من منافع الصيام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (184)

وتاسعا-من المنافع الروحانية للصيام أن إلهام الله ينزل على قلب الصائم، وتزداد بصيرته الكشفية جلاء ونورا. والحقيقة أننا لو تدبرنا لوجدنا أنه ليس عند الله عادات، ولكن فيه ما يشبه عادات الإنسان على نحو ما. ليس لله عيون كعيون البشر، ولكنه يقينا بصير. وليس لله آذان كآذان الإنسان، ولكنه يقينا سميع، وليس عند الله عادة من العادات التي تكون في الإنسان ولكنه يعيد أفعاله. والعادة تعني إعادة فعل مرة بعد أخرى، وهذا الأمر يتصف به الله تعالى، فهو إذا أنزل فضله في مناسبة ما.. أعاد إنزال فضله كلما عادت هذه المناسبة. وبما أن كلام الله.. القرآن الكريم.. نزل في شهر رمضان، فلو وضعنا صفة العود الإلهية في الاعتبار، واتبعنا الرسول الكريم الذي نزل عليه القرآن لاستفدنا من هذه الصفة الإلهية المشابهة للعادة الإنسانية. فالذين يقتدون بالرسول ، وينقطعون عن الدنيا رغم وجودهم فيها، ويقللون من أكلهم وشربهم ونومهم، ويتجنبون لغو الكلام، فإن الله يشرفهم بإلهامه وينزل عليهم كلامه في كل رمضان بحسب هذه الصفة، ويفتح عليهم أبواب رؤى وكشوفٍ صادقة، ويطلعهم على أسرار غيبه.

هناك إلهام لسيدنا المهدي معناه: “جاء الربيع ثانية وتحقق وعد الله مرة أخرى” (ضميمة البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج21 ص258). وهنا أيضا ذكر موضوع العادة والتكرار. لقد تجلى الله مرة في فصل الربيع، وكلما أتى هذا الفصل يقول الله: ماذا سيقول عبادي؟ فَلْنَتَجلّ عليهم برحمتنا مرة أخرى. وإذا استفاد الناس منها نزلت عليهم هذه النعم في ربيع قادم.

وقصارى القول: لو أننا شبهنا كلام الله بشجرة.. فإن الصفة الإلهية المشابهة للعادة الإنسانية تهز هذه الشجرة كل مرة في رمضان، فتساقط على المؤمنين فواكه طازجة.

وعاشرا-ومن المنافع الروحانية للصيام أيضا أن الإنسان في رمضان يترك مأكله ومشربه لله تعالى.. فكأنه يبدي استعداده للتضحية بنفسه في سبيل الله. وعندما يقطع علاقته الجنسية مع زوجته.. فكأنه يعلن استعداده للتضحية بنسله في سبيل الله. وعندما يقدم هذه الأسوة يستحق لقاء الله تعالى. وبسبب توطيد هذه الصلة مع الله، وبازدياده قوةً في الروحانية يصبح الصائم بمأمن من الضلال طول حياته.

وهكذا في أيام رمضان يضحي الإنسان بكثير من عاداته، ولا تستمر هذه التضحية ليومين أو ثلاثة.. وإنما لشهر كامل بدون انقطاع. فالصيام إذن يعلّم درسا في الاستقامة والمداومة والاستمرارية. والحقيقة أن الإنسان لا يمكن أن ينال الله بدون التضحيات المستمرة غير المنقطعة.. لأن المحبة الحقيقية لا تحتاج إلى محرّك يثيرها، كما أنها لا تكون مؤقتة تحت ضغط، بل إنها تتصف بالطواعية والاستقلال.

ثم إن صيام رمضان يعوِّد الإنسان على الاستمرارية والدوام، لأن هذه الحسنة تستمر لمدة طويلة. يتناول الناس أثرياء أو فقراء، من أهل المدن أو القرى.. عدة وجبات كل يوم بحسب مقدرتهم، ولكن الصائمين يقتصرون في رمضان على وجبتين فقط. وفي الأيام الأخرى ينامون طول الليل، بينما في رمضان يستيقظون لصلاة التهجد وتناول السحور، ويقضون كثيرا من وقت النهار في تلاوة الذكر الحكيم. وهكذا في أيام رمضان يضحي الإنسان بكثير من عاداته، ولا تستمر هذه التضحية ليومين أو ثلاثة.. وإنما لشهر كامل بدون انقطاع. فالصيام إذن يعلّم درسا في الاستقامة والمداومة والاستمرارية. والحقيقة أن الإنسان لا يمكن أن ينال الله بدون التضحيات المستمرة غير المنقطعة.. لأن المحبة الحقيقية لا تحتاج إلى محرّك يثيرها، كما أنها لا تكون مؤقتة تحت ضغط، بل إنها تتصف بالطواعية والاستقلال. ولهذا السبب عندما عرف النبي أن إحدى زوجاته قد ربطت حبلا في السقف حتى إذا غلبها النعاس في الصلاة تمسكت به كيلا تسقط.. قال هذا ليس بالعبادة، وإنما العبادة الحقيقية هي تلك التي يؤديها الإنسان ببشاشة دون ملل يقضي على صفة الدوام فيها (البخاري، كتاب التجهد).

الحادي عشر-ومن منافع الصيام أن يتدرب المؤمن في هذا الشهر على التخلي عن حقوقه المشروعة. إنه يتدرب خلال أحد عشر شهرا على ترك الحرام، ولكنه في الشهر الثاني عشر –رمضان-لا يترك الحرام فقط، وإنما يتدرب على ترك الحلال. وكأننا في غير أيام الصيام نقدم نموذجا لترك الحرام لوجه الله، ولكن في الصيام نقدم نموذجا لترك الحلال أيضا لوجهه تعالى. والحق أنه لا يمكن تحقيق نجاح حقيقي في الدنيا إلا إذا تعودنا على ترك الحلال أحيانا. إن أكثر الفتن في العالم لا تحدث لأن الناس لا يريدون ترك الحرام، وإنما لأنهم غير مستعدين لترك الحلال. إن الذين يهضمون حقوق الناس الآخرين بطريق غير شرعي قلّة، ولكن ما أكثر الذين هم مستعدون للقتال والنزاع بدل أن يتخلوا عن الحلال. هناك كثير من المجانين والحمقى الذين يثيرون فتنا عظيمة وفسادا كبيرا في العالم لنيل حقوقهم، غير مكترثين لتدمير سلام العالم.. مع أنهم لو قدموا التضحية بحقوقهم لتم القضاء على كثير من النزاعات والمفاسد، ولتوطد جو الأمن والوئام، فشهر رمضان يعلِّم ألا تترك الحرام فحسب، بل إذا دعت الحاجة فاترك الحلال لوجه الله، حتى يتوطد الخير، وينتشر في الدنيا وتكون كلمة الله هي العليا.

ويجب أن نتذكر أن العبادات الإسلامية تشتمل على كثير من الدروس، وبعض هذه الدروس في كل عبادة، وبعضها نتلقاها في أكثر من عبادة، وبعضها تتجلى في مجموعة من العبادات. ونفس هذا المشهد نراه في العالم المادي الذي خلقه الله تعالى.. ففي كل فرد منه حقيقة، ولكن في فردين معا حقيقة أخرى، وإذا اجتمع أكثر من اثنين ففيهم حقيقة أخرى، ثم في العالم كله حقيقة أيضا. وكما نجد ترتيبا ونظاما وربطا بين قانون الطبيعة، كذلك نجد ربطا ونظاما بين العبادات. ولكن هذا لا يوجد إلا في الشريعة الإسلامية دون غيرها. هناك في الشرائع الأخرى صلاة وزكاة وصوم وغيرها من العبادات، ولكن لا ربط بينها، ومثالها كاللبِنات المبعثرة. ولكن لو نظرنا في الشريعة الإسلامية لوجدنا في كل تعليم منها حقيقة. ثم في اجتماع أكثر من تعليم حقيقة وحكمة أخرى. ومثال ذلك الصلاة والصوم. فالصلاة في حد ذاتها تحتوي على درس، والصوم يحتوي على درس، ولكنهما معا يشتملان على درس إضافي آخر. ولو لم تكن الصلاة مع الصيام: أو لم يكن الصيام مع الصلاة لفقدنا هذا الدرس. صحيح أن الصيام في حد ذاته نافع، والصلاة بنفسها نافعة أيضا.. شأن كل العبادات الإسلامية التي تقدم كل منها نفعا عظيما، إلا أن الصلاة والصوم معا تعلماننا درسا أريد ذكره الآن.

إن المقام الأصلي للصلاة هو الطهارة، ويسمى الوضوء، لذلك قال النبي إذا توضأ أحدكم وجلس في مُصلاّه فهو في صلاة (مسلم، كتاب المساجد). الصلاة إنما هي الذروة من هذه الحالة، وإلا فإن الصلاة الحقيقية هي تلك الكيفية القلبية الطاهرة للمؤمن التي تتعلق بالوضوء.

تعالوا الآن ننظر ما هي حقيقة الوضوء. إن العمل الذي نقوم به في الوضوء يستمر إلى أن يخرج من الجسم شيء، كالبول أو البراز أو ما يخرج عند اللقاء الجنسي بين الزوجين، أو ما يُحدثه المرء وينقض الطهارة. إذن فمدار الوضوء على عدم خروج شيء من الجسم. وبناء على ذلك يمكن القول أن مدار طهارة الصلاة على عدم خروج شيء من الجسم، أما مدار طهارة الصوم فعلى عدم دخول شيء في الجسم. صحيح أننا نُهينا عن العلاقات الزوجية أثناء الصوم، ولكن ذلك لكيلا ينحرف اتجاهنا عن الصوم.. وإلا فإن المدار الحقيقي للصوم هو عدم دخول شيء في الجسم. لو كان هناك الصلاة فقط، ولو كان الوضوء للطهارة الظاهرية فقط.. لقيل إنما المقصود منه هو غسل الوجه والأطراف فقط. وكذلك لو كان هناك الصوم فقط. ولو كان هناك رخصة لأكل شيء قليل لقيل إنما المراد من الصوم الجوع فقط. ولكن نقض الوضوء بخروج شيء من الجسم، وبطلان الصوم بدخول شيء في الجسم.. لَيَدُل على أن هناك علاقة بين خروج شيء من البدن وبين الصلاة، وعلاقة بين دخول شيء في البدن وبين الصوم. وبالجمع بين هذين الأمرين نتوصل إلى نتيجة أن الإنسان لا يمكن أن يكتمل طهارةً ما لم يأخذ حذره من جانبين.. أي لا يسمح لبعض الأشياء بالدخول في جسمه، ولا يسمح لبعض الأشياء الأخرى بالخروج منه. فإذا أخذنا هذين الاحتياطين كملت طهارتنا. فبالصلاة والصوم معا.. عُلّمنا أن علينا أن نضع في الاعتبار أنه بخروج بعض الأشياء من الجسم يصبح الإنسان غير طاهر، فلا يسمح لها بالخروج: وأنه بدخول بعض الأشياء في الجسم يصبح غير طاهر، فلا يسمح لها بالدخول.

والسؤال الآن: ما هي تلك النجاسات التي يضر خروجها من الإنسان بروحانيته؟ في الأمور الدنيوية نرى أن خروج النجاسة من الجسم هو الخير والأفضل، فهل هناك نجاسات يكون عدم خروجها هو الأفضل؟ نعرف من القرآن الكريم ومن أقوال النبي أن هناك فعلا بعض النجاسات والفسادات التي يكون عدم خروجها هو الأفضل والخير. فمثلا يكون أحد كثير الغضب، فلو ثار غضبه في مناسبة، ولكنه كظم غيظه فإن الله يمدحه ويقول (والكاظمين الغيظ) (آل عمران: 135). فالإنسان الصالح المتقي أيضا يغضب، ولكنه يكظم غيظه.. مثلما يفعل في الصلاة حيث يراعي أن لا يخرج منه أشياء تنقض الوضوء. هناك بعض الكيفيات التي إذا كبتها الإنسان قلّ ظهورها، وإذا تركها حرة ظهرت أكثر. والغضب أيضا من هذه الكيفيات. وفي لغتنا يقولون: لقد أخرجت عليه غضبك فاتركه الآن. أي لقد عبرت عن غضبك بلومه وضربه فاتركه الآن. ولكنه لو كبته وكظمه كسب حسنة. ويقول الرسول : إذا همّ الإنسان بسيئة ولكنه لم يعمل بها وردع نفسه عن فعلها.. فإنه يثاب على ذلك (مسلم، الإيمان). إذن فهناك بعض الكيفيات القلبية التي إذا أظهرها الإنسان بطلت طهارته، وإذا كظمها أصبحت حسنة. وهذا الدرس نتعلمه من الصلاة.

والأمر الثاني ألاّ نسمح لبعض الأشياء بالدخول في أجسامنا، ومثال ذلك الكذب والاستهزاء والنميمة والغيبة وغيرها. فعدم سماع هذه الأشياء أيضا يصبح حسنة. لأن الاشتراك فيها يعرّي الإنسان من الروحانية. فالصوم يعلّمنا أن نتجنب بعض الأمور النجسة التي إذا دخلت في نفوسنا أبطلت روحانيتنا وحرمتنا من قرب الله عز وجل.

فلكي يكتمل الإنسان في الأخلاق السامية لا بد له من مراعاة الأمرين؛ أي لا يسمح لبعض المفاسد من أن تخرج من جسمه، ولا يسمح لبعضها أن تدخل فيه.

وإذا قيل: لماذا أمر الله بالصيام في شهر رمضان فقط، ولم يوزع أيامه على مدار السنة؟ فالجواب أنه إذا لم يعمل الإنسان عملا ما بتواتر ومن دون انقطاع لم يحصل على تدريب صحيح. فلو صمنا كل شهر يومين لم ننتفع منها. الإنسان أحيانا يتأخر عن أكل وجبة بسبب خروجه للنزهة مثلا، وأحيانا لا يأكل طعامه لانشغاله ببعض الأمور.. لكن هل يعوّده هذا على تحمل المشقة والجوع والعطش؟ إن الحكومات أيضا تقوم بتدريب الجنود تدريبًا متسلسلاً، لا ليوم أو يومين في الشهر. فالعمل الذي يؤديه الإنسان أداء متقطعا لا يتدرب عليه، وإنما يحتاج التدريب إلى القيام بالعمل باستمرار وبدون انقطاع. لذلك فرض الله صوم شهر كامل حتى يتعوّد المؤمن على تحمل الجوع والعطش لوجه الله، ويتدرب على قيام الليل، وذِكر الله وتلاوة القرآن وقت النهار، فتزدهر مواهبه الروحانية وترتقي.

فشهر رمضان يأتي من الله تعالى ببركات ورحمات خاصة. إن أبواب نعم الله وأفضاله مفتوحة في كل وقت عموما، ويمكن أن ينهل منها الإنسان متى شاء. فقط هناك حاجة لأن يسأله إياها. وإلا فإن الله لا يتأخر في إعطائها، لأنه سبحانه لا يخذل عباده أبدًا، وإنما العباد هم الذين يتركون باب الله ويذهبون إلى أبواب الآخرين أحيانًا. بعد وقعة بدر رأى النبي امرأة تجري هنا وهناك في قلق وفزع، وكلما رأت ولدا أخذته وضمته إلى صدرها فقبلته وتركته. وفي آخر المطاف عثرت على ولدها، فاحتضنته وجلست مطمئنة. فقال النبي لصحابته: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها) (مسلم التوبة). فليس من الصعب أن ينشئ العبد صلته بهذا الإله الرحيم الكريم. إن كل ساعة بمكن أن تصبح ساعة من رمضان، وإن كل لحظة يمكن أن تتحول لحظة لقبول الدعاء. إذا كان تأخير فإنما يكون من العبد فقط. ومع ذلك فإنه من جليل نعم الله أنه عيّن شهر رمضان للصيام، ولكي يتدرب على الاستيقاظ والتهجد تحت هذا النظام من لا يستطيع أن يستيقظ بنفسه حتى لا تهلكه غفلته.

إذا همّ الإنسان بسيئة ولكنه لم يعمل بها وردع نفسه عن فعلها.. فإنه يثاب على ذلك (مسلم، الإيمان). إذن فهناك بعض الكيفيات القلبية التي إذا أظهرها الإنسان بطلت طهارته، وإذا كظمها أصبحت حسنة. وهذا الدرس نتعلمه من الصلاة.

فتذكروا أن الصيام ليس بمصيبة. لو كان فيه أذى لجاز للإنسان أن يقول لماذا أتأذى به؟ ولكن كما ذكرت من قبل.. فإن الصيام سبب لحماية الإنسان من الأذى والشر والآثام، ووسيلة للقاء الله تعالى. صحيح أن الصوم يبدو في الظاهر سببا للهلاك، لأن الإنسان يضطر فيه إلى الجوع، ويتناول الطعام في غير موعده مما قد يربك معدته، ويسهر ويقل نومه. ثم هو مأمور أن يُكثر من الصدقة، ويزيد من الجود، ويهتم برعاية الفقراء.. ولكن الحقيقة أن هذه التضحيات هي التي تجعله محبوبا لله تعالى، وهي التي تؤدي إلى الرقي القومي.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك