من بريد القرّاء

من بريد القرّاء

لا تزال رسائل عزاء تصلنا من قرَّائنا الأعزة من مختلف بلدان العالَم، يبدو فيها أسفهم الشديد على رحيل الأستاذ المرحوم محمد حلمي الشافعي رئيس تحرير “التقوى”. إنّه حقًا لجدير بأن يُذكر بالخير دومًا على خدماته المخلصة وأعماله الخالدة. فلم يكن المرحوم كاتبًا رائعًا ومترجمًا بارعًا فحسب، بل كان داعيةً ناجحًا، يقوم بواجب التبليغ بالعمل والقلم واللسان. الرسالة التالية كانت موجهة منه إلى أحد قرّاء التقوى، ننشرها هنا إفادةً للقرّاء الكرام. (التقوى)

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الفاضل الأستاذ…

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

وبعد حديثكم عن سيدنا عيسى ابن مريم عليهما السلام.. ردَّدتم ما هو شائع بين المسلمين، وما تقول به أكثر كتب التراث والتفسير. وهذا ما يقوله كلُّ مُطَّلعٍ على هذه الكتب.. وخصوصًا المشائخ.

وقد قامت الجماعة الإسلامية الأحمدية بالردِّ المفصَّل عل كل هذه الأقوال وفنَّدتها تمامًا. وقد تكرَّر هذا منا منذ عام 1889 حتى اليوم.. وملأنا به آلاف الصفحات. وكانت وسائل النشر وحرية الفكر غير متوفّرة في الماضي.. وإلا لكان في الكتب والصحف والمجلات والنشرات السابقة الكفاية.

واليوم بفضل الله -مع وجود القناة الفضائيّة- يمكن إيصال المعلومات إلى الناس وهم على مقاعدهم الوثيرة. المهم هو أن يتابعوا اللقاءات ويستمعوا لها بحيادٍ وانتباه وتركيز.. وعندئذٍ يجدون -إن شاء الله- الإجابات الشافية الوافية لكل هذه الأمور بما تطمئن له قلوبهم وعقولهم.

لقد أثرتَ في الفاكس نقاطًا كثيرة بحيث أنّ مناقشة كل نقطة فيها يتطلّب مساحةً زمنيّة وكتابيّة كبيرة. كما أنّها تُشتّت أفكارنا بعيدًا عن الموضوع الأصلي.. ويجب أن يلتفت إلى الأَوْلى فالأَوْلى.. يعني المهم يأتي بعد الأهم.

أهم المسائل هو: هل أمة الإسلام الآن بخير؟ هل هي تشغل المكانة والمقام اللائق بأمة محمد وأنّها خير أمةٍ أُخرجت للناس؟

إذا رأيت أنّها بخير.. فليست هناك مشكلة.. وتكفي العبادات التقليديّة. ولكن لا يستطيع إنسانٌ أمين مُدركٌ لما يدور حوله أن يزعم بأنّ الأمة الإسلاميّة بخير.. لأنّ الواقع يصرخ بأنّها وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الخُلقي قبل المادي، والأدبي قبل العلمي، والديني قبل السياسي، والصحي قبل الرياضي. أعني أنّها في كل المجالات الروحانيّة والدنيويّة تقبع في مؤخرة الصفوف بين العالَم. وهي الأمة الوحيدة التي تنفّذ تعاليم المسيح: من لطمك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر بل القفا أيضًا. انظر حولك في البوسنة، الجزائر، المغرب، ليبيا، السودان، الصومال، العراق، تركيا، أفغانستان، اليمن، باكستان، الفيليبين، كشمير.. لقد تركتُ بعض الأسماء.. وذكرتُ ما هو واضح لا خلاف عليه.. هل هذا هو الحال الذي من أجله بُعثَ محمد ونزل القرآن؟

لقد تحقّق بكل وضوح وجلاء.. كل حرفٍ نطقَ به المصطفى لتحذير هذه الأمة من السقوط إلى هوّة الانحطاط.. ووصلوا إلى الفيج الأعوج الذي تبرَّأ منه النبي وقال: ليسوا مني ولست منهم.

فإذا كان الحال هكذا.. فما هو المخرج؟ المخرج هو ما قاله نبيّ الإسلام.. لا ما يقوله الشيوخ وكُتب التُراث. لقد أخبر حضرته أنّ نهضة الإسلام وعودة الإيمان.. بالقدر الذي يستثير رحمة الله وشفقته على هذه الأمة.. ويُعيد إليها عزّتها في صورة الخلافة الراشدة التي تجمع الأمة كلها وراء إمامٍ واحد.. هو عندما ينزل المسيح ويُبعث المهدي.

هذه ليس مسألةً اختلافيّة أو اجتهاديّة.. هذا نبأٌ لا يختلف عليه أحدٌ ممن يُعتدُّ به من المسلمين.. الجميع متفقون على أنّ إحياء الإسلام يتمُّ في آخر الزمان.. بعد سقوط الأمّة الإسلاميّة.. بنزول المسيح وبعث المهدي.

القضية الآن:

عندما ينزل المسيح أو يأتي المهدي.. كيف نعرف هذا الخبر، وماذا علينا أن نفعل؟ علمًا بأنّ نهضة الإسلام منوطة بهما.. وليس بالجهود الحكوميّة أو بالجماعات الدينيّة أو أي مجهود يقوم به الأشخاص العاديون.. لأنَّ المسيح والمهدي من عند الله.. يحظيان بتأييد الله، وتوجيهاتهما معصومة من الخطأ والضلال.

إذا جاء المسيح أو المهدي.. فهل ينصرف المسلمون عنهما ويقولون لقد انتهت مصاعبنا وعلى المسيح والمهدي أن يعملا معًا ويحرِّرا المسلمين ويقضيا على الفساد ويصححا الأخطاء ولا شأن لنا بهما؟

محمد هو أعظم من مائة مسيح أو مهدي.. ومع ذلك كانت له جماعةٌ تعمل معه وتجاهد تحت قيادته وتطيعه، وتعرَّضوا لكل المصاعب والشدائد حتى تمَّ لهم النصر وتحقّق بهم قيام دولة الإسلام. وبديهيٌّ أنّه لا المسيح ولا المهدي يستطيعان عمل شيء إلا بجماعة المؤمنين حسب سنّة الله تعالى. فالموضوع إذن أخطر من أن ننظر إليه ببساطة ونتهاون فيه.

وإذا جاء المسيح أو المهدي ورفضهما الناس.. كما يُفعلُ مع كل مبعوث إلهي، أو تجاهلهما البعض.. فماذا يا تُرى يكون موقفهم من الإيمان؟ لا شكَّ أن من يرفضهما يكون مقصِّرًا يوصف بما يوصف به منكر الأنبياء.

ثم كيف نعرف خبر نزول المسيح أو بعث المهدي؟ هل يكون معهما جواز سفر أو بطاقات شخصيّة؟ وهل إذا رأى أحدٌ من الناس في مكان نزول المسيح من السماء يصدّقه الآخرون؟

يجب أن يُفكّر المسلم.. كيف يعلن أحدهما عن مجيئه؟ وكيف يتعرف عليه؟ ولا يغيب عن بال الإنسان أنّ سُننَ الله تعالى لا تتبدَّل ولا تتحوَّل في هذه الأمور. لن يُغيَّر الله سُنّته لأنّ بعض الناس فَهِموا كلامه بطريقةٍ غير معقولة. سُنّة الله تعالى جاريةٌ فهمناها أو لم نفهمها. عندما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتِلا إنا ها هنا قاعدون.. لم يذهب الله وقاتل.. ومع إنّه قادرٌ على إهلاك القوم في لحظة.. ولكن سُنّته أن لا ثمرة إلا بعمل، ولا لذّة إلّا بجُهد. فضرب عليهم التيه في الصحراء أربعين عامًا حتى يتأدَّبوا ويتعلَّموا الكفاح؟

إنّ الله لن ينصر المسلمين ويُحارب لهم.. كلا! بل لا بدَّ أن يتَّبِعوا من يرسله لهم ويكافحوا معهم حتى يستحقّوا الفلاح والفوز الذي وعد الله به رسله ومن آمنوا بهم وعزَّروهم ونصروهم.

والآن.. لقد أخبر النبي بعلامات وأماراتٍ كثيرة تصف المسيح والمهدي، والزمن الذي يظهران فيه، والأعمال المنوطة بهما، وحال الدنيا في ذلك الوقت، وحال المسلمين على وجه الخصوص.

والذي أخبر به المصطفى وورد في حديثه هو من الأمور والأوصاف المجازية التي تحتاج إلى تدبُّرٍ وفَهْم.. ولا تتضحُّ تمامًا إلّا عندما ينزل المسيح ويقوم المهدي.. فيراها الناس واضحةً جليّة بعد بيانها وشرحها.

ولا يصحُّ أن يُحكم على هذه الأمور برأي الناس. لماذا؟ لأنّه لو كان رأي الناس صحيحًا، وفهمهم مستقيمًا.. ما وصل حالهم إلى ما هم فيه، وما كان هناك أي مبرر لنزول مسيح ولا بعث مهدي!

هل يبعث الله المهدي وعلماء المسلمين يعلمون شيئًا نافعًا ويهدون الناس؟ هل ينزل المسيح والمسلمون قادرون على كسر الصليب وقتل الخنزير؟ وهل إذا جاء الطبيب المتخصِّص المعالج ليفحص المريض العاجز المتهالك.. يراجع المريض معلومات الطبيب ويقول له: إنّ العلاج الذي أعرفه كذا وكذا، وأنّ الناس يقولون كيت وكيت؟

عندما يأتي المسيح والمهدي.. يجب على الناس أن يستمعوا لهما ويطيعوا. وهل يعني ذلك أنّ كل من هبَّ ودبَّ يزعم أنّه مسيح أو مهدي ونصدِّقه ولا نناقشه؟ طبعًا لا. لأنّ الله تعالى قد زوَّده بدليلٍ أساسي.. بطاقة شخصيّة غير قابلة للتزوير، ولا يستطع أحدٌ أن يلعب بها. الله تعالى يعلم أنّ المهدي والمسيح سيأتي في زمن الدجَّال: حيث التزوير والغش والخداع والدجل والنفاق والرياء والتمثيل والعمَى الروحاني والاستغراق في الشهوات وأمور الدنيا يبلغ أقصى مداه. لذلك جعل الله بطاقته الشخصيّة في السماء.. حيث لا تطولها الأيدي ولكن تراها العيون.

هناك حديثٌ عن الإمام الباقر محمد بن علي بن الإمام زين العابدين -رحمهم الله جميعًا- رواه الدارقطني يقول: إنّ لمهدينا -أي المهدي الحقيقي الذي هو من آل البيت- آيتين، لم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض -فهما آيتان فريدتان لم تحدثا لأحدٍ من قبل، ولن تحدثا لأحدٍ من بعد- ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض. (الخط تحت نص الحديث والباقي ملاحظة من المؤلف).

هذا الحديث مرويٌّ منذ 1400 سنة، وأورده الدارقطني في سُننه (باب صفة صلاة الخسوف والكسوف وهيئتهما)،عن إمام من أهل البيت، ويشتمل على أكثر من (12) شرطًا على الأقل، وهو الدليل على وجود الإمام المهدي وصدقه. ماذا يقول الحديث وماذا يُفيد؟

  1. هناك رجلٌ يدَّعي أنّه الإمام المهدي الذي وعد النبي بظهوره.
  2. إنّه أولاً يُعلن ظهور المهدي من الله، ثم يُحْدِثُ الله الكسوفين تأييدًا وتصديقًا له، كما تفيد “ل” في “لمهدينا”.
  3. يحدث خسوف القمر.
  4. في رمضان.
  5. في أول ليلة للخسوف.
  6. يحدث كسوف للشمس.
  7. في نفس رمضان.
  8. في اليوم الأوسط للكسوف.
  9. لا يستطيع أحدٌ من قبل أن يتنبّأ بهذين الحدثين ولا وقتهما.
  10. لا يستطيع أحدٌ وقت حدوثهما أن يتنبّأ بهما.
  11. أن يراهما الناس ولا يحول شيء دون رؤيتهما.
  12. أن يحدُثا في البلد والإقليم الذي يوجد فيه المدَّعي بالمهدوية.

وهناك تفاصيلٌ أكثر لا داعي لذكرها.. المهم أنّ هاتين الآيتين تحقّقتا بكل هذه الشروط عندما كان الإمام المهدي قد أعلن عن نفسه عام 1889.. وتمَّ الخسوف والكسوف في رمضان عام 1894 وسجَّلته المراصد العالميّة.

هل هناك من دليل على صدق النبي ، وصدق الإمام الباقر وصدق الإمام المهدي أكثر من ذلك؟ إنّها آياتٌ ليس هناك آيةٌ ماديّة مثلها. ولن تتحقّق. إنّها لم تتحقّق من قبل لأنّه لم يكن هناك إمامٌ مهدي، ولن تتحقّق لأنّها قد تمّت فعلاً.. وإذا حدث خسوف أو كسوف في رمضان فإنّ من السهل جدًا هذه الأيام التنبُّؤ بها بعد علوم الفلك والكمبيوتر المتطوِّرة.

أمّا وقد ثبت بالدليل السماوي القاطع على أنّ مؤسِّس الأحمدية هو الإمام المهدي.. فقد وجب علينا ان نُصدِّقه. فإذا قال هذا الإمام المهدي أنّه هو نفسه المسيح الموعود.. فلزم أن نأخذ بقوله وخصوصًا إنّه بيَّن لنا بأدلّةٍ تفوق الحصر على صدق دعواه أنّه المهدي، وعلى صدق دعواه أنّه المسيح، وأثبت لنا من القرآن والسُنّة والتاريخ والعقل أنّ المسيح ابن مريم قد مات، وأنّ الميت لا يعود إلى الدنيا مُطلقًا، وأنّ فَهْمَ الناس عن أموات أو نيام يعودون إلى الحياة بعد مائة سنة أو 309 أو 2000 سنة كلامٌ لا يستقيم مع سُنّة الله تعالى ولا مع نصوص القرآن وأقوال النبي .

والآن ما هو واجب المسلم؟ عليه أن يُسارع إلى مُبايعة الإمام المهدي ولو حَبْوًا على الثلج طاعةً للنبي ، وأن يضع يده في يد جماعة المهدي.. كي يؤدِّي واجبه في بناء الأمة الإسلاميّة الناهضة إن شاء الله حسب وعد الله.

انظر الآن إلى الآيات التي ذكرتَها في سورة النساء يُعدِّد الله تعالى أفعال بني إسرائيل الذميمة التي استوجبت عقابهم ومنها قوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ . وبيَّن أنّهم لم يقتلوه ولم يصلبوه. وإنّما شُبِّه لهم ذلك. ولم يكن قتلهم له قتلاً مؤكَّدًا يقينيًّا.

هل فكّرت: لماذا ينفي الله قولهم أنّهم قتلوا المسيح؟ ألم يحدث أنّه قُتِلَ بعض الأنبياء.. ومنهم يحيى ابن خالة المسيح؟ يجب أن نتدبَّر في هذا. الجواب: أنّ قتل المسيح إهانةٌ لله وإهانةٌ للمسيح. إنّ اليهود كذَّبوه، وهذا شيءٌ واردٌ بالنسبة لكلّ نبي. وأراد اليهود إثبات كذب المسيح بقتله على الصليب.. فذلك – طبقًا للتوراة يكون دليلاً على أنّه ملعون، وطبعًا الملعون لا يكون نبيًّا. فهل يسمح الله تعالى لنبيّه أن يكون ملعونًا.. أي كاذبًا. كلا.. ولذلك أفسد مكرهم ونجّاه بمكره. لو قُتُل أيُّ نبي فلا بأس.. القرآن يقول: أفإن ماتَ أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم؟ محمد عرضة للقتل.. أما اللعنة وإثبات الكذب فهذا ما لا يرضاه الله أبدًا.. ولذلك ذكر من سيّئاتهم الكبرى (قولهم) إنّا قتلنا المسيح.. وليس محاولتهم قتل المسيح. فقولهم إعلانٌ بلعنته وتكذيبه. ولذا ينفي الله (قتله أو صلبه) لينفي عنه اللعنة.

ثم يقول بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ أي لم تثبت عليه اللعنة وإنّما فاز بالرفعة والتكريم والتصديق.

هل تجد أنت في الآية نفيًا لموته؟ إذا كان أبي لم يُقتل ولم يُصلب فهل معنى ذلك أنّه حيّ؟ كلا، إنّ أبي لم يقتل ولم يُصلب ومع ذلك مات. الموت له ألف طريقة.. منها الصلب والقتل.

ثم إنّ سيدنا عيسى هو النبي الوحيد الذي ذُكر في القرآن أنّ الله توفًّاه وتكرّر ذلك عدّة مرّات. وذلك لتأكيد موته في الأذهان.

أما قوله وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا فيدلُّ على أنّهم ظنُّوا أنّهم نجحوا في قتله.. وأفلحوا في مكرهم، ولكن مكر الله غالب.. ونجا من الموت بسبب مجموعة من العوامل التي ساعدت على ذلك بتدبير من الله تعالى. أُنزِلَ المسيح من فوق الصليب – وهم يظنونه ميتًا، ولكنه كان مغشيًا عليه، وأخذوه إلى مقبرة في الجبل، حيث عالجه بعض أصحابه وشُفيت جروحه ورآه التلاميذ.. ثم خطب فيهم خطابه الأخير، ورحل عنهم إلى المشرق ليتمم مهمته ورسالته في قبائل بني إسرائيل الذين كانوا في العراق وأفغانستان وإيران والهند حيث مات في (سرينجر) عاصمة كشمير وقد بلغ (120) سنة من العمر – كما أخبر النبي . وقد زرتُ أنا شخصيًا قبره هناك ورأيتُ آثاره.

وقوله

وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ

بيانٌ من القرآن أنّ أهل الكتاب جميعًا شركاء في هذه الجريمة الوقحة.. جريمة -قولهم- إنّا قتلنا المسيح. لانّهم يؤمنون (به) أي بقولهم هذا. فاليهود يؤمنون بهذا القول لأنّه يُثبت كذب المسيح ولعنته – معاذ الله. والنصارى أيضًا يؤمنون بهذا القول لأنّه يُثبت تضحيته بنفسه وتحمّله اللعنة ليُخلِّصهم من الخطية. وسوف يكون المسيح بنفسه -أو بمن يحمل اسمه- شاهدًا على خطئهم فيما زعموه من القتل والصلب.

أما قوله تعال

يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..

فاعلم أنّ (واو) العطف لا تفيد دائمًا الترتيب ولا التعقيب في كلام البشر الذين يقولون أي كلام! ولكن الله إذا قدَّم شيئًا فلحكمةٍ قدَّمه، وإذا أخَّره فلحكمة أخّره. تذكّر قول النبي عند الطواف بالصفا والمروة قال: نبدأ بما بدأ الله به.. فجعل الطواف (السعي) يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة لأن الله تعالى قال:

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ.. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا .

فالتوفي في الآية كان أولاً لأنّه هو الذي أدّى إلى الرفع ثم التطهير.

ثم إذا آمن به كل الناس.. فكيف نفهم من قول الله تعالى

وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

الآية تُقرّر أنّ هناك من يؤمن به ويتبعه وهناك من يكفرون به إلى يوم القيامة؟!

والتوفّي ليس له معنى مطلقًا إلا الموت حسب الشروط التالية.

  1. الفاعل هو الله أو أحد الملائكة.
  2. المفعول به هو الإنسان.. فالمعنى هو الموت. أمّا فَهْمُ التوفّي بمعنى النوم فهذا على سبيل الاستعارة مع وجود قرينة في الآية تدلُّ على ذلك.. وقد وردت في القرآن بضع عشرة مرّة كلها بمعنى الموت إلا في قوله تعالى يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ فكلمة الليل دلّت على النوم، وقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فذكر المنام. والآية بالنسبة لسيدنا عيسى -أو الآيات- لا تقول متوفّيك بالليل أو خلافه..

أما الأمثلة الأخرى فهي أيضًا مجاز.. فأهل الكهف لم يموتوا ولم يناموا ولكن الله فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ ولم يقل: ناموا ولا ماتوا. وعُزير الذي ذكرته لم يمت فعلاً، وإنّما رأى نفسه في الرؤيا ميتًا، وقد شرح القرآن ذلك بأنّ وجّه نظره إلى الطعام الذي لم يتغيّر ولم يفسد. وبنو إسرائيل نزلت صاعقة بجوارهم تعبيرًا عن سخط الله فأُصيبوا بالهلع ولم يناموا ولم يموتوا. وعبَّر القرآن عن انحطاطهم بموتهم.

أما قول إنّ الشهداء أحياءٌ عند ربّهم.. فهذا صحيح.. ولكن هذا لا يعني أنّهم أحياءٌ بأجسادهم في مكانٍ ما.. ولكن معناه أنّ أرواحهم تنعم في رضوان الله.. يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل أما الحياة التي يزعمونها لسيدنا عيسى هي حياة جسدية وقد قرّر القرآن وحسم الموضوع بأنّ الميت لا يعود إلى الدنيا مطلقًا.. وأنّ الأرض هي مكان حياة البشر وموتهم. فقال

وَحَرَامٌ -ممنوع منعًا باتًا- عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ،

وقال

فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ..

فلا يمكن أن يعيش عيسى أو غيره في مكان غير الأرض. ولا يمكن لبشرٍ أن يصعد إلى السماوات.. وقد أمر النبي أن يقول لمن طلبوا منه أن يصعد إلى السماء ويأتيهم بكتابٍ يقرأونه

سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً

أي أنزِّه ربّي عن مثل هذا الفعل.. أنا رسولٌ ولكني بشر، والبشر يعيش كبشر.. لا يستطيع أن يخرج عن الحدود التي حدَّدها الله لحياته.. وإلا كان غير بشر. لذلك يجب أن نفهم الآيات المحكمة التي تضع القوانين الأساسية للكون.. ثم بعد ذلك نفهم على ضوئها سائر الآيات.

الأحاديث التي ذكرتها عن نزول سيدنا عيسى صحيحةٌ لاشكَّ فيها.. ولكن علينا أن نفهمها: هل قال ينزل من السماء؟ من أين جئنا بكلمة السماء؟ هل قال القرآن رفعه الله إلى السماء؟ إنّ كلمة (رفعه الله إليه) دليلٌ قاطع أنّه ليس في السماء.. لأنَّ الله ليس له جهة أو مكان معين بحيث يذهب المرء إليه. نحن ندعو الله في الصلاة ما بين السجدتين: وارفعني.. فهل يعني ذلك الذهاب إلى السماء؟ يقول النبي : “من تواضع لله رفعه”. فهل يأخذه ليعيش في السماء؟ يقول القرآن:

أَنزَلَنا إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً..

فهل سيدنا محمد نزل من السماء؟ وقال:

وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..

فهل الجمال والبقر والخراف تنزل من السماء؟ لماذا نفهم نزول ابن مريم أنّه من السماء؟

إنّ نزول عيسى بركةٌ عظيمة ونعمةٌ جليلة، ولذلك استخدم النبي كلمة (ينزل) بحسب الأسلوب القرآني الذي يقول ذلك عن النِّعم الجليلة. الماء (للحياة)، الأنعام (الغذاء الكامل)، الحديد (للصناعة والسلاح).. النبي لأنّه جاء بأعظم البركات.. ذكر الله.

أرجو أن تتدبَّر هذا الكلام بفطرتك السليمة ولسوف يتبيّن لك الحق إن شاء الله. نعم.. جاء الدين من الجزيرة العربية.. لأنّ النبي كان هناك.. ولكن الدين جاء من عند الله تعالى.. وهو لكلّ الدنيا.. ولم يخبرنا القرآن ولا الرسول أنّ الجزيرة العربية لها دخلٌ في هذا أو أنّها سوف تحفظ لنا الدين.

ثمّ إذا كان سيدنا محمد بنفسه، وفي كثير من الأحاديث الصحيحة، قد أخبر عن فساد الأمة وفساد مشائخها فكيف نُنكر ذلك. ألم يقل: لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم.. شِبْرًا بِشِبر وَذِرَاعًا بِذِرَاع حتَّى لو دَخَلوا جُحْرَ ضُبٍّ (مُلتوٍ ومُنْتِنٍ) لَدَخَلْتُموهُ.” أقرأ أبواب الفتن وآخر الزمان في كل كتب الأحاديث وترى ماذا قال من لا ينطق عن الهوى؟

ما هذه النغمة العنصريّة في قولك: الخليفة من غير بلاد العرب؟ ومن أخبرك أنّ مصر أرض الأنبياء جميعًا. إنّ الأنبياء الذين ظهروا فيها -بحسب التاريخ- لم يكونوا من أهلها ولم يكونوا لها. إنّهم أنبياءُ بني إسرائيل ابتداءً من يوسف ثم موسى الذي هرب بقومه منها، ثم المسيح الذي مرَّ فيها قبل النبوّة. فأين الأنبياء؟

هل نسيتَ القول الحاسم لسيدنا المصطفى : “ألا لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعَجَمِيّ ولا لِعَجَمِيٍّ على عَربيّ ولا لِأحمرَ على أسود ولا أسودَ على أحمر إلا بالتقوى”؟ هل للعرب فضلٌ بصفتهم عربًا؟ إنّ أعظم من خدموا الإسلام بعد الصحابة رضوان الله عليهم هم من غير العرب.. يكفيك الإمامان البخاري ومسلم على سبيل المثال.

عندما أخبر النبي عن عودة الإيمان إلى الأرض ونُصرة الإسلام وغلبته على الدين كلّه.. وضع يده الشريفة على كتف سلمان الفارسي وقال: “لو كانَ الإيمانُ بِالثُّريّا لَنَالهُ رِجالٌ من هؤلاء” (البخاري، كتاب التفسير، سورة الجمعة)

إذا ظنَّ الإنسان أنّ الأعمال العباديّة من صلاة وصوم وما إلى ذلك.. التي لا تُكلِّف المرء جُهدًا ولا مالاً حقًّا.. هي وحدها التي ترفع من شأنه وتُنجيه من حساب الله فقد خدعَ نفسه. لابدَّ للنجاة أن يعمل الإنسان مع سائر الناس لصالح الأمة. ومن لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهليّة. وقد حذَّرنا القرآن وقال:

وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ .

الجهاد اليوم هو التجمّع حول إمامٍ واحد وإقامة علاقة صادقة مع الله تعالى. أمّا المسلمون الذين تتحدَّث عنهم فليست لهم صفوفٌ ولا إمامٌ واحد، وإنّما هم فوضى متفرقون متمزِّقون.

أنارَ الله طريقك، وأراكَ الحقَّ، ومنحك الفرصة لخدمة الدين والأمة. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك