شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه
  • أحوال النبي مع زوجاته
  • علو أخلاق النبي وسموها
  • كيف كان رسول الله يضبط نفسه وأعصابه؟
  • عدالته ونزاهته في التعامل مع الناس
  • احترامه وتقديره ورعايته للفقراء وصيانة مكاسبهم
  • تعاليمه تجاه معاملة للنساء والعبيد

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

وجاء الزمن الذي كان يمكنه أن يفعل شيئًا من نوع الثأر، لو كان قد ترسّب في نفسه شعور مخزون عن ذلك. لكن الذي حدث أنه أخذ على عاتقه كفالة وتربية اثنين في بيته من أبناء عمه هذا، وهما عليّ وجعفر. ولقد تحمل المسئولية على أعلى مستوى ممكن.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام.

حاله مع أزواجه

كان عطوفًا كل العطف وعادلاً كل العدل مع زوجاته، وإذا أخطأت إحداهن في موقف ما ولم تفِ بما عليها من واجب الاحترام تجاهه، فإنه كان يبتسم ويمرّر الأمر. وقال يوما للسيدة عائشة: “إني لأعرف إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى”. قالت: “من أين تعرف ذلك”؟ فقال: “أمّا إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا وربّ محمد، وإذا كنت عليّ غضبى قلت: لا وربّ إبراهيم”. قالت: “أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك” (البخاري، كتاب النكاح).

كانت السيدة خديجة هي أوّل أزواجه، وقد ضحّت أعظم التضحيات معه، وكانت تكبره سنًّا. وبعد وفاتها تزوّج بنساء أصغر سنًّا، لكنّ ذكراها لم تخفت في قلبه. وعندما كانت تزوره صديقة من صديقات السيدة خديجة، كان ينهض قائمًا ليستقبلها (مسلم). وإذا تصادف ورأى شيئًا يخص السيدة خديجة، كان قلبه ينبض بالعاطفة في الحال، ويفيض وجدانه بالحنين إلى ذكرياته معها. وحدث أن كان زوج ابنته زينب من بين أسرى المسلمين في معركة بدر، ولم يكن يملك شيئًا يفتدي به نفسه، فبعثت زينب إلى المدينة بقلادة تفتَدي بها زوجها، وكانت القلادة أصلاً لأمّها السيدة خديجة. وعندما رأى الرسول القلادة عرفها، وتأثر لرؤيتها، ورقّ قلبه، فاستأذن أصحابه أن يردّوها إليها ويطلقوا لها زوجها، فقبل الصحابة ذلك بسعادة بالغة لما قال لهم إن القلادة كانت هديّة الزفاف من السيدة خديجة إلى ابنتها (السيرة الحلبية ج2). وكان كثيرًا ما يمدح السيدة خديجة أمام أزواجه الأخريات، ويذكر كم ضحّت في سبيل الإسلام. فغارت السيدة عائشة من ذلك يوما وقالت: “كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة”. فتأثر الرسول كثيرًا لقولها وقال لها إنها كانت وكانت، وراح يذكر ويعدّد أعمالها ومناقبها (البخاري).

علوّ أخلاقه وسموّها

كان الرسول صبورًا دائمًا في المحن، ولم يتراجع أبدًا أمام الظروف الصعبة والابتلاءات، ولم يدع الأهواء الشخصية تستولي عليه. ولقد عرفنا أن أباه قد توفي وهو جنين لم يولد بعد، وتُوفيت أمه صغيرًا ليكفله جدّه حتى الثامنة من عمره. وبعد وفاة هذا الجد بعد ذلك بقليل، كفله عمّه أبو طالب. كان أبو طالب يرعَى الصغير ويعطف عليه، وكان يتسامح معه لسببين أوّلهما العاطفة الطبيعية نحو ابن أخيه، وثانيهما لأن عبد المطلب جدّ الرسول كان قد أوصاه به. ولكن زوج أبي طالب لم تكن تحمل للصغير نفس الشعور، ولم تكن تحكمها نفس الاعتبارات. لذلك كان يحدث أحيانًا أن تقسم شيئًا ما بين صغارها هي، تاركة ابن عمّهم الصغير دون نصيب. فإذا تصادف أن دخل أبو طالب المنْزل في ظرف كهذا، فإنه كان يجد ابن أخيه الصغير جالسًا على جانب، دون أثر للعبوس أو الضيق أو الإحساس بالضّيْم على وجهه، وكأنه تجسيد تام للشعور بالكرامة، فيسرع العم إلى الصغير مدفوعًا بدواعي العاطفة الجائشة وإحساسه ووعيه بالمسئولية فيضمّه إلى صدره صائحًا: “انظروا إلى طفلي هذا أيضًا.. انتبهوا إلى طفلي هذا أيضًا”. كان هذا يحدث مرات عديدة، ومن شهدوا هذه الوقائع أجمعوا على أن محمدًا، الصبيّ والشاب، لم يبد مرة واحدة أية بادرة تدل على أنه قد تأثر بهذه التفرقة، أو أنه كان لديه أيّ شعور بالغيرة من أبناء عمه. ومضت الحياة، وجاء الزمن الذي كان يمكنه أن يفعل شيئًا من نوع الثأر، لو كان قد ترسّب في نفسه شعور مخزون عن ذلك. لكن الذي حدث أنه أخذ على عاتقه كفالة وتربية اثنين في بيته من أبناء عمه هذا، وهما عليّ وجعفر. ولقد تحمل المسئولية على أعلى مستوى ممكن.

وعندما علم الرسول بذلك طلب منهم الاختيار بين إرخاء الحبل عن الجميع أو إعادة شدّ رباط عمه العباس، وأمرهم بالعدل في معاملة جميع الأسرى. عند ذلك قام الصحابة من جهتهم بإرخاء رباط الجميع وتشديد الحراسة عليهم

لقي الرسول الكريم خلال حياته تجارب متوالية كانت أشد وقعًا من ذلك، فقد وُلد يتيمًا، وماتت أمه وهو طفل صغير، وفقد جده وهو في الثامنة من عمره، وبعد زواجه عانى ثكل عدة أبناء واحدًا بعد الآخر. وبعد ذلك فقد زوجته الحبيبة وقرينته المخلصة السيدة خديجة. ولقد ماتت عدّة أزواج له ممن تزوجهن بعد السيدة خديجة. وعند قرب وفاته تحمل آلام الحزن على فقد ابنه الصغير إبراهيم. لقد تحمّل جميع هذه المصائب برضًى وسكينة، ولم تتأثر رقّته ودماثته ولا عزيمته بتوالي المحن عليه.

ولم يُنفّس أبدًا عن أحزانه الخاصّة جهْرة على الملأ، وكان يلقَى كل إنسان بوجه بشوش عذب. وعامل الجميع على السواء بنفس الإحساس ولطف المعشر. وفي مرة رأى امرأة تبكي على قبر ابنها الفقيد بلوْعة، وتصرخ متألمة، فنصحها بالصبر وقبول إرادة الله. ولم تكن المرأة تعرف أنّ محدثها هو الرسول الكريم ، فردّت عليه قائلة: “إليك عني فإنك لم تُصب بمثل مصيبتي”. ثم قالت له المرأة لو أنه فقد ابنه مثلها لعرف مدى صعوبة الصبر على تلك المصيبة، فأخبرها أنه فقد سبعة من أبنائه لا واحدًا فقط، واستمر في طريقه. ولم يكن يفكر كثيرًا فيما أصابه من مصائب، إلا إذا أرجعته حادثة كهذه ليذكرها، ولكنه لم يتركها تحول دون أداء مهمته في خدمة الإنسانية التي أرسله الله تعالى من أجلها، ولا في القيام بما كلّفه به سبحانه من حمل أعباء الناس، ومشاركتهم أحمالهم وأثقالهم وآلامهم بكل رضًا وسرور.

ضبـط النفـس

لقد كان في حالة دائمة من السيطرة على النفس، وكان يعرف كيف يتحكّم تمامًا في مشاعره، خاصة عندما يخطئ الآخرون في أسلوب تعاملهم معه. وحتى عندما أصبح حاكمًا، كان يستمع لكل شخص في صبر وأناة. وعندما يعامله شخص بوقاحة، كان يتحمله ولم يحاول أبدًا الانتقام لشخصه. ومن المعروف لدى العرب أنهم عندما يخاطبون إنسانًا ويظهرون له الاحترام، فإنهم لا ينادونه باسمه المجرّد. وقد اعتاد المسلمون خطاب الرسول بقولهم “يا رسول الله”، ولم يتعوّد أيّ من المسلمين أن يناديه بأبي القاسم (القاسم اسم أحد أبنائه). وفي أحد الأيام، جاءه يهودي في المدينة وأخذ يحاوره، وخلال المحاورة كان يناديه باسمه المجرّد: يا محمد، يا محمد. ولم يعر الرسول اهتمامًا لأسلوب خطابه، واستمر في شرحه لموضوع الحوار صابرًا. فغضب أصحاب الرسول لجفاء الخطاب من هذا المتحدّث، حتى إنّ أحدهم لم يتمالك نفسه فقال لليهودي ناصحًا إياه أن يخاطب الرسول بكنيته “أبا القاسم” لا باسمه المجرّد. فقال اليهودي إنه يناديه بالاسم الذي سماه به أبواه. فتبسّم الرسول وقال: “لقد صدق، لقد سميت محمدًا عندما وُلدت، ولا ضير عليه أن يناديني باسمي”. وأحيانًا كان الناس يستوْقفونه في الطريق، وينخرطون معه في حديث، ويشرحون له حاجتهم، ويقدّمون له مطالبهم، فكان دائمًا يقف معهم صابرًا حتى ينتهي صاحب الحاجة ويمضي، وبعد ذلك يتحرك هو. وأحيانًا كانوا يلقونه فيصافحه أحدهم، ويحتفظ بيد الرسول في يده لبعض الوقت، فلم يكن يسحب يده من يد مصافحه أولاً، مع أنه كان يجد في هذا مضيعة لبعض الوقت، وتصرّفًا غير ملائم.

وكان الناس يذهبون إليه دون صعوبة، ويضعون أمامه مشاكلهم ومعاناتهم ويطلبون معونته، فإن كان يستطيع المساعدة فلا يتردّد في تقديمها. وأحيانًا كانوا يلاحقونه بالمطالب المتطرّفة ويضغطون عليه بها، فيستمر في الاستجابة لهم طالما كان قادرًا على التلبية. وأحيانًا بعد تلبية المطلب كان ينصح السائل أن يثق في الله أكثر وألا يسأل الناس. ومرة سأله أحد المسلمين المخلصين عدة مرات، فكان يعطيه في كل مرة، وفي النهاية قال له إن الأجمل للمسلم أن يضع ثقته في الله تعالى وألا يسأل الناس شيئًا. وكان هذا الشخص وفيًّا لهذه النصيحة، فلم يردّ للرسول ما أعطاه رعاية لمشاعره، لكنه قرر في الحال أنه لن يسأل أحدًا بعد اليوم شيئًا مهما كانت الظروف. وبعد سنوات كان هذا المسلم مشتركًا في معركة من المعارك راكبًا على فرس، فسقط منه سَوطه في معمعة القتال والضجيج الثائر، بينما كان اشتباك السيوف واختلاط الرماح في قمته، فانحنى أحد المسلمين من الجند المشاة على السوْط ليلتقطه له، فرفض ذلك المسلم الفارس، وهبط عن حصانه والتقط سَوطه بيده بنفسه. ولما رأى المسلم الماشي ذلك تعجّب، فشرح له كيف أنه منذ وعد رسول الله ألا يسأل أحدًا شيئًا فإنه يفي بذلك، ولو أنه سأله أن يناوله سوطه فإنه يخشى أن يكون بذلك قد نقض هذا الوعد.

العدالة ونزاهة التعامل

كانت المحاباة شائعة في العرب، وكانوا يطبّقون معايير عدة في التعامل مع الأشخاص، وحتى في يومنا هذا نرى أنهم في بعض الأمم المتحضرة يحجمون عن محاسبة المشاهير وأصحاب المناصب الرفيعة على أعمالهم، بينما يُطبق القانون بكل صرامة ضد الشخص المواطن العادي. لكن الرسول كان فريدًا في معاملة الجميع بعدالة ونزاهة متساوية. ومرة جيء بقضية اتهمت فيها امرأة بالسرقة، وكانت المتهمة من عائلة ذات مكانة وشأن، وقد ثبتت عليها التهمة. ولقد أحدث هذا الأمر فزعًا كبيرًا، إذ لو طُبقت عليها عقوبة السارق، فإن العار والمهانة ستلحق القبيلة بأسرها من جرّاء ذلك. وقد أراد الكثير من الناس أن يطلبوا من الرسول الشفاعة فيها، ولكنهم كانوا يخشون من هذه الوساطة. وفي النهاية أخذ أسامة بن زيد على عاتقه هذه المهمة، وذهب إلى الرسول ، وما إن شعر بالأمر حتى تغير وجهه وقال: “حسبك، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها” (البخاري، كتاب الحدود). ولقد رُوي أن العباس، عمّ رسول الله، كان قد أُسر في بدر، وتم ربطه بحبل شأنه شأن بقية الأسرى لمنعه من الهرب، وكان الحبل مشدودًا على العباس بقوة حتى إنه كان يئن ليلاً، وسمع الرسول أنينه ولم يستطع النوم. فشعر بذلك أصحابه، وأرخوا الحبل قليلاً عن العباس، وعندما علم الرسول بذلك طلب منهم الاختيار بين إرخاء الحبل عن الجميع أو إعادة شدّ رباط عمه العباس، وأمرهم بالعدل في معاملة جميع الأسرى. عند ذلك قام الصحابة من جهتهم بإرخاء رباط الجميع وتشديد الحراسة عليهم (الزرقاني ج3).

وحتى في ظروف الحرب وما تقتضيه من ضرورات قاهرة، كان شديد الاهتمام بمراعاة القواعد السليمة واحترام المعاهدات والأعراف المعتمدة. وقام مرة بإيفاد جماعة من أصحابه في حملة استطلاعية فواجهوا بعضًا من رجال العدوّ في آخر يوم من شهر رجب، أحد الأشهر الحرُم، وظنّوا أن من الخطورة عليهم أن يدعوهم يفلتون ليحملوا إلى مكة خبر هذه الجماعة الاستطلاعية القريبة منهم فهاجموهم. وأثناء القتال قُتل أحد أفراد العدوّ، وعندما رجع هذا الوَفد الاستطلاعي إلى المدينة، راح أهل مكة يعترضون على ما حدث قائلين إنّ المسلمين انتهكوا حرمة الشهر الحرام وقتلوا رجلاً منهم.

كان أهل مكة ينتهكون حرمة الأشهر الحرُم ضد المسلمين متى كان ذلك ملائمًا لهم حسب هواهم، وكان من الممكن الردّ على اعتراضهم ردًا مناسبًا بالقول إنهم أيضًا ينتهكون حُرمة الأشهر الحرم، فلا يحقّ لهم أن يطالبوا المسلمين أن يلتزموا بذلك. ولكنّ الرسول لم يكن ليستعمل مثل هذا الرد. لقد ألقى باللائمة على أفراد الحملة بشدة، ورفض قبول الغنائم التي غنموها بل إنه قد أدّى دية القتيل كما جاء في إحدى الروايات، حتى نزلت الآيات من عند الله تعالى، فأوضحت الأمر برمّته (البقرة: 218).

ويحافظ الناس عمومًا على مشاعر أصدقائهم وأقاربهم فلا يجرحونها. ولكن الرسول كان يشدّد على مراعاة هذا الأمر باعتباره حقًّا للجميع، حتى بالنسبة للذين يقفون منه موقف المعارضة. وحدث مرة أن جاءه يهودي وشكا إليه أنّ أبا بكر قد أساء إلى مشاعره حين قال له إنّ محمدًا أعظم من موسى. فاستدعى الرسول أبا بكر وسأله عما حدث، فقال لـه إنّ اليهودي هو الذي بدأ فقال حالفًا: “لا والذي فضّل موسى على البشر”. فردّ عليه أبو بكر بقوله: “لا والذي فضّل محمدًا على البشر”. فقال الرسول بأنه ينبغي للمسلمين ألا يفعلوا ذلك رعاية لمشاعر الآخرين، وأمر ألا يفضّله المسلمون على موسى (البخاري، كتاب التوحيد).

ولا يعني هذا أن محمدًا ، ذلك الرسول الكريم العظيم، لا يتسنّم مكانة عند الله أعلى من موسى ، ولكنه قصد أن تصريحًا كهذا يطلقه المسلم في وجه يهودي جدير أن يجرح مشاعره، وهذا شيء يجب تجنبه تمامًا.

احـترام الفقـراء

كان الرسول يعمل دائمًا على تحسين أحوال الفقراء في المجتمع، كما كان يهتم برفع مكانتهم في المجتمع الإنساني. كان رسول الله يومًا في أصحابه جالسين معه، فمرّ عليهم رجل من الأثرياء، فسأل رسول الله أصحابه: “ما تقولون فيه”؟ فردّوا عليه قائلين: “هذا حريّ إن قال أن يُسمع لـه، وإن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن تُقبل شفاعته”.

وبعد قليل مرّ رجل آخر، وكان فقيرًا معدمًا، فسألهم الرسول عنه كالأول. فردّوا عليه قائلين: “هذا حريّ إن قال ألا يُسمع له، وإن خطب ألا يُنكح، وإن شفع ألا يُقبل منه”. وكانت المفاجأة في ردّ الرسول عليهم فقال: “إن هذا الفقير خير من ملء الأرض مثل الغني” (البخاري، كتاب الرقاق).

وكانت امرأة مسلمة فقيرة تقصد مسجد الرسول في المدينة فترفع منه القمامة. ومرت بضعة أيام لم يرها الرسول فيها، فسأل عنها مهتمًا، فأخبروه أنها ماتت. فقال: “أفلا كنتم آذنتموني بها، دلوني على قبرها، (وكان يقصد بذلك لومهم على تصوّرهم أنها لا تستحق التقدير لفقرها). فدلوه، فأتى قبرها فصلى عليها صلاة الجنازة. وكان يقول: “رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه لـه، لو أقسم على الله لأبرّه.” (كنـز العمال، الإكمال من الخمول رقم الحديث: 5953)

وفي مرة كان بعض أصحابه جالسين معًا، ممن كانوا قبل ذلك عبيدًا وتحرروا، فمر بهم أبو سفيان الذي كان قائدًا عظيمًا، وظل يقاتل المسلمين حتى فتْح مكة ثم أسلم حينئذ. وهنا أخذت المجموعة تُذكّره بالنصر الذي وهبه الله للإسلام وهزيمة المعارضة المسلحة، فسمع أبو بكر ذلك فلم يرض عن قولهم، ووبّخ المجموعة قائلاً: “أتقولون هذا لسيد قريش؟‍” ثم ذهب إلى الرسول وروَى لـه القصة، فقال له: “يا أبا بكر! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك”. فعاد إليهم أبو بكر لتوّه وأخذ يسترضيهم قائلاً: “يا إخواني، هل أغضبتكم”؟ وظل يناشدهم حتى قالوا له إنهم لم يشعروا بأية إساءة مما قال، ودعُوا الله تعالى أن يغفر لـه (مسلم-كتاب الفضائل).

وبينما كان الرسول يحثّ على احترام الفقير، وعدم جرح إحساس المسكين، وبذل كل جهد لقضاء حاجتهم، والحضّ على إطعامهم، فإنه في نفس الوقت كان يطلب منهم الإحساس التام بالعزّة، وعلّمهم أن يتجنبوا السؤال. وكان يقول: “إن المسكين ليس هو الذي تردّه التمرة ولا التمرتان، أو اللقمة واللقمتان، ولكن الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن لـه فيتصدق عليه” (البخاري، كتاب الزكاة). وكان يقول: “إن الله تعالى يبارك الوليمة عندما يُدعى إليها المسكين”. وروَت السيدة عائشة أنّ امرأة مسكينة زارتها ومعها ابنتان لها صغيرتان، ولم تكن السيدة عائشة آنئذ تملك غير تمرة واحدة فأعطت المرأة التمرة، فقسمت المرأة التمرة بين ابنتيها وانصرفت. وجاء الرسول البيت فقصّت عليه السيدة عائشة القصّة، فقال لها: “من رزقه الله من هؤلاء البنات شيئًا فربّاهن وأدّبهن كنّ له سترًا من النار، وأخبرها أن الله تعالى قد وهب الجنة لهذه المرأة لعطفها على ابنتيها”. (مسلم)

وسمع يومًا أنّ أحد أصحابه الأغنياء يتفاخر بثروَته على آخرين، فراح يعلمهم ألا يظن أحد أن الثروَة والمكانة والقوّة تأتي من جهد الشخص الخاص، ولكن ليعلموا أنّ هذه الثلاثة تُكتسب من خلال هؤلاء الفقراء.

وكان من دعائه : “اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين” (الترمذي، كتاب الزهد).

وفى أثناء مروره في الطريق مرة، وكان الجو حارًا، لاحظ أحد المسلمين يحمل حملاً ثقيلاً من مكان إلى آخر، وكان الرجل فقيرًا جدًّا، شديد البساطة يكسوه العرق والتراب، وتزيده الكآبة البادية على وجهه بؤسًا. فلم يتأفف منه الرسول ، واقترب منه يداعبه، فوقف خلفه ووضع يديه على عيني الرجل ليخمّن من هو؟ وتحسّس الرجل بطرف يده الخالية وجه الرسول من خلفه وأدرك أنه هو، ولعل ما ساعده على معرفة الرسول أنه لم يكن يظن أنّ أحدًا يقبل إظهار هذا التعاطف مع رجل في مثل هيئته المزرية إلا الرسول الكريم ، وتشجّع فانضوى في صدر الرسول ، ولعله كان يريد أن يعرف إلى أي مدى يمكنه أن ينال عطف الرسول . وابتسم ولم يزجره، بل قال له مداعبًا: “لديّ عبد فهل يريد أحدٌ أن يشتريه”؟ وأدرك الرجل أنه المراد من الدعابة، فقال إنه لا يرى أحدًا يقبل أن يشتري من هو مثله. فطمأنه الرسول وأخبره بأن لـه عند الله تعالى قيمة عظيمة. (شرح السنة)

ولم يقتصر على مراعاة الفقراء دَومًا بنفسه، بل كان أيضًا يحثّ الآخرين دائمًا أن يفعلوا ذات الشيء. وروَى أبو موسى الأشعري أن الرسول كان إذا جاءه سائل التفت إلى من حوله يطلب منهم مساعدته والاشتراك في فضل العمل الصالح وإشاعته في الناس (البخاري ومسلم)، وهدفه من ذلك أن يغرس في نفوس أصحابه مشاعر اللهفة إلى مساعدة الفقير، ومن ناحية أخرى يضع في وجدان المحتاج إحساسًا مؤكدًا بالعطف والتعاطف الذي يحمله تجاههم إخوانه الموسرون.

صيانة مكاسب الفقراء

عندما تحقق نصر الإسلام وبدأ قبوله على نطاق واسع في جزيرة العرب، تلقّى الرسول عندئذ مبالغ كبيرة من الأموال، فقام بتوزيعها على الفور بين المحتاجين إليها. وجاءته ابنته فاطمة ذات مرة، وأرته راحتي يديها وقد تصلبتا وغلظ جلدهما بسبب الرّحَى التي تطحن بها الحب، وسألته أن يكون لها عبد يعينها على هذا العمل، فأجابها الرسول: “ألا أدلك على خير لك من عبد، إذا ذهبت إلى فراشك فسبّحي الله ثلاثًا وثلاثين، واحمديه ثلاثًا وثلاثين، وكبريه ثلاثًا وثلاثين، فإن فعلت فإنه خير لك من عبد” (البخاري).

وفى إحدى المرّات كان يوزع بعض المال، وحدث أن سقطت من يده قطعة نقد وتدحرجت حتى غابت عن بصره أثناء عدّ المال. وانتهى التوزيع، وذهب الرسول إلى الصلاة فأمّ الناس. وكان من عادته أن يمكث بعد الصلاة قليلاً مشغولاً بحمد الله وتسبيحه، ثم يردّ بعدها على أسئلة الناس أو يجيب مطالبهم. ولكنه هذه المرة سارع بعد الصلاة مباشرة وعاد إلى البيت حالما تذكر أمر القطعة النقدية الساقطة، وبحث عنها ليدفعها إلى محتاج؛ لقد خشي أنه إن لم يفعل فقد يقف أمام الله ليسأله عن ذلك، فكان هذا سبب تركه المسجد مسرعًا ليجد القطعة النقدية (البخاري). ولم يدّخر وسعًا في بحثه الدائب عن وسيلة لحفظ مكاسب الفقراء والمحتاجين، حتى لقد أعلن أن آله لا تجوز عليهم الصدقة، ولا يأكلون الصدقات، خشية أن يندفع المسلمون بصدقاتهم على آل محمد لشدة حبهم وإخلاصهم له، فيجوروا على حقّ الفقراء والمحتاجين الذي أوجبه الله في الصدقات.

«حسبك، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»

ومرة جاءه رجل بكمية من تمر وعرضها عليه على أنها صدقة، وجاء حفيده الإمام الحسن، وكان عمره عامان فقط، فالتقط منها واحدة ورفعها إلى فمه، فوضع الرسول أصابعه لفوره في فم الطفل وأخرج التمرة منه وهو يقول: “كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة” (البخاري).

معاملته للعبيد

ولقد حض الذين يملكون عبيدًا على أن يحسنوا معاملتهم دائمًا والعطف عليهم، وأعلن أن من أساء معاملة عبده أو ضربه فكفارة ذلك عتقه (مسلم، كتاب الإيمان). ولقد وضع الوسائل لتحرير العبيد وشجّع على ذلك بكل ذريعة ومبرر، وكان يقول: “إن من أعتق عبدًا أعتق الله من النار بكل جزء من أجزاء جسد العبد جزءً من جسد من حرّره”. وأعلن كذلك أنّ العبيد لا يُكلّفون عملاً فوق الطاقة بل يُؤمرون فقط بما في طوقهم، وأنّ السيد إذا أمر عبده بعمل فعلى السيد أن يعين عبده حتى لا يحس العبد بمهانة (مسلم). وإذا سافر السيد مع عبده فعلى السيد أن يشرك معه العبد في الراحلة يركبانها معا أو يتعاقبانها الواحد بعد الآخر. وكان أبو هريرة يقضي كل وقته مع الرسول بعد أن هاجر إليه مسلمًا، ولقد سمع الرسول مرارًا يوصي بحسن معاملة العبيد، وكان أبو هريرة يقول إنه لولا صحبة الرسول وشهوده معه المعارك وأداء الحج معه، ولولا واجب خدمة أمّه العجوز، لتمنى أن يموت عبدًا من كثرة ما سمع الرسول الكريم يوصي دائمًا بالعبيد، وأن يعامَلوا بلطف وحسن المعشر.

وروَى معرور بن سُوَيْد أنه رأى أبا ذر الغفّاري يلبس ثوبًا يماثل الثوب الذي يرتديه عبده، فسأله عن السبب في هذا فقال: “لقد عيّرت رجلا بأمّه لأنها كانت أمَة، وكان ذلك أيام حياة الرسول فوبخني الرسول قائلاً: “أعيرته بأمّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم، خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله لـه سلطانًا على أخيه فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلّفه ما لا يطيق، وليُعنه ما استطاع أو إذا سأله”.

وفى مناسبة أخرى قال الرسول ما معناه: “إذا طبخ لك عبدك طعاما وقدّمه لك، فأجلسه معك ليأكل، وإلا فليذق منه نصيبًا تقتطعه له، إنه هو صانعه فله إذن حق فيه”. (مسلم)

معاملة النساء

كان رسول الله معنيًّا كل العناية بتحسين ظروف حياة النساء في المجتمع الإنساني، ولتأمين مكان كريم لهن يضمن العدالة والإنصاف في معاملتهن. والإسلام أول دين أعطى المرأة حق الإرث، وأعطى القرآن البنات الحق مع البنين أن يرثن مما ترك الوالدان. وجعل الأم وريثة لابنها وابنتها وجعل الزوجة وارثة لزوجها، مما تركوا من مال. وإذا ورث أخ من مال أخيه المتوفى فإن أخته ترث معه كذلك من هذه التركة، ولم يحدث لأيّ دين قبل الإسلام أن قنّن حقّ النساء في الميراث أو أن يملكن ثروة خاصة بهن. والمرأة في الإسلام تملك ثروتها بشكل مطلق، ولا حقّ لزوجها في التحكم في ثروتها بسبب العلاقة الزوجية، وللمرأة كل الحق والحرية أن تتصرف في مالها كما تشاء.

ولقد اهتمّ الرسول بنوع المعاملة التي تلقاها النساء، حتى وجد الناس حوله صعوبة في التكيّف مع هذه المقاييس الجديدة التي كان معنيّا بغرسها وصيانتها، وهي النظر إلى المرأة على أنها مُعين ورفيق وشريك في الحياة. فقد رُوي عن عُمر قوله: إن امرأتي راجعتني في شأن من شؤني، فوبختها قائلا إن العرب لا تسمح للنساء بالتدخل في شؤنهم. فردت علي قائلة: إن ذلك قد فات أوانه، فنبيّ الله يسمح لنسائه أن يراجعنه ولا يمنعهن، أفأنت خير منه؟ فقلت لها إذا فعلت عائشة ذلك فإن لها مكانة خاصة، ولكن حذار أن تفعل ذلك ابنتكِ (حفصة) حتى لا تنال شر الجزاء على ذلك يومًا ما من غضب رسول الله عليها. وحدث بعد ذلك أن رسول الله غضب لأمر ما وقرر أن يقضي بعض الوقت بعيدًا عن أزواجه، وعندما علمتُ بذلك قلت لامرأتي: “لقد حدث ما كنت أخشاه”. فذهبت إلى بيت حفصة ابنتي ووجدتها تبكي، فسألتها عن السبب وهل طلقها النبيّ؟ فردّت أنها لا تدري شيئًا عن الطلاق، ولكن رسول الله قرر هجر أزواجه إلى حين. فقلت لها ألم أقل لك وأحذّرك مرارًا ألا تنظري إلى عائشة لتصنعي مع الرسول كما تصنع هي فإن الرسول يحبها حبًّا خاصًا، وما أراك إلا قد جلبت على نفسك غضبه الذي كنت أخشاه. ثم ذهبتُ إلى الرسول فوجدته نائمًا على حصير خشن، وكان ساعتها لا يرتدي قميصه، ورأيت أثر الحصير على جنبه، فجلست قربه وقلت: كسرى وقيصر في الحرير يرفلون وأنت رسول الله قد أثر الحصير في جنبك؟ فنهض الرسول قائلاً: “أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا”، ثم روَيتُ له ما حدث مع امرأتي ومع حفصة، فضحك الرسول وقال ما معناه: إنني لم أطلق أزواجي ولكني رأيت من الأفضل قضاء وقت بعيدًا عنهن (البخاري، كتاب النكاح وكتاب المظالم).

وكان حريصًا على مراعاة شعور النساء، حتى إنه في إحدى المناسبات بينما كان يؤم الصلاة سمع بكاء طفل فأسرع في أداء الصلاة، وذكر بعدها أنه عندما سمع صوت بكاء الطفل أدرك أنّ الأم سوف تشعر بالقلق والوَجْد لبكائه، وهذا ما دفعه إلى التعجيل بإنهاء الصلاة حتى تتمكن الأم من العناية بطفلها.

وعندما كانت النساء يشتركن في أسفاره مع المسلمين، كان يوصي دائمًا بهدوء الخطى والسير الرفيق. وفي مناسبة من هذه الأسفار، حدث أن دفع الرجال المطايا ليتقدّموا مسرعين، فصاح بهم الرسول : “رِفقًا بالقوارير، رِفقًا بالقوارير”. وقصد بذلك أنّ النساء المسافرات سوف يعانين المتاعب من رجّة الحركة السريعة للجمال والخيل (البخاري، كتاب الأدب).

وفي إحدى المعارك، حدثت فوضى بين صفوف الجند الذين كانوا يمتطون إبلهم وخيولهم واستعصت قيادة المطايا، وسقط الرسول من فوق حصانه، وسقطت بعض النساء أيضًا من فوق مطاياهن. وجاء أحد الصحابة فترجّل عن جمله وأسرع نحو الرسول صائحًا: “فداك أبي وأمي يا رسول الله”، وكانت قدمه معلقة في الركاب فخلصها منه، فقال له الرسول في عجلة أن يدعه وينظر ماذا فعلت النساء.

وقبل موته ، أوصَى وشدّد في خطابه للمسلمين على حسن معاملة النساء وإيلائهن العطف والاحترام، وكان مما قاله وأعاد القول فيه مرارًا أنّ من رزقه الله من البنات فربّاهن وعلمهن وأحسن تأديبهن، كنّ لـه سترًا من عذاب النار يوم القيامة (الترمذي).

ولم يحدث لأيّ دين قبل الإسلام أن قنّن حقّ النساء في الميراث أو أن يملكن ثروة خاصة بهن. والمرأة في الإسلام تملك ثروتها بشكل مطلق، ولا حقّ لزوجها في التحكم في ثروتها بسبب العلاقة الزوجية…

وكان من عادة العرب إيقاع الأذى على بدن المرأة لأقل خطأ يصدر عنها، فعلّمهم الرسول أنّ النساء شقائق الرجال، خلقهم الله جميعًا سواء، ولسن عبيدًا للرجال ولا يصحّ ضربهن. وعندما عرفت النساء ذلك، حدث أن تطرّف بعضهن في معارضة الرجال في كل شيء، فكان أن اختلّ السلام في كثير من البيوتات وتهدّد استقرارها. وشكا عُمر من ذلك إلى الرسول قائلاً إن النساء إذا لم يعاقَبن فسوف يفلت زمام التحكم، ولن يكون في المستطاع ضبط الحياة في البيت. ولم يكن التنْزيل الحكيم قد جاء بالنظام الأمثل لمعاملة النساء بعد، فأشار الرسول بأنه يمكن عقاب المرأة إذا ارتكبت جنوحًا جسيمًا يهدد استقرار الأسرة واستمرارها. ولكن هذا القول قد أسيء فهمه، فجنح بعض الرجال للعودة إلى عادة العرب الأولى، وجاء دور النساء ليشتكين، وبسطن مظلمتهن بين يدي نساء النبيّ. عندئذ عاتب الرجال لائمًا، وقال لهم إنّ النساء جئن يشتكين من ضرب الرجال، وإنّ الذين يفعلون ذلك ليسوا من خيار المسلمين. ومنذ ذلك الحين تم تكريس حقوق النساء، ولأول مرة بدأت المرأة تُعامَل كفرد آدمي كريم حر، وباعتبارها شخصا كامل الأهلية والمقوّمات الإنسانية والمسئولية الخاصة (أبو داود، كتاب النكاح).

وروَى معاوية القشيري أن امرأته اشتكته إلى الرسول فأمره أن يطعمها مما يأكل مما رزقه الله من فضله، وأن يكسوها مما يلبس، وألا يضربها ولا يسيء عشرتها ولا يخرجها من بيته. وكان من حفاظه على أحاسيس النساء أنه كان يوصي الذين يضطرون للسفر أن يعودوا إلى أزواجهم حالما ينتهي هذا الاضطرار، حتى لا يعاني الأبناء والأزواج من هذا الفراق. وكان الرسول إذا عاد من سفره فلا يدخل البيت إلا نهارًا، وكان إذا اقترب من المدينة مع اقتراب الليل عسكر خارج المدينة حتى الصباح، كراهية أن يطرق البيوت ليلاً. وأوصَى أصحابه حين يرجع أحدهم من سفره ألا يطرقوا المنازل فجأة، بل يرسلوا من يؤذن بعودتهم، لتمتشط الشعثاء أو تستعد (البخاري ومسلم)، فقد كان يرى أن العلاقة بين الزوجين تتأثر بالهيئة التي يرى فيها كل منهما الآخر، وفي غياب الزوج قد تهمل المرأة أمر العناية ببدنها أو ملابسها، فإذا عاد الزوج فجأة إلى بيته فقد تختل مشاعر أحدهما بسبب هذا المشهد. ولكن بتوجيه هذا الأمر – وهو أن يعمل الزوج على أن تكون عودته من سفره نهارًا ليستعد لملاقاة أهله، وأن يخبر أهله بخبر وصوله – فإننا نضمن بذلك أن تكون هيئة الأفراد لائقة مناسبة عند استقبال بعضهم للبعض.

Share via
تابعونا على الفايس بوك