في ظلال أفصح العرب

في ظلال أفصح العرب

غانم محمد غانم

بقلم: غانم أحمد غانم *

قال رسول الله :

“وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلَاً، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ”.

يخبرنا رسولنا الكريم محمد المصطفى ويبشِّرنا بمجيء المسيح الموعود في الزمن الأخير عندما يرتفع الإيمان ولا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فيأتي الإسلام الصحيح ولو كان بالثريا، وكأنَّ الإسلام عاد من جديد، كما قال النبيّ “يَعُودُ الإسْلامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ..”.  فلاحظ انّ الرسول قد أطلق في هذا الحديث اسم “ابن مريم” على المسيح الموعود وكذلك أطلق في أحاديث صحيحة أخرى اسم “عيسى” و”المسيح”.

فمن يكون المسيح الموعود به، ولماذا أطلق الرسول عليه هذه الأسماء.

وللإجابة على هذا السؤال علينا بحث الموضوع من عدة جوانب منها الجانب اللغوي والذي سيكون مدار بحثنا وخاصة موضوع التشبيه.

يقول سيدنا المسيح الموعود :

“فَـتَرَكَ تَفاصيلَ هذا النَّبأ في وَحيهِ، واخْتَارَ إجْمَالاً لَطيفًا مُبْهَمًا كالــــــمُعَمَّى. وجَعلَ هذا الإجمال مُتَحلِّيًا بالاستعارة ومصبوغًا من المجازاتِ والكنايات، وأَبْعَدَ مِنَ الأفهامِ والدراياتِ والقياسات، لِيَبْلُوَهم أيُّهم يتَّبع أمرًا” (الخزائن الروحانية، مرآة كمالات الإسلام ج5 ص425 -426).

يبيّن كيف أنّ الله سبحانه وتعالى استخدم الإجمال والاستعارة والمجاز والكناية في موضوع المسيح وبعثه.

فموضوع التشبيه واسعٌ جدًا ولا تخلو لغةٌ من اللغات إلاّ وموضوع التشبيه له نصيبٌ وافرٌ في الاستخدام العام في المحاورات والاستدلالات وغيرها. وبما أنّ اللغة العربية هي أمُّ اللغات وأصلها ومنها اشتُقَّت باقي اللغات كما أثبت ذلك المسيحُ الموعود فقد اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة كتابه القرآن المجيد. فلا بدَّ أن تكون أمُّ اللغات على الإطلاق في كل الأمور اللغويّة ومنها التشبيه.. والاستعارة.. والمجاز.. والكناية.

إنَّ البلاغة والتشبيه متلازمان، فكلّما كان التشبيه متطابقًا كانت البلاغة أقوى في إعطاء المعنى المراد. ولتوضيح ذلك نورد الجمل التالية. نقول:

  • عليٌّ شجاعٌ مثل الأسد.
  • عليٌّ مثلُ الأسد.
  • عليٌّ أسد.

فالجملة الأولى ذُكِرَ فيها جميعُ أركان التشبيه: المشبَّه، والمشبَّه به، وأداة التشبيه، ووجهُ الشبه. وهذا أبسطُ أنواع التشبيه.

أما الثانية فترتفع بالبلاغةِ درجةً وذلك بحذف وجه الشبه منها.

أما الثالثة فهي أبلغُ من سابقتيها لحذف وجه الشبه وأداة التشبيه منها.

أما إذا قلنا “جاء الأسد”، نقصدُ عليًّا. فهذه أقوى أنواع التشبيه وأبلغه. ولا يُفهَم أنّ عليًّا قد تحوَّلَ إلى الأسد الحيوان المعروف، بل إنّ شجاعته بلغت حدَّ التطابق والمشابهة بشجاعة الأسد.

ولهذا فقد أطلقَ الرسول على المسيح الموعود اسم عيسى، وابن مريم والمسيح. ولم يقصد بأنّ المسيح الإسرائيلي سوف يعود بنفسه لأسبابٍ كثيرة لا تخفى على من أراد الحقَّ، وليس هنا المجال لبحثها. وإنّما أراد رسولنا الكريم بأنّ مسيحًا محمَّديًّا مسلمًا يُبعث لإحياء دين محمد وبالقرآن كما بُعِثَ المسيح الإسرائيلي لإحياء دين موسى عليهما السلام وبالتوراة.

ولأجل هذا التشابه المحكم والتطابق التام من حيث المهمة بين مسيح موسى ومسيح محمد صلوات الله عليهم جميعًا فقد استخدم الرسول أقوى درجات البلاغة، وسمَّى مسيحَه الموعود مسيحًا، وابن مريم وعيسى.

ومزيدًا من التوضيح نقرأ ما يقوله الشيخ ابن القيِّم الجوزيَّة رحمه الله في كتابه “هداية الحيَارى في أجوبة اليهودِ والنصَارى” ص316: «ولم يَزل في عُرفِ الناس ومُخاطباتهم أن يقولوا: فلانٌ هنا، وهو بين أظهُرنا ولم يَمُت، إذا كان عمله وسنّته وسيرته بينهم ووصاياه يُعمَلُ بها بينهم. وكذلك يقول القائل لمن مات: والله ما مات من خلَّفَ مثلك، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذًا لِعالِمٍ تَعلَّم علمه قالوا: هذا فلانٌ باسم أستاذه كما كان يُقال عن عِكرِمة: “هذا ابن عباس”، وعن أبي حامد “هذا الشافعيّ”.

وإذا بعضَ الملكُ نائِبًا يقوم مقامه في بلدٍ يقول الناس: جاء الملك، وحكم الملك، ورسمَ الملك».

لنتأمّل روعةَ ما فهمه الشيخ رحمه الله وما ذهب إليه من المعاني في هذه الأمثلة فإنّه لم يفهم لمن قال لابن المتوفَّى أنا والدك بانّه أصبح والده الحقيقي وإنّما أراد التشبُّه بوالده فأطلق على نفسه “أنا والدك”.

وكذلك يُطلق اسم العالِم على التلميذ النبيه النابغ في علمِ أستاذه ولا يقصد بأنّه تحوَّل إلى نفس الأستاذ.

نقول: إذا كان الإنسان العادي يستطيع أن يستخدم هذه الأمور البلاغيّة في التشبيه والمجاز والكناية كإطلاق أسماء الأشخاص على المشبَّه بها لتطابق التشابه أفلا يجوز للرسول محمد المصطفى وهو أفصحُ العرب أن يفعل نفس الشيء ويُطلق اسم المسيح، وعيسى، وابن مريم، على مسيحِه “غلام أحمد” لمطابقة التشابه بينهما من حيث المهمّة؟؟

وعَوْدًا للشيخ ابن القيِّم رحِمه الله حيث يستشهد بأبيات شعرية لشعراء جَمَّلوها بالتشبيه والمجاز والاستعارة.

قال القائل الشاعر:

ومِنْ عَجَبٍ أّنّي أَحِنُّ إليهم

وَأَسألُ عنهم مَنْ لَقِيتُ وهُم مَعي

.

وَتَطلُبُهم عَيْنِي وهُمْ في سَوَادِهَا

وَيَشْتَاقُهم قَلْبِي، وهُــــمْ بينَ أَضلُعي

وقال آخر:

خَيَالُكَ في عَيِني، وَذِكْرُكَ في فَمِي

وَمَثواكَ في قَلْبِي فَأّنَّى تَغِيْبُ؟؟

قال آخر:

سَاكِنٌ في القَلْبِ يَعمرهُ

لستُ أَنْسَاهُ فَأَذكُره

قال آخر:

إنْ قُلتُ: غِبْتَ فَقَلبِي لا يُصدِّقُنِي

إذْ أَنْتَ فيهِ لَم تَغِبِ

.

أَو قُلتُ: مَا غِبْتَ قَالَ الطَرفُ: ذَا كَذِب

فقد تَحيَّرتُ بينَ الصِّدقِ والكَذِبِ

وقال آخر:

أَحِنُّ إليهِ وهوَ في القَلبِ سَاكِنٌ

فَيَا عَجَباً لِمَن يَحِنُّ لِقَلبِهِ

ما أجملَ وما أروعَ هذا الكلام لما فيه من بلاغة التشبيه والمجاز

ويقول الشيخ بعدها مباشرة: يردُّ على اليهود والنصارى:

“مَنْ غَلُظَ طبعه وَكَثُفَ فهمه عن فَهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أنَّ ذاتَ الله سبحانه وتعالى سَتَحِلُّ في الصورة البشريّة وتتحدّد وتمتزج بهما.. تعالى الله عمّا يقو الكافرون عُلوًّا كبيرًا.

اللهم لا تجعلنا ممن غَلُظَ طبعه وكثُفَ فَهمه كما حدث مع اليهود والنصارى، وافتح اللهم قلوبنا وقلوب إخواننا المسلمين إلى الإيمان بالمسيح

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ .

Share via
تابعونا على الفايس بوك