سر الخلافة (4)
  • صفات الصحابة وتنزيههم
  • أثر مصاحبة الرسول
  • التحذير من التعدي على الأنقياء الأتقياء
  • التفكر المنطقي حول ملابسات الأحداث
  • قيام اليقين القرآني وسقوط الشك الظني
  • الحجج الدامغة لخلافة الصديق

__

وقال الله في مقام آخر في مدح المؤمنين:

  وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا . (1)

فانظر كلمات رب العالمين. أتُسمِّي قوما فاسقين سماهم الله متقين؟ ثم قال في مدح صحابة خاتم النبيين:

  مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ .(2)

فانظر كيف سمّى كل من عاداهم كافرًا، وغضب عليهم، فاخش الله واتق الذي يغيظ بالصحابة كافرين، وتدبَّرْ في هذه الآيات وآيات أخرى لعل الله يجعلك من المهتدين.

ومن تظنى من الشيعة أن الصدّيق أو الفاروق غصَب الحقوق، وظلم المرتضى أو الزهراء، فترَك الإنصاف وأحبَّ الاعتساف، وسلَك مسلك الظالمين. إن الذين تركوا أوطانهم وخلانهم وأموالهم وأثقالهم لله ورسوله، وأُوذوا من الكفار وأُخرِجوا من أيدي الأشرار، فصبروا كالأخيار والأبرار، واستُخلِفوا فما أترعوا بيوتهم من الفضة والعَين، وما جعلوا أبناءهم وبناتهم ورثاءَ الذهب واللُّجَين، بل ردوا كل ما حصل إلى بيت المال، وما جعلوا أبناءهم خلفاءهم كأبناء الدنيا وأهل الضلال، وعاشوا في هذه الدنيا في لباس الفقر والخصاصة، وما مالوا إلى التنعم كذوي الإمرة والرياسة.. أيُظَنّ فيهم أنهم كانوا ينهبون أموال الناس بالتطاولات ويميلون إلى الغصب والنهب والغارات؟ أكان هذا أثر صحبة رسول الله خيرِ الكائنات، وقد حمدهم الله وأثنى عليهم رب المخلوقات؟ كلا.. بل إنه زكّى نفوسهم وطهّر قلوبهم، ونوّر شموسهم، وجعلهم سابقين للطيبين الآتين. ولا نجد احتمالا ضعيفا ولا وهما طفيفا يُخبر عن فساد نياتهم، أو يشير إلى أدنى سيئاتهم، فضلا عن جزم النفس على نسبة الظلم إلى ذواتهم، ووالله إنّهم كانوا قومًا مقسطين. ولو أنهم أُعطوا واديا من مال من غير حلال فما تَفَلوا عليه وما مالوا كأهل الهوى، ولو كان ذهبا كأمثال الرُبى، أو كمقدار الأرضين. ولو وجدوا حلالا من المال لأنفقوه في سبل ذي الجلال ومهمات الدين. فكيف نظن أنهم أغضبوا الزهراء لأشجار، وآذوا فلذة النبي كأشرار، بل للأحرار نيّات، ولهم على الحق ثبات، وعليهم من الله صلوات، والله يعلم ضمائر المتقين.

وإن كان هذا من نوع الإيذاء فما نجا أسد الله الفتى من هذا، بل هو أحد من الشركاء، فإنه اختطب بنت أبا الجهل وآذى الزهراء. فإياك والاعتداء، وخُذِ الاتقاء ودَعِ الاعتداء ولا تتناولْ فُضالة الذين زاغوا عن المحجّة، وأعرضوا عن الحق بعد رؤية أنوار الحجّة، وكانوا على الباطل مصرّين. وإني أدلّك إلى صراط تنجيك من شبهات، فتدبَّرْ ولا تركَنْ إلى جهلات. وأقول لله وأرجو أن تنيب، ولو أسمع من بعضكم التثريب، ولا يهتدي عبد إلا إذا أراد الله هداه، ولا يرتوي أحدٌ إلا من سُقياه. إنه يرى قلبي وقلوبكم، وينظر قدمي وأسلوبكم، ويعلم ما في صدور العالمين.

فاعلم أيها العزيز أن حزبًا من علماء الشيعة ربما يقولون إن خلافة الأصحاب الثلاثة ما ثبتُ (3) من الكتاب والسُنّة، وأما خلافة سيدنا المرتضى وأسد الله الأتقى فثبت (4) من وجوه شتى وبرهان أجلى، فلزم من ذلك أن يكون الخلفاء الثلاثة غاصبين ظالمين آلتين، فإن خلافتهم ما ثبتت من خاتم النبيين وخير المرسلين.

أما الجواب فلا يخفى على المتدبرين الفارهين وعباد الله المتقين، أن ادعاء ثبوت خلافة سيدنا المرتضى صلفٌ بحتٌ ما لحقه من الصدق سنا وزورةُ طيف، وليس معه شهادة من كتاب ربنا الأعلى، وليس في أيدي الشيعة شمّةٌ على ثبوت هذا الدعوى، فلا شك أن خلافته عاري الجلدة من حلل الثبوت، وبادي الجردة كالسبروت، ولو كان عليٌّ بحرَ الأنوار ومستغنيا عن النعوت. فلا تُجادل من غير حق، ولا تستثفر بفويطتك في الرياغة، ولا تُرِنا تُرّهات البلاغة، ولا تقفُ طرق المتعسفين.

وإني والله لطالما فكرت في القرآن وأمعنتُ في آيات الفرقان، وتلقيتُ أمر الخلافة بوسائل التحقيق، وأعددت له الأُهَبَ كلها للتدقيق، وصرفتُ ملامح عيني إلى كل الأنحاء، ورميتُ مرامي لحظي إلى جميع الأرجاء، فما وجدتُ سيفًا قاطعًا في هذا المصافّ كآية الاستخلاف، واستبنتُ أنها من أعظم الآيات، والدلائل الناطقة للإثبات، والنصوص الصريحة من رب الكائنات، لكل من يريد أن يحكم بالحق كالقضاة، وأتيقن أنه من طاب خِيْمُه، وأُشرِبَ ماء الإمعان أديمُه، يقبلها شاكرا، ويحمد الله ذاكرا، على ما هداه وأخرجه من الضالّين.

وإن آيات الفرقان يقينية وأحكامها قطعية، وأما الأخبار والآثار فظنية وأحكامها شكية، ولو كانت مروية من الثقات ونحارير الرواة. ولا تنظروا إلى نضرة حليتها وخضرة دوحتها، فإن أكثرها ساقطة في الظلمات، وليست بمعصومة من مس أيدي ذوي الظلامات، وقد عسر اشتيارها من مشار النحل، وإنما أُخذت من النهل. هذا حال أكثر الأحاديث كما لا يخفى على الطيب والخبيث، فبأي حديث بعد كتاب الله تؤمنون؟ وإذا حصحص الحق فأين تذهبون؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاتقوا الضلال يا معشر المسلمين.

وقد قلتُ من قبل أن الآثار ما كفلت التزام اليقينيات، بل هي ذخيرة الظنيات والشكيات، والوهميات والموضوعات، فمن ترك القرآن واتكأ عليها فيسقط في هُوة المهلكات ويلحق بالهالكين. إنما الأحاديث كشيخ بالي الرياش بادي الارتعاش، ولا يقوم إلا بهراوة الفرقان وعصا القرآن، فكيف يُرجى منها اكتناز الحقائق وخزنُ نشبِ الدقائق من دون هذا الإمام الفائق؟ فهذا هو الذي يؤوي الغريب ويُطهّر المعيب، ويفتتح النطق بالدلائل الصحيحة والنصوص الصريحة، وكله يقين وفيه للقلوب تسكين. وهو أقوى تقريرًا وقولا، وأَوْسع حفاوة وطولا، ومَن تركه ومال إلى غيره كالعاشق، فتجاوز الدين والديانة ومرق مروق السهم الراشق، ومن غادر القرآن وأسقطه من العين، وتبع روايات لا دليل على تنـزُّهها من المَيْن، فقد ضل ضلالا مبينا، وسيصطلي لظى حسرتين، ويريه الله أنه كان على خطأ مبين. فالحاصل أن الأمن في اتباع القرآن، والتباب كل التباب في ترك الفرقان. ولا مصيبة كمصيبة الإعراض عن كتاب الله عند ذوي العينَين، فاذكروا عظمة هذا الرزء وإن جلّ لديكم رزءُ الحسَين، وكونوا طلاب الحق يا معشر الغافلين.

والآن نذكر الآيات الكريمة والحجج العظيمة على خلافة الصدّيق لنريك ثبوته على وجه التحقيق، فإن طريق الارتياب قطعة من العذاب، ومن تبع الشبهات فأوقع نفسه في المهلكات، وأما قطع الخصومات فلا يكون إلا باليقينيات، فاسمع مني ولا تبعد عني، وأدعو الله أن يجعلك من المتبصرين.

قال الله في كتابه المبين:

  وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَّمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (5).

هذا ما بشّر ربّنا للمؤمنين، وأخبر عن علامات المستخلفين، فمن أتى الله للاستماحة، وما سلك مسلك الوقاحة، وما شد جبائر التلبيس على ساعد الصراحة، فلا بد له من أن يقبل هذا الدليل، ويترك المعاذير والأقاويل، ويأخذ طرق الصالحين.

وأما تفصيله ليبدو عليك دليله فاعلموا يا أولي الألباب والفضل اللباب، أن الله قد وعد في هذه الآيات للمسلمين والمسلمات أنه سيستخلفنّ بعض المؤمنين منهم فضلاً ورحمًا، ويبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنًا، فهذا أمر لا نجد مصداقه على وجه أتمَّ وأكملَ إلا خلافة الصدّيق، فإن وقت خلافته كان وقت الخوف والمصائب كما لا يخفى على أهل التحقيق. فإن رسول الله لما تُوفّي نزلت المصائب على الإسلام والمسلمين، وارتد كثير من المنافقين، وتطاولت ألسنة المرتدين، وادعى النبوة نفرٌ من المفترين، واجتمع عليهم كثير من أهل البادية، حتى لحق بمسيلمة قريبٌ من مائة ألف من الجهَلة الفجَرة، وهاجت الفتن وكثرت المحن، وأحاطت البلايا قريبا وبعيدا، وزُلزل المؤمنون زلزالا شديدا. هنالك ابتُلِيت كل نفس من الناس، وظهرت حالات مُخوفة مدهشة الحواسّ، وكان المؤمنون مضطرين كأن جَمْرًا أُضرمت في قلوبهم أو ذُبحوا بالسكّين. وكانوا يبكون تارة من فراق خير البرية، وأخرى من فتن ظهرت كالنيران المحرقة، ولم يكن أثرًا من أمن، وغلبت المفتتنون كخضراءِ دِمْنٍ، فزاد المؤمنون خوفًا وفزعًا، وملئت القلوب دهشا وجزعا. ففي ذلك الأوان جُعِل أبو بكر حاكم الزمان وخليفة خاتم النبيين. فغلب عليه همٌّ وغمٌّ من أطوار رآها، ومن آثار شاهدها في المنافقين والكافرين والمرتدين، وكان يبكي كمرابيع الربيع، وتجري عبراته كالينابيع، ويسأل الله خير الإسلام والمسلمين.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جُعل أبي خليفة وفوّض الله إليه الإمارة، فرأى بمجرد الاستخلاف تموُّجَ الفتن من كل الأطراف، ومَوْرَ المتنبئين الكاذبين، وبغاوة المرتدين المنافقين. فصُبّت عليه مصائب لو صُبّت على الجبال لانهدت وسقطت وانكسرت في الحال، ولكنه أُعطي صبرا كالمرسلين، حتى جاء نصر الله وقُتل المتنبئون وأُهلك المرتدون، وأُزيل الفتن ودفُع المحن، وقُضي الأمر واستقام أمر الخلافة، ونجّى الله المؤمنين من الآفة، وبدّل من بعد خوفهم أمنا، ومكّن لهم دينهم وأقام على الحق زمنا وسود وجوه المفسدين، وأنجز وعده ونصر عبده الصدّيق، وأباد الطواغيت والغرانيق، وألقى الرعب في قلوب الكفار، فانهزموا ورجعوا وتابوا وكان هذا وعد من الله القهار، وهو أصدق الصادقين.

فانظر كيف تم وعد الخلافة مع جميع لوازمه وإماراته في الصدّيق، وادْعُ الله أن يشرح صدرك لهذا التحقيق، وتدبَّرْ كيف كانت حالة المسلمين في وقت استخلافه وقد كان الإسلام من المصائب كالحريق، ثم ردّ الله الكرّة على الإسلام وأخرجه من البِير العميق، وقُتِل المتنبئون بأشدّ الآلام، وأُهلكَ المرتدون كالأنعام، وآمن الله المؤمنين من خوفٍ كانوا فيه كالميتين. وكان المؤمنون يستبشرون بعد رفع هذا العذاب، ويهنّئون الصدّيق ويتلقونه بالترحاب، ويحمدونه ويدعون له من حضرة رب الأرباب، وبادروا إلى تعظيمه وآداب تكريمه، وأدخلوا حبَّه في تامورهم، واقتدوا به في جميع أمورهم، وكانوا له شاكرين. وصقلوا خواطرهم، وسقوا نواضرهم، وزادوا حبًّا، وودّوا وطاوعوه جهدًا وجِدًّا، وكانوا يحسبونه مباركًا ومؤيّدا كالنّبيين. وكان هذا كلّه من صدق الصدّيق واليقين العميق.

وإن آيات الفرقان يقينية وأحكامها قطعية، وأما الأخبار والآثار فظنية وأحكامها شكية، ولو كانت مروية من الثقات ونحارير الرواة.

ووالله إنه كان آدم الثاني للإسلام، والمظهر الأول لأنوار خير الأنام، وما كان نبيا ولكن كانت فيه قُوى المرسلين؛ فبصدقه عادت حديقة الإسلام إلى زخرفه التام، وأخذ زينتَه وقُرّتَه بعد صدمات السهام، وتنوعت أزاهيره وطُهّرت أغصانه من القَتام، وكان قبل ذلك كميتٍ نُدِبَ، وشريد جُدِبَ، وجريح نُوِّبَ وذبيح جُوِّبَ، وأليمِ أنواعِ تعبٍ، وحريقِ هاجرةٍ ذاتِ لهبٍ، ثم نجّاه الله من جميع تلك البليّات، واستخلصه من سائر الآفات، وأيّده بعجائب التأييدات حتى أَمَّ الملوكَ ومَلِكَ الرقاب، بعدما تكسَّرَ وافترش التراب، فزُمّتْ ألسنة المنافقين وتهلّلَ وجه المؤمنين. وكل نفس حمدت ربه وشكرت الصدّيق، وجاءته مطاوعًا إلا الزنديق، والذي كان من الفاسقين. وكان كل ذلك أجرَ عبدٍ تخيَّرَه الله وصافاه ورضي عنه وعافاه، والله لا يضيع أجر المحسنين.

فالحاصل أن هذه الآيات كلّها مُخبرة عن خلافة الصدّيق، وليس لها محملٌ آخر فانظر على وجه التحقيق، واخش الله ولا تكن من المتعصبين.

ثم انظر أن هذه الآيات كانت من الأنباء المستقبلة لتزيد إيمان المؤمنين عند ظهورها، وليعرفوا مواعيد حضرة العزة، فإن الله أخبر فيها عن زمان حلول الفتن ونزول المصائب على الإسلام بعد وفاة خير الأنام، ووعد أنه سيستخلف في ذلك الزمن بعضا من المؤمنين ويؤمِنهم من بعد خوفهم، ويمكّن دينه المتزلزل ويهلك المفسدين. ولا شك أن مصداق هذا النبأ ليس إلا أبو بكر وزمانه، فلا تنكر وقد حصحص بُرهانه. إنه وجد الإسلام كجدار يريد أن ينقضّ من شر أشرار، فجعله الله بيده كحصن مشيد له جدران من حديد، وفيه فوج مطيعون كعبيد. فانظر هل تجد من ريب في هذا، أو يسوغ عندك إتيان نظيره من زُمر آخرين؟

وإني أعلم أن بعض الشيعة يخاصم أهل السُنّة في هذا المقام، وقد تمادت أيام الخصام، وربما انتهى الأمر من مخاصمة إلى ملاكمة ومقاتلة، وأفضتْ إلى محاكمة ومرافعة. وأتعجب على الشيعة وسوء فهمهم، وأتأوّه لإفراطِ وهمهم، قد تجلّت لهم الآيات وظهرت القطعيات، فيفرّون ممتعضين ولا يتفكرون كالمنصفين. فها أنا أدعوهم إلى أمرٍ يفتح عينهم، وسواء بيننا وبينهم، أن نحاضر في مضمار، ونتضرع في حضرة رب قهار، ونجعل لعنة الله على الكاذبين. فإن لم يظهر أثر دعائي إلى سَنة، فأقبل لنفسي كل عقوبة، وأُقرّ بأنهم كانوا من الصادقين، ومع ذلك أعطي لهم خمسة آلاف من الدراهم المروجة، وإن لم أُعطِ فلعنة الله عليّ إلى يوم الآخرة. وإن شاءوا فأجمع لهم تلك الدراهم في مخزن دولة البريطانة، أو عند أحد من الأعزّة. بيد أني لا أُخاطب كلّ أحد من العامّة، إلا الذي ينسج رسالة على منوال هذه الرسالة. وما اخترتُ هذا المنهج إلا لأعلم أن المباهل المناضل من أهل الفضيلة والفطنة، لا من الجهَلة الغُمر الذين ليس لهم حظ وافر من العربية، فإن الذي حل محل الأنعام لا يستحق أن يؤثَر للإنعام، والذي هو كالجِمال، لا يليق أن يجلس في مجالس الحسن والجَمال، ومن تعرض للمنافثة لا بد له من المشابهة. فمن لم يكن مثلي أنبلَ الكُتّاب فليس هو عندي لائقا للخطاب. ثم لما بلغتُ قُنّةَ هذا المقام المنيع، فضلا من القدير البديع، أحبُّ أن أرى مثلي في هذه الكرامة، وأكره أن أناضل كل أحد من العامة، فإنه فيه كسر شأني، وعار لعلوّ مكاني، فلا أكلّمه أبدًا، بل أعرض عن الجاهلين.

——–

(1)  الفتح:27    (2) الفتح:30

(3) سهو الناسخ، والصحيح: “ثبتت”. (التقوى)

(4) سهو الناسخ، والصحيح: “فثبتت”. (التقوى)

(5)  النور:56-58

Share via
تابعونا على الفايس بوك