولكنه بعد ما أتبع صدقته المنّ والأذى، أو فعلها رياء للناس فإنه حوّلها إلى سيئة قبيحة، وبدلاً من أن تنفعه جعلها ضارة به. وكأنه أضاع الأمل – وإن كان ضئيلاً – في أن ينبت نبات من عمله الصالح.

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الآية:266)

شرح الكلمات:

ابتغاء – حالٌ أي وهم يبتغون، أو مفعولٌ له أي ينفقون لابتغاء مرضاة الله.

تثبيتاً – حالٌ، أي وهُم يثبِّتون أنفسهم، أو مفعول له أي لتثبيت نفوسهم على ما يريدون تثبيتها عليه من أفعال الخير.

بربوة – الربوة: ما ارتفع من الأرض (الأقرب).

الوابل – المطر الشديد والضخيم القطر (الأقرب).

ضعفين – بالزيادة مرتين، وأصلها ضعفاً ضعفاً ( الأقرب).

فطل – الطل: أضعف المطر، الندى (الأقرب).

التفسير:

استخدمت كلمة ’ربوة‘ هنا، لأن المكان المرتفع يبقى دائماً في مأمن من الفيضانات. عندما ينزل المطر يجتمع الماء في الأراضي المنخفضة ويضر الزروع، ولكن الأماكن المرتفعة تأخذ كفايتها من الماء وتبقى الزروع بمأمن من الضرر، ويزداد محصولها ضعفين، ولو كان المطر قليلاً أفاد الزرع أيضاً.

بهذا التمثيل بيّن الله أن قلب المؤمن الصادق كبستان في أشجار خضراء من أفعاله الحسنة، كلما تصدّق وعمل خيراً نال نتائج مباركة طيبة لصدقته حتى وإن كانت قليلة المقدار كالندى. ولما كان أصحاب مثل هذه الصدقات القليلة من الفقراء فمن الممكن أن يقولوا: صدقاتنا قليلة وليست كالوابل، لذلك قال الله: إذا لم تكن وابلاً فالطلُّ فيه الكفاية، ويزيد البستان ثماراً. فكأن صدقات الأثرياء بمثابة وابل، وصدقات الفقراء – الذين قال الله في حقهم {لا يَجِدُونَ إلّا جُهْدهَهُمْ} (التوبة:79) فهي بمثابة الطل. ولما كانت قلوبهم عامرة بالإخلاص والتقوى.. لذلك قال الله أن إنفاقهم القليل أيضاً سوف ينفع زرع أعمالهم ويجعله مخضراً نضراً، لأن الله يجازيهم بحسب ما في القلوب من إخلاص، وليس بحسب مقدار المال. وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – من هذين النوعين – كان منهم الفقراء الذين ينفقون قليلاً جداً، وكان منهم الأثرياء الذين ينفقون كثيراً. وكان من الممكن أن يدور بخلد الفقراء أن إنفاقهم لا يمكن أن يكون وابلاً.. فطمأنهم الله وقال: إذا لم يكن وابلاً فالطل فيه الكفاية والنفع كنفع الوابل.

وبقوله {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أشار إلى أن الله يرى حقيقة العمل؛ ولا يبالي بشكل العمل. فالذين ينفقون أقل من غيرهم، ولكنهم ينفقون بصدق حسب حالهم.. سوف يكون طلهم نافعاً كنفع الوابل.

ولنتذكر أن الله ذكر هنا غرضين للإنفاق في سبيله: الأول – ابتغاء مرضاة الله، وهو الغرض الأعظم والهدف الحقيقي، والثاني – تثبيتاً من أنفسهم. فالواجب أن يكون الغرض من الإنفاق هو كسب رضوان الله وتقوية القوم؛ إذ في رعاية الفقير نفع للمنفق نفسه. ذلك لأن الصدقات تهيئ الفرص لرقي الفقراء ليكونوا جزءاً نافعاً للمجتمع. فالأمم التي يكون معظم أفرادها منهارين لا يمكن أن تكون أمة قوية، لأن هؤلاء المتخاذلين يكونون عبئاً عليها، ويعرقلون تقدمها نحو الازدهار. لذلك نرى الأمم الأوربية التي لا علاقة لها بالله يكثرون من الصدقات وفعل الخيرات. لأن ازدهار الفقراء عامل هام في ازدهار مجموع الشعب.

والمعنى الآخر لقوله تَثْبِيتَاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أن المؤمن عندما ينفق لمساعدة الضعفاء الذين لا سند لهم فإن الله يعينه ويهيئ له أسباب الازدهار. وإلى هذا المعنى أشار الرسول في قوله ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) (مسلم، البر والصلة).

ثم هناك فائدة روحانية للإنفاق. فعندما ينفق الإنسان في سبيل الله فإن إيمانه يتقوّى ويزداد. لذلك نصحتُ جماعتي وقلتُ مراراً أن الضعيف من الناحية الدينية.. وإن لم يشترك في كثير من الحسنات الأخرى.. ينبغي أن نجعله يشترك في التبرعات، لأنه عندما ينفق من ماله يزداد إيماناً وشجاعة على عمل الخير، مما يجعله يُقْدم على عمل الحسنات الأخرى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك