فكيف يجوز علاج مفاسد الأقلام بالسيوف والسهام؟

أيُفتي العقل السليم أن الله الذي هو الرحيم الكريم، يأخذ الغافلين في غفلتهم، ويهلكهم بالسيف أو عذاب السماء، ولما يفهموا حقيقة الإسلام وبراهينه، ولم يعلموا ما الإيمان ولا الدين؟ ثم إذا كان مدار الرحم والشفقة إزالة آفة قد أحاطت وكثرت، فكيف يجوز علاج مفاسد الأقلام بالسيوف والسهام، بل هذا إقرار صريح بأننا لا نقدر على الجواب، وليس عندنا جواب الأدلة المضلة إلا ضرب السيف البتار، وقتل الكفار، وكيف يطمئن قلب المعترض الشاك الغافل بضرب من السيف أو السوط أو جرح من الرمح والسهم، بل هذه الأفعال كلها تزيد ريب المرتابين.

ثم اعلم أن غضب الله ليس كغضب الإنسان وهو لا يتوجّه إلاّ إلى قوم قد تمت الحجة عليهم وأزيلت شكوكهم، ودُفعت شبهاتهم، ورأوا الآيات ثم جحدوا مع استيقان القلب، وقاموا على ضلالاتهم مبصرين. والعجب من إخواننا أنهم يعلمون أن عذاب الله لا ينـزل على قوم إلاّ بعد إتمام الحجة، ثم يتكلمون بمثل هذه الكلمات، والعجب الآخر أنهم ينتظرون المهدي مع أنهم يقرأون في صحيح ابن ماجة والمستدرك حديث: “لا مهدي إلاّ عيسى”، ويعلمون أن الصحيحين قد تركا ذكره لضعف أحاديث سُمعت في أمره، ويعلمون أن أحاديث ظهور المهدي كلها ضعيفة مجروحة، بل بعضها موضوعة، ما ثبت منها شيء، ثم يُصرّون على مجيئه كأنهم ليسوا بعالمين.

وأما الاختلافات التي وقعت في خبر نزول المسيح، فالأصل في هذا الباب أن الأخبار المستقبلة المتعلقة بالدنيا لا تخلو عن الابتلاء، وكذلك يريد الله منها فتنة قوم واصطفاء قوم، فيجعل في مثل هذه الأخبار استعارات ومجازات، ويُدقق مأخذها ويجعلها غامضة دقيقة فتنة للذين يُكذّبون المرسلين، ويظنون ظن السوء كالمستعجلين. ألا ترى إلى اليهود كيف شقوا في ردّ الرسول الصادق الذي جاء كطلوع الشمس مع وجود خبر مجيئه في كتبهم، ولو شاء الله لكتب في التوراة كلما يهديهم إلى صراط مستقيم، ولأخبرهم عن اسم خاتم الأنبياء  وعن اسم والده واسم بلدته وزمان ظهوره واسم صحابته واسم دار هجرته، ولكتب صريحا أنه يأتي من بني إسماعيل، ولكن ما فعل الله كذلك بل كتب في التوراة أنه يكون منكم من إخوانكم، فمالت آراء اليهود إلى أن نبي آخر الزمان يكون من بني إسرائيل، ووقعوا من هذا اللفظ المجمل في ابتلاء عظيم، فهلك الذين ما نظروا حق النظر، وظنوا أن يخرج النبي من قومهم ومن بلادهم، وكذّبوا خاتم النبيين.

واعلم أن هذه السُنّة ليست من قبيل الظلم بل من جميل إحسانات الله على عباده الصالحين، لأنهم يُبتلون عند الأنباء النظرية الدقيقة بابتلاء دقيق من ربهم، ثم يعرفون بنور عقلهم ولطافة فراستهم الصراط المستقيم، فيتحقق لهم الأجر عند ربهم، ويرفع الله درجاتهم، ويُميّزهم من غيرهم ويُلحقهم بالواصلين. ولو كان الخبر مشتملا على انكشاف تام وعلامات بديهة واضحة لجاوز الأمر من حدّ الإيمان، ولأقرّ به المفسد المعاند كما أقرّ به المؤمن المطيع، وما بقى على وجه الأرض أحد من المنكرين. ألا ترى أن أهل الملل والنِّحَلَ كلهم مع اختلافاتهم الكثيرة لا يختلفون في أن الليل مظلم والنهار منير، وأن الواحد نصف الإثنين، وأن لكل إنسان لسانا وأذنين، وأنفا وعينين، ولكن الله ما جعل الإيمانيات من البديهيات، ولو جعل لضاع الثواب وبطل العمل، فتفكر فإن الله يهدي المتفكرين. ومن كان عالما صالحا مجتهدا في طلب الحق يُنَوِّر الله قلبه، ويريه طريقه، ويعطيه فراسة من عنده، وإن الله لا يضيع أجر المحسنين. والذين كفّروني ولعنوني ما تدبروا في كتاب الله حق التدبر، وظنوا ظن السوء، وما تفكروا في أنفسهم أن العاقل لا يختار السوء والضلالة لنفسه، ولا يفتري على الله، وكيف يختار طريقا ويعلم أن فيه هلاكه، وأي شيء يحمله على ذلك الوبال مع علمه أنه طريق الخسران في الدنيا والآخرة؟

ولا يخفى على أعدائي أني امرء قد نفد عمري في تأييد الدين حتى جاءني الشيب من الشباب، فكيف يظن عاقل أن أختار الكفر والإلحاد في كبر سنّي ووهن جسمي وقربي من القبر؟ سبحان ربي! إن هذا إلا ظلم مبين. وها أنا برئ من بهتاناتهم، وما أجد عند النظر في عقائدي من سريان الوهم بهذا، والله يعلم ما في قلبي وقلوبهم، وتوكلت عليه. وما حمل عقلاءهم على مخالفتي إلاّ حب الدنيا وناموسها، والحسد الذي لا ينفك من أكثر العلماء إلا من حفظه الله برحمته. وقد جرت عادة أكثر العلماء هكذا أنهم إذا رأوا رجلا يقول قولا فوق أفهامهم فلا يتفكرون فيه، ولا يسألون القائل ليبين لهم حقيقته، بل يشتعلون بمجرد السماع، ويُكفرونه في أول مجلس، ويلعنونه ويكسرون القول فيه، وكادوا أن يقتلوه مشتعلين. وقال الله عز وجل: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (يس:31). والأمر الحق الذي يعلمه الله أن المسلمين كانوا في هذا الزمان كأفراخ العصافير ما بلغوا أشُدَّهم الروحانيةَ، وسقطوا من أكنانهم وأوكارهم وأعشاشهم، فأراد الله أن يجمعهم تحت جناحي، ويذيقهم حلاوة الإيمان، ولذة أنس الرحمن، ويجعلهم من العارفين. فمن كان عاقلا طالبا للنجاة فليبادر إليّ، ولا يُبادر إليّ إلاّ الذي يخاف الله وينبذ الدنيا من أيديه وعرضها وناموسها، ويبادر إلى الآخرة، ويرتضي لنفسه كل لعن وطعن، وأقوال الأعداء، وهجر الأحباء، وسبّ السّابّين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك