من حكم وغايات المقطعات
الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (يونس: 2)

شرح الكلمات:

تلك: اسم إشارة للبعيد

ال: حرف للتعريف، ومن معانيها أنها إذا دخلت على اسم دلت على أنه أكمل وجود بين جنسه.

آيات: مفردها آية. والآية: العلامة والدليل، ويقال لكل كلام من القرآن منفصل بفصل لفظي آية، (تاج العروس). وأرى أن الجمل القرآنية سميت آيات للحكمة نفسها، أي أن يدرك الناس أن مضامين القرآن مرتبة ترتيبا كاملا، وأن كل جملة منه دليل على صدق ما ورد في الجملة السابقة من معان، وأنه بدون مراعاة هذا الترتيب لن يدرك أحد المعارف القرآنية بشكل جيد. وقد سميت بالآيات كذلك لأن كل جملة قرآنية آية من آيات الله تعالى.

يزعم المسيحيون أن القرآن لا يدعي أنه معجرة. والحق أنه قد سمّى كل جملة منه آية (أي معجزة)، مشيرا إلى أنه يحتوي على معجزات كثيرة، بل إنه بنفسه معجزة عظمى.

الكتاب: مصدر كَتَبَ يَكتُب. يقال: كتب الكتيبة (وهي الجيشُ): جمعها. وكتب السقاءَ: خرزه بسيرين (تاج العروس).. أي سد فمه بخيطين من جلد. وبهذا المعنى يسمى الكتاب كتابا لأنه تُجمع فيه مسائل مختلفة، ولأنه صُنع بتجميع الأوراق بخيط وغيره. والكتابُ: “ما يكتب فيه من مجموعة أوراق فارغة؛ ما كتب؛ الفرضُ؛ الحكمُ؛ القدرُ؛ والرسالةُ المكتوبة” (أقرب الموارد).

الحكيم: هو العالم؛ صاحب الحكمة؛ المتقن للأمور. (الأقرب). والمحكم القويُ. والحكمة: العدل؛ العلم؛ النبوة؛ ما يمنع من الجهالة؛ كلُّ كلام موافق للحق؛ وضعُ الشيء في موضعه؛ صوابُ الأمر وسداده (الأقرب).

وحَكَمَ: أصلُه مَنَعَ مَنعًا للإصلاح، ومنه سميت اللجام حَكَمَةَ الدابة؛ قال الشاعر: أَبَنِي حنيفة أحكموا سفهاءَكم (المفردات).. أي امنعوهم من الفساد.

التفسير:

الر: إن المقطعات القرآنية مثل الر تتضمن أسرارًا عديدةً، منها ما يتعلق بأشخاص لهم علاقة قوية بالقرآن الكريم بحيث لا بد من ذكرهم فيه. كما تعمل المقطعات عمل القفل لمعاني القرآن، فلا يمكن لأحد أن يدركها إلا بفتحها، وبقدر ما تنفتح له هذه الأقفال يتمكن من الاطلاع على معانيها.

وإنَّ بحثي بهذا الصدد يؤكد أن معاني القرآن تتجد بتغيّر هذه الحروف. فإذا ابتدأت سورة بحروف منها فالسور التي تليها – من غير أن تبتدئ بأي مقطع من هذه المقطعات – تكون تابعة للسور السابقة في الموضوع، وأن السور المتماثلة في المقطعات تكون متفقة في الموضوع ومنسلكة في سلك واحد.

وقد سبق أن بيّنت أن هناك موضوعاً واحدًا يستمر من سورة البقرة إلى سورة التوبة، وهذه السور مرتبة بمقطع (الم) الذي بتبدئ به سورة البقرة. ثم تأتي سورة آل عمران فتبدأ بالحروف نفسها، أما سور النساء والمائدة والأنعام فإنها خالية من المقطعات، فكأنها جميعا تابعة لما قبلها. بعد ذلك تبدأ الأعراف ب(المص)، محتوية على (الم)، زِيْدَ في آخرها (ص). بعد ذلك الأنفال والبراءة خاليتان من المقطعات، فيستمر الموضوع المتعلق ب(الم) إلى البراءة. أما الصاد الذي زيد في آخر مقطعة “الأعراف” فيشير إلى موضوع التصديق. إن الأعراف والأنفال والتوبة كلها تبحث في نجاح النبي وازدهار الإسلام، لكنّ الأعراف تشير إلى موضوع التصديق بصورة مبدئية مختصرة، والأنفال والتوبة تذكرانه مفصلًا، ولذلك قد زيد حرف الصاد في الأعراف.

ولكن الواقع أن اجتماع السور ذات المقطعات المتماثلة يدل على اشتراكها في موضوع واحد، وأن المقطعات هي بمثابة المفاتيح لمعانيها. ولتحديد معاني المقطعات أرى من الأفضل أن نرجع إلى القرآن نفسه.

ثم سورة يونس تبدأ ب(الر) بدلًا من (الر)، فبقيت “ال” على حالها لكن الراء حلت محل الميم. وهنا يتغير الموضوع، لأن البحث من سورة البقرة إلى التوبة كان من وجهة نظر علمية، ولذلك قال في البقرة (الم) أي أنا الله أعلم، ولكنّ البحث من يونس إلى الكهف يحمل طابع الحوادث التاريخية ويقتصر على الاستنتاج من تلك الحوادث، لأجل ذلك قال الله في سورة يونس (الر)، أي: أنا الله أرى، وأعرض عليكم هذا الكلام معتمدًا على رؤيتي لتاريخ جميع أمم الأرض. فهذه السور كلها تبحث في صفة “الرؤية”، أما السور التي قبلها فتختص بصفة العلم.

أرى من المناسب أن أذكر هنا بإيجاز ما يزعمه بعض المفسرين من أن المقطعات لا معنى لها وأنها وُضعت قبل السور بدون جدوى. الحق أن المقطعات نفسها تبطل زعمهم، لأننا إذا أَجَلْنَا النظر في القرآن، وجدنا المقطعات مرتبة ترتيبا وثيقا. البقرة تبدأ ب(الم)، ثم آل عمران تبدأ ب(الم) ثم النساء والمائدة والأنعام بلا مقطعات. ثم تبدأ الأعراف ب(المص)، ثم الأنفال والبراءة خاليتان منها. ثم سورة يونس وهود ويوسف تبدأ ب(الر)، ثم زيد إليها (م) في الرعد وجعلها (المر)، لكن الزيادة هنا تختلف عما مضى، إذ جاء حرف الصاد في الأعراف بعد المقطع السابق الكامل، وأما هنا فكسر المقطع (الر) ووضع الميم قبل الراء. فلو كانت الزيادة عن غير قصد لوضع الميم بعد الراء، لكن توسط الميم بين اللام والراء يدل على أن هذه الحروف تؤدي معنًى خاصا. عندما نجد أن السور المبتدئة ب(الر) يتضح لنا تماما أن الميم متقدمة على الراء من ناحية المعنى. وحينما اجتمعت هنا في سورة الرعد الميم والراء، وقدمت الميم على الراء تأكد بأن هذه الحروف جميعها وضعت لمعانٍ خاصة، وكذلك نجد أن المتقدمة منها معنًى متقدمة في الترتيب أيضًا.

ثم استهلت سورة إبراهيم وسورة الحجر ب(الر)، لكن النحل والإسراء والكهف لم تستهل بالمقطعات، فكأنها تابعة في الموضوع لما قبلها. ثم سورة مريم تفتتح ب(كهيعص)، وطه ب(طه)، ثم الأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان كلها خالية من المقطعات، وكأنها تابعة ل” طه”. ثم الشعراء تبدأ ب( طسم)، فبقيت الطاء من (طه) على حالها وزيدت عليها السين والميم مكان الهاء. بعد ذلك سورة النمل التي تبدأ ب(طس) حيث حذفت منها الميم وبقيت (طس). ثم عادت سورة القصص مبتدئة ب(طسم)، وكأن موضوع حرف الميم أضيف من جديد إلى موضوع السورة.

بعد ذلك تبدأ العنكبوت ب(الم)، فتكرر فيها بحث علم الله من ناحية أخرى، ومن أجل غاية جديدة. إنني وإن لم أكن هنا بصدد بحث موضوع الترتيب، ولكني لو سُئلت عن تكرار (الم) هنا، لقلت: إن خطاب (الم) في السور الأولى كان للكفار، أما في العنكبوت فموجه للمؤمنين.

ثم الروم ولقمان والسجدة تبدأ ب(الم). ثم الأحزاب وسبأ وفاطر بلا مقطعات، وكأنها تابعة لما قبلها. بعد ذلك سورة “يس” تبدأ بالياء والسين، ثم الصافات بلا مقطعات. ثم سورة (ص) تبدأ بالصاد، وسورة الزمر خالية من المقطعات، وهي تابعة لما قبلها. ثم سور “غافر” و”فصّلت” الشورى تبدأ ب(حم)، لكن زيدت في الأخيرة (عسق). وبعدها الزخرف تبدأ أيضا ب(حم) ثم الدخان والجاثية والأحقاف كلها تبدأ بالحروف نفسها. ثم سورة محمد والفتح والحجرات بلا مقطعات، وهي تابعة لما قبلها. ثم سورة (ق) تبدأ بالقاف. ثم يستمر موضوع واحد إلى آخر القرآن.

فتكرار الحروف المتجانسة، ثم حذف البعض منها وتعويض البعض الآخر منها وتعويض البعض الآخر.. إنْ دل على شيء فإنما يدل على أن الذي وضعها على هذه الصورة إنما فعل ذلك لغاية ما، سواء فهمناها نحن أم لا. ولو كانت قد وُضعت بدون سبب لما كانت ثمة حاجة إلى استبدال بعضها ببعض أو حذف بعضها وإضافة بعضها أحيانا.

وعلاوة على ذلك، فإنه يُستنبط من قول لمعارضي الإسلام أن المقطعات تحمل بعض المعاني. يقول هؤلاء المعارضون بأن ترتيب السور في المصحف إنما هو بحسب طولها أو قصرها. ولو سلمنا بهذا جدلًا أفلا يكون غريبا أن السور ذات المقطعات المتجانسة قد جاءت في المصحف مجتمعة، رغم ورود السور فيه بحسب طولها على حد زعمهم. فجاءت السور المبتدئة ب(الم) معًا، وكذلك التي تحمل (الر) جاءت معًا، وسورة (طه) وما يجانسها في حروف مقطعاتها وردت أيضا مجتمعة، والسور التي تفتتح ب(حم) جاءت معًا. فلو كان المصحف مرتبا بحسب طول السور أفلا يعد عجيبا أن المقطعات أيضا تشير إلى طولها أو قصرها. فكل هذا يؤكد أن للمقطعات هدفا ومغزى، وإن ظننا أنه مقتصر في إشارتها إلى طول أو قصر السور.

ولكن الواقع أن اجتماع السور ذات المقطعات المتماثلة يدل على اشتراكها في موضوع واحد، وأن المقطعات هي بمثابة المفاتيح لمعانيها. ولتحديد معاني المقطعات أرى من الأفضل أن نرجع إلى القرآن نفسه. فقد جاءت في البقرة بعد (الم) آية (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). ثم في آل عمران وبعد (الم) جاء (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). ومما يجب ملاحظته هنا أن (لا ريب) و(الحق) هما بمعنى واحد، فقد ذكر بعد (الم) في سورة البقرة قوله (كتاب لا ريب فيه)، وفي آل عمران أيضا قال بعد المقطع عن هذا الكتاب بأنه نزل بالحق.

ثم تبتدئ سورة الأعراف ب(المص). ثم وردت بعدها آية (كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين). وهنا أيضا ذكر الكتاب الذي صفته أن (لا ريب فيه)، لأن قوله (فلا يكن في صدرك حرج) يدل أيضا على الميزة نفسها.

ثم تبتدئ سورة العنكبوت بعد عدة سور بمقطع (الم) أيضا، ويليها قول الله عز وجل: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). هذه الآيات أيضا تذكر كتابا يقينيا حقا، لأن الاختبار لا يكون إلا لدفع الشك وإبطال الريب. فهنا أيضا نجد البحث نفسه الذي تشير إليه سورة البقرة باختلاف بسيط هو أن الخطاب في سورة البقرة عامّ، وهنا قيل لهم بأنه كيف يمكن أن يستحقوا معاملة المقربين إذا كان الشك لا يزال يُساور قلوبهم؟

وفي سورة الروم البحث نفسه وإن كان قد أصبح غاية في الدقة. يقول الله : (الم. غلبت الروم. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، أي أن كلام الله قد نزل في الروم وسيتحقق بلا شك. وكأن الله عز وجل أشار هنا إلى جزء من الكتاب واستغنى عن الكل، وأكد تحققه بحرفي التأكيد (من) و(س) فقال: (مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ). ثم تبتدئ سورة لقمان أيضا ب(الم)، ويليها قول الله عزوجل: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وصفة الحكيم هنا أيضا تدل على أمر يقيني، فكأنه تكرار لموضوع سورة البقرة. بعد ذلك سورة السجدة تبدأ ب(الم) أيضا، ويليها قول الله عزوجل (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ). هنا أيضا ذكر الكتاب الذي لا ريب فيه.

فهذه الآيات كلها توضح جليا أنه كلما ذكر (الم) تبعها موضوع خاص يؤدي إلى علم يقيني لا يساوره ريب. فكيف يمكن مع هذه الحقيقة الناصعة بأن نتوهم ونقول بأن هذه الحروف مهملة لا تهدف إلى شيء. فالحق أن (الم) ترمز إلى إزالة الشك وتمكين اليقين. والشيء الذي يبطل الشك ويهب اليقين هو العلمُ الكامل الذي يدل عليه معنى (الم) أي “أنا الله أعلم”.. والمقصود أنه من أراد استئصال الشك وإحراز اليقين فليتوجه إلى كلامي وليدرُس كتابي.

أما الآن فأتناول (الر). والحق أنننا إذا أمعنا النظر في السور المبتدئة بهذه الحروف وجدناها تبتدئ ببحث واحد. فقد استهلت سورة يونس بقوله عزوجل: (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ).

ثم ورد في سورة هود قول الله تعالى: (الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ).

ثم في سورة يوسف يقول الله عزوجل: (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

ثم في سورة الرعد جاء: (المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). هنا اجتمع مضمون الميم والراء.

ثم ورد في سورة إبراهيم: (الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).

ثم في سورة الحجر قال: (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ، رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ … وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ، مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ). إذ أمعنا النظر في هذه المواضع معا، تبين لنا أن البحث فيها يدور حول موضوعين اثنين؛ الأول: التاريخ القديم وبخاصة عقاب المجرمين، والثاني: خلق الكون. والاستفهام الإنكاري في سورة يونس (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا) يدل على أن الأنبياء بين بشير ونذير لم تنقطع بعثتهم قط. وفي سورة هود يبين الله تعالى أن كل قوم في تطور دائم، وأنه لا بد أن يتطور في مدى معين. وقد وضخ عند ذكره خلق الكون أن تقدم العالم خاضع لقانون الارتقاء.

وفي سورة يوسف تحدث الله بصورة واضحة عن تاريخ العالم. جمع في سورة الرعد – حين زاد الميم – بين موضوعي (الم) و(الر) وهما: إشارة إلى كلام يقيني، ولقتُ النظر إلى خلق الكون. ثم كرر ضرورة التوجه إلى التفكير في قوانين القدرة في سورة إبراهيم وقال: انظروا إلى العالم تجدوا فيه آثار يد الخالق الواعي. وفي سورة الحجر دعانا إلى التفكير في القانون القديم. ومن البيّن أن الكون وحوادثه المختلفة مرتبطة بالرؤية، وإنما يستطيع التحري عن الحقيقة من تحدث أمام عينه ظواهر الكون أو تنكشف قوانينه أمامه. فعلاقة هذه المجموعة من السور بالرؤية واضحة كما تشهد بها كلمة (الر) التي قيل فيها: (أنا الله أرى). فلا التاريخ القديم غائب عني، ولا خلق الكون وقوانينه خافية علي. فهدايتي فقط هي التي يمكن أن تغنيكم عن كل شي آخر في إدراك الحقائق المتعلقة بالرؤية.

ومما يجدر ذكره أيضا أن المقطعات، وإن كانت معانيها تتغير بتغير الحروف، لكنها كلها متفقة في أمر واحد، هو أن السور التي تفتتح بالمقطعات يستهل موضوعها بذكر الوحي، ومعظم هذه السور تصرح بكلمة الكتاب والقرآن، وبعضها تشير إلى سِفر قديم مثلما جاء في سورة مريم أو إلى كلام خاص مثلما جاء في سورة الروم.

والآن نتناول تفسير بقيّة الآية:

هذه الآية مصداق تماما للمثل القائل: خير الكلام ما قل ودل. فإنها على فلة كلماتها، تتضمن معاني واسعة لدرجة أنها ترسم لنا صورة جميلة لمحاسن القرآن وكمالاته. تدبروا في معاني مفرداتها المذكورة أعلاه. لتدركوا مدى سعة مفاهيمها. لقد بين الله تعالى فيها أن هذه آيات كتاب يزخر بالعلوم، يعلّم العدل، يمنع من الجهل، يستوعب الحقائق كلها، يأمر بما يتلاءم مع المقام والحال، يعلم صلاح الناس، ويحتوي على أمور محكمة.

لاحظوا بلاغة اللغة العربية، وانظروا كيف أعلن القرآن بكلمة واحدة عن دعاويه العديدة وأهدافه السامية، وقال: الآن يجب عليكم النظر في القرآن لتروا ما إذا كان متحليا في الحقيقة بهذه المزايا والمحاسن أم لا؟ فإن كان بالفعل مُتسمًا بها فأي شك في أن رفضكم إياه يتنافى مع العقل والمنطق. ومن منكم يقدر على أن يثبت أن القرآن لا يتصف بهذه المزايا؟ لقد قيل عن كلمة “تلك” إنها اسم إشارة للبعيد، فكيف جاز استخدامها للإشارة إلى آيات الكتاب، مع أنها قريبة وليست ببعيدة؟

ومما يجدر ذكره أيضا أن المقطعات، وإن كانت معانيها تتغير بتغير الحروف، لكنها كلها متفقة في أمر واحد، هو أن السور التي تفتتح بالمقطعات يستهل موضوعها بذكر الوحي، ومعظم هذه السور تصرح بكلمة الكتاب والقرآن، وبعضها تشير إلى سِفر قديم مثلما جاء في سورة مريم أو إلى كلام خاص مثلما جاء في سورة الروم.

وقد أجاب بعضهم عن هذا بقولهم: إن “تلك” هنا إشارة إلى الآيات الواردة في التوراة وغيرها من الكتب السابقة، التي تبشر بنزول هذا الكلام المبارك، فقال إن تلك الآيات المبشَّر بها قد أصبحت الآن جزءا من هذا الكتاب. بمعنى أن تلك المبشرات قد تحققت بنزول آيات القرآن.

ويرى الآخرون أن الله تعالى كتابا كاملا، وأنه يُنزل منه آيات في أوقات مختلفة، وأن “تلك” هنا تشير إلى آيات ذلك الكتاب الكامل الموجود لدى الله سبحانه وتعالى.

وقال غيرهم بأن “تلك” كما تشير إلى شيء بعيد بعدا مكانيا فإنها تستخدم أيضا للإشارة إلى ما هو بعيد في الدرجة والمكانة، وقد وردت هنا للغرض نفسه، أي تعظيما وإكبارا للآيات القرآنية.

هذه المعاني كلها صحيحة ولا بأس بها، غير أني أرى أن هناك معنى آخر أيضا يشبه المعنى الأخير من بين المعاني المذكورة آنفا، يختلف عنها أيضا من بعض النواحي، وهو كما يلي:

يقول الله تعالى في الآية التالية: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ…) هل يعدون هذا الأمر غريبا أو مستحيلا؟ والأمر العجيب أو المستحيل هو ما يعتبره الإنسان مستبعدا بقياساته. إذن فكأن الله تعالى يذكر أن الكفار يستبعدون المضامين القرآنية ويعدونها مستحيلة، فيقول معِّرضًا بظنونهم ومزاعمهم: إن تلك الأمور المستبعَدة والمستحيلة بزعمكم هي آيات من كتاب محكم.. أي أنها ليست عجيبة ولا مستحيلة، بل لا شيء أشدّ يقينًا وتأكيدًا منها. فكلمة “تلك” تشير إلى استبعادهم لتلك الأمور. وقد ذكر الله هذا المعنى أيضا في موضع آخر من القرآن الكريم بقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج: 7و8). فالإنسان إذا اعتبر الشيء عجيبا ومستحيلا فكأنه يعتبره بعيدا، لذلك قال الله هنا – نظرا لظنونهم ومزاعمهم – إن ما تستبعدونه بعقولكم هو ليس كذلك، بل قد صار آيات من هذا الكتاب الحكيم، وسوف يتحقق لا محالة. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك