نفحة من كنوز معارف القرآن

نفحة من كنوز معارف القرآن

التحرير

حين يُقال إن الإسلام هو الدين الحيّ.. وإنه جاء من عند الله العزيز العليّ، يتبادر على الفور في الذهن سؤال، وينشأ في الفكر أمرٌ عضال: أليست الأديان كلها أديانا حيّة؟ ألا نجد في كلٍّ منها خيرًا ومزيّة؟ أليست الأديان كلها قد نزلت من لدن رب العالمين؟ أليس هو سبحانه الذي أرسل الأنبياء والمرسلين؟

فإذا كان الإسلام دينا حيا لأنه جاء من عند العليّ العظيم، فالأديان الأخرى أيضا جاءت من لدن نفس العليّ الرحيم، وإذا كان الإسلام دينا حيّا لأنه جاء ببعثة سيد الرسل أجمعين، فالأديان الأخري جاءت أيضا عن طريق الأنبياء والمرسلين.

وكذلك قد يتساءل المرء ويقول: أليس لجميع الأديان أتباعا مخلصين يؤمنون بها؟ أليس من بينهم من يعمل على نشرها والدعوة إليها؟ فلماذا لا تكون تلك الأديان جميعها أديانا حيّة، وفي كل منها لابد أن نجد آثار ما أنزله الله تعالى فيها من خير ومزيّة؟

والجواب هو أن الدين لا يكون حيّا لمجرد وجود أتباع به يؤمنون، وإلى الإيمان به يدعون. وليست الأديان أديانا حيّة لأنها نزلت من عند الله العزيز الكريم، أو أنها جاءت من لدن الخبير الحكيم. ولا لأنها تقضي بالقوانين والشرائع، أو أنها تحتوي على الأوامر والموانع.

وإنما الدين الحي هو الدين الذي يُوصِل الإنسانَ  إلى الله الذي هو بارئه وخالقه، ويجعل في قلب المؤمن بذلك الدين حُبًّا عظيمًا لله الذي هو كافله ورازقه، وحرصًا بالغًا على عبادته وطاعته، وشوقًا شديدًا للوصول إلى بارئه بقدر طاقته، وعزمًا أكيدًا على القرب من الله ووصاله، وأملاً كبيرًا في الفوز بحُبّ الله ونواله، حتى تفوق صلةُ العبدِ بربّه كلَّ ما عداها من الصلات، ويفيض حُبُّ اللهِ في قلب المؤمن فيطغى على حُبِّ كُلِّ محبوبٍ آخرٍ سوى رب الكائنات، فلا يبقى في نفس المؤمن ولا في قلبه، غير حب الله ورجاء نوال قربه.

حينئذ يتطهّرُ قلبُ المؤمن من كل أنواع الشائبات، ويُنَقَّى من الميل إلى الأهواء والشهوات. ويسطعُ فيه نورُ الله فتنقشع سُحُب الظلمات، وتتوَحَّدُ إرادة العبد مع إرادة رب السماوات. فلا يشاءُ العبدُ إلا ما شاء ربُّه، ولا يحبُّ إلا ما أحب حِبُّه، فتكون طاعة الله هي كل ما يتمناه المرء وما يُقضَى به إربُه. فلا تبقى له إرادةٌ منفصلة عن إرادة الله، ولا تبقى له حياةٌ إلا في كنف الله، ولا يهنأ له بال إلا في ظل الله. فيتسامى العبد عن كل فعل خسيس، ويبذل لرضاء ربه كل عزيز ونفيس، ويهجر لأجل حبيبه كل صديق وأنيس، ويُعطي عن طيب خاطر كل غال ورخيص، حتى إنه يعطي قلبه وحياته، ويبذل روحه وفؤاده، لمرضاة رب العالمين. فتغيب من قلبه شمسُ حُبِّ الدنيا الدنيّة، وتُشرق فيه أنوار الله البهية، وتتجلّى فيه صفات الله القُدُسية، وتنير فؤاده النفحات الربّانية.

فإذا بلغ حُبُّ الله لعبده ذلك الحدّ، وإذا أحَبَّ العبدُ ربَّه بكل إخلاص وَجَدّ، وإذا مضى قُدُمًا في سبيل ربِّه بكل عزيمة وكدّ، فحينئذ يخبر الله ملائكته الكرام، فيتنـزلون عليه ويبلّغونه سلام رب العالمين. ويبشرونه بالجنة مثوىً ومقصدًا، ويدافعون عنه ويدفعون عنه العدا، ويخبرونه بأنهم أصدقاؤه وأولياؤه في الحياة الدنيا، ويُوحي إليه الله بكلام صحيح، ويحدثه بقول فصيح، ويُثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويُنعم عليه بصادق الكشوف والرؤيا. ويُلقي إليه بأنواع المخاطبات، ويُكلمه بأحلى الكلمات، ويبشره بأعظم البشارات.

كذلك يبعث الله ملائكته إلى ذلك المؤمن الوفيّ، ليحملوا إليه سلامًا من الله الكريم العليّ، ففي ليلة القدر العظيمة، تتنَزلُ ملائكة الله الكريمة، على قلوب المؤمنين، وتُبلغهم سلاما من رب العالمين. وينْزل أيضا مع الملائكة جبريل، لكل من فنى في الله وقصد سواء السبيل، وفي ذلك يقول العزيز الجليل:

تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر 65).

فذكر الله تعالى نزول الملائكة وفيهم جبريل، ولكنه لم يذكر اسمه مباشرة بل وصفه بلفظ جليل، فقال عنه إنه: )الرُّوحُ(، لأنه يهب المؤمن المخلص روحا جديدة، تُعينه على تحمل نوائب الدهر الشديدة، فيَثْبُتُ رغم إصابته بكل بَلِيّة، ويصمد لكل مصيبة وأذيّة. ويمتحن الله عبده بكل أنواع الامتحان، فيخرج منها جميعا مُكرَمًا ولا يُهان. وقد يصيبه الله بالفقر وقلة المال، فيعطي في سبيل الله من القليل الذي بقي عنده.. شاكرا ربه في كل حال. وهكذا.. قد تُصيب المؤمن نوائب عدة، فيخرج منها كالمعدن المصهور بعد أن طهرته النار من كل الشوائب، فترى من آيات صبره الغرائب، وتشاهد من ثباته وأمره العجائب. الدنيا وما فيها لا تخلب لُبَّه، وحُبّ زُخرُفِها وزينتها لا يمس قلبه، وتراه دائما شاكرا ربّه. وتراه في كل آن وفي كل حال، ليس له عند غير الله من مطلب أو سؤال، بل يشكر الله دوما شكرا جزيلا، ويحمد الله حِبَّه حمدًا جليلا، ويذكر آلاء ربه وفضله بُكرة وأصيلا.

فيفرح المؤمن بكلام ربه السديد، ويشتاق إلى المزيد. وتكشف له الملائكة بإذن ربها علوم القرآن وما خفي فيه من أسرار. ويؤتيه الله علوما لدُنّية، ويُنَزِّل عليه من الحِكَمِ والدُّرَرِ البهيّة. ويُثَبِّت قلبه وفؤاده بالقول الثابت الذي يوحي به إليه. فيرث ذلك العبد الصالح علوم الأولين، ويُؤتيه الله تعالى من أنباء الآخِرين، ويهبه المعارف التي أتاها للسابقين، ويسقيه من النبع الذي سقى منه النبيين، ويطعمه ما طاب من موائد المرسلين. ويفتح أمامه سبل العرفان، ويمنحه من كنوز معارف القرآن، فإن القرآن كتاب مكنون، لا يمس معانيه إلا المطهرون، وذلك كما بيّنه الرب الرحيم.

من أجل هذا نقول إن الإسلام هو الدين الحيّ، لأنه يهدي الإنسان إلى الطريق الرشيد السويّ. ولأن الإسلام هو الدين الوحيد، الذي يُوصِلُ الإنسان بنهج سديد، إلى الصراط الذي أُمِرَ به من ربِّه، ويُطهر الإنسان من هواجس الشيطان وكربِه. وهو الدّين الذي يُعلن بكل وضوح أن الله يوحي إلى عباده الصالحين، وأن الله يُنَزّل ملائكته على المؤمنين المخلصين، فتُبَلّغُهم من ربهم الحبيب سلاما سلاما، وتأتيهم بالبشرى في الحياة الدنيا أنهم أولياء الله وأقرب مقاما.

وأما الأديان الأخرى فقد أعلنت أن وحي الله قد انقطع، وأن كلام الله إلى أوليائه قد امتنع، وأن الله لا يُكلم أحدا من عباده ولو قضى كل عمره في عبادة الله بخلوص النيّة، فكيف تكون تلك الأديان أديانا حيَّة، وهي لا تستطيع أن تهب لأتباعها الحياة النقيّة، ولا تستطيع أن تقود العبد إلى مراتب اليقين، التي لا ينالها العبد إلا بسماعه وحي الله المبين؟

نعم.. قد كانت هذه الأديان أديانا حيّة في الزمن القديم، وكانت تُوصِل متّبعيها إلى عتبة الرب الرحيم، وتُطهّر معتنقيها من دنس الشيطان الرجيم، ولكن لم يكن من المُقدّر لها أن تبقى حيّة إلى أبد الآبدين، مثل دين الإسلام الذي أتى به سيد الخلق أجمعين، محمد المصطفى عليه وعلى أتباعه الكرام، أفضل الصلاة وأزكى السلام. لقد فقدت هذه الأديان لُغاتها الأصليّة، ونزلت عليها كل مصيبة وبليّة،  فعبثت بها أيادي المحرّفين، وضاع الكثير من معانيها مع كثرة المترجمين، بل إنها ماتت بنُزول دين الإسلام، من رب السماء على محمد المجتبى خير الأنام، أفضل الخلق وسيد الأقوام.

Share via
تابعونا على الفايس بوك