سبب إخفاء تفاصيل النبأ الغيبي

وفي اختيار هذا الطور الأخفى مصلحتان عظيمتان رآهما الله لعباده أنسبَ وأَولى. أما الأُولى فهي أن هذا النبأ كان من أنباء غيبية، وكان زمان ظهوره بعيدًا جدا، وكان الله يعلم أنه لا يظهره إلا بعد انقضاء أزمنة طويلة، وعصور مديدة، وارتحال كثير من الأمم من هذه الدنيا، وكان يعلم أنه لا فائدة للأولين في تصريح هذا النبأ المجمل وتفاصيله العظمى، وكان يعلم أنهم يموتون كلهم قبل ظهور ذلك النبأ وما يجديهم تفاصيله نفعا. فأراد أن يعطيهم ثواب الإيمان بعوض ما فات منهم ويهب لهم بعد إيمانهم أجرا حسنا. فترك تفاصيل هذا النبأ في وحيه واختار إجمالا لطيفا مبهَما كالمعمَّى. وجعل هذا الإجمال متحليا بالاستعارات، ومصبوغا من المجازات والكنايات، وأبعدَ من الأفهام والدرايات والقياسات، ليبلوهم أيهم يتبع أمرا. فآمنوا فرضي الله عنهم وجزاهم خير الجزاء، لأنهم أحسنوا الظن في الله ورسوله، وآمنوا بما لم يعرفوا حقيقته ولم يدركوا ماهيته أصلا.

وأما الثانية.. فإنه أراد – جل اسمه – ليبتلي الآخرين كما ابتلى الأولين، ليغفر لهم ذنوبهم ويهيّئ لهم عند إيمانهم رشدا. وكانوا يعملون السيّئات من قبل وأضاعوا فيها قرونا وحُقُبا. وغلبت عليهم الشهوات حتى لم يملكوا أنفسهم، وحصدوا زروعها في الأهواء، وشابهوا صعيدًا جُرُزا. فأظهر الله ذلك النبأ المجمل المستور خلاف زعمهم ليبتليهم به رشدا وعلما وفهما، وليعطي المؤمنين كِفْلَين من رحمته ويجعل لهم لرضائه سببا. وكان هذا كله ابتلاءً من عنده ليميز المؤمنين المخلصين من غيرهم، ويتوب عليهم فضلا ورحما، وليُخزي عقول الذين استكبروا في أنفسهم واتخذوا عبد الله وتبليغه سُخْرة وهُزُوا. وكذلك أمر الله، إذا شاء ابتلاءَ قوم مذنب.. فربما يلبس عليهم نبأً موعودًا، ويقلب عقولهم وأفهامهم، فلا يفهمون سرَّ وعد الله ولا موعدا، ليذيقهم سوء ما عملوا من قبل ويجعلهم من الذين عادَوا عبدًا صادقا، وزادوا حَيفًا وشَطَطا. فينكّر تأويل النبأ في أعينهم فيحسبونه شيئًا فَرِيًّا مختلَقا. وما يحلّقون إلى حيث يحلّق ذو النهى، ولا يرون الإشاراتِ المطويّة في ذلك النبأ الأخفى، ولا يخافون فتنة الله التي تصيب المجرمين خاصّة ويجادلون كالأعمى. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون بنوع من الابتلاء؟ وقد خلت سنن الله في مثل ذلك، وفيها عبرة لكل قلب يخاف ويخشى.

فاعتبروا يا أولي الأبصار.. واسألوا أهل الذكر إن كان الأمر عليكم مشتبها. أعجِبتم أن أتتكم سنة الأولين قبلا؟ أعجبتم أن أرسل الله إليكم حكما كاشفا لسر هذا النبأ، فنضا الحكم عن وجه النبأ سترا؟ أهذا في أعينكم أمر منكر، ونسيتم ما قيل لكم إن المسيح يأتي إليكم حَكَمًا عَدْلا؟ فما لكم لا تقبلون قول حَكَمكم.. أتنسون ما قال النبي وأوصى؟ وإن تحسبون أنكم على صدق وحق.. فلولا تأتون عليه بنظير من قبل.. وقد قال الله إن لسننه نظائر في الأمم الأولى. أتعرفون بشرا رفع إلى السماء ثم نزل بعد قرون كما تظنون في عيسى؟ ووالله إن هذا خارج من سنن الله ولن تجدوا من مثله في كتب الله أثرا. وقد قرأتم في الصحاح أن المسيح لحق بميتين من إخوانه، واتخذ مقامًا عند أخيه يحيى. وقد وعد الله للذين تُوُفّوا مسلمين أنهم لا يُردّون إلى الدنيا، ويمكثون في دار السعادة أبدا. وقال النبي إني أُخبرت أني أعيش نصف ما عاش عيسى، وفي ذلك دليل على وفاة المسيح لمن كان لـه قلب أو يمعن النظر وهو يرى. فليحكم أهل الحديث بما جاء من النبي في الصحاح، ولا يجادلوا بأحاديث نزوله قبل أن يثبتوا صعوده بجسمه إلى السماوات العلى. ولو شاء الله لفتح آذانهم، وبصّر أعينهم، وفهّم قلوبهم، ولكن ليبلوهم فيما آتاهم، وليخزي الله من أراد خزيه في الدنيا والعقبى. ولو أن أهل الحديث آمنوا واتقوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم وكتبهم في الصادقين، ولكن بخلوا واستعجلوا، واختاروا لأنفسهم عوجا، واتبعوا أقدام السفهاء الذين خلوا من قبل، ونسوا كل ما ذُكّروا به، وطلبوا لِدنياهم مرفقا. فلا يضرون الله شيئا من مكائدهم، وإن كانوا ليزيلوا من كيدهم جبلا. ولا تحسَـبُنّهم بمفازة مِن أخذ الله، ولا تحسبوا عداوة الحق أمرا هينا. والله يتم وعده وينصر عبده، فإن جنحوا للسلم فهو خير لهم، وإن عتَوا فسيريهم الله ذلا وخزيا.

وقد أتممت عليهم حجتي، وقرأت عليهم براهين صدقي، فما نظروا من الإنصاف نظرا. ألا يرون أن الله أخبر من وفاة المسيح في مقامات شتى؟ والقرآن كله مملوّ من ذلك، ولا تجد فيه لإثبات حياته حرفا أو لفظا. ونهاك قول المسيح في القرآن: وكنتُ عليهم شهيدًا ما دمتُ فيهم فلمَّا توفَّيتَني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم[1] . فانظر كيف يثبت من ههنا أن المسيح توفي وخلا. ولو كان نزول المسيح ومجيئه مقدرًا ثانيا لذكر المسيح في قوله شهادتين ولقال مع قوله: كنت عليهم شهيدًا وأكون عليهم شهيدا مرة أخرى.. وما حصر في الشهادة الأولى. وقال الله تعالى: فيها تحيون ،[2] فخصص حياة الناس بالأرض كما خصص موتهم بالثرى. أتتركون كلام الله وشهادة نبيه وتتبعون أقوالا أخر؟ بئس للظالمين بدلا!

أيها الناس.. قد أعثرني الله على هذا السر وعلّمني ما لم تعلموا، وأرسلني إليكم حكما عدلا، لأكشف عليكم ما كان عليكم مستترا. فلا تماروا ولا تجادلوا، وتدبروا في قوله: يا عيسى إني متوفيك ، واقرؤوا هذه الآية إلى قوله: يوم القيامة ثم أَمعِنوا النظر يا أولي النهى! وانظروا كيف افتتح الله من وفاة المسيح، وذكر كل واقعة بترتيب طبعي تتعلق بعيسى، حتى اختتمها على يوم القيامة، ولم يذكر من نزول المسيح في هذه السلسلة شيئًا، وما أحدث في هذا الأمر ذكرا. وما كان نزوله عند الله إلا نزول إراداته وتوجهاته على المظهر الذي قام مقامه وقرب به استعدادًا ودنا. فلَوّنه بلونه، وصَبّغه بصبغه، حتى صار المظهر مستغرقًا مغمورًا في معنى الاتّحاد، وشابه عينَ أصلِه في القُوى، وتقاربت مداركه بمداركه، وأخلاقه بأخلاقه، وجوهره بجوهره، وطبيعته بطبيعته، حتى صارا كشيء واحدٍ، وكان اسمهما واحدًا في الملأ الأعلى.

[1] سورة المائدة: 118

[2] سورة الأعراف: 26

Share via
تابعونا على الفايس بوك