سر الخلافة (2)
  • تضرعات المسيح الموعود لربه
  • فتن تحيق بالإسلام
  • المسيح الموعود يعلن عن نفسه
  • الشيعة وأمر الخلافة
  • رسالة كتاب “سر الخلافة”
  • تمهيد: ذكر قساوة قلوب القوم
  • قيامة الإمام المهدي
  • معارضات الرافضين له
  • إثم الشيعة لخوضهم في المقربين

__

“فإن الحق لا تخلو من المرارة”

بسم الله الرحمن الرحيم

يا مُعطيَ الإيمان والعقل والفكر، نحضُر عتبتك بطيّبات الحمد والشكر، ونُداني حضرتك بتحيات التمجيد والتقديس والذكر، ونطلب وجهك بقصوى الطلب، ونسعى إليك في الطرب والكرب. نحفد إليك ولا نشكو الأين، ونؤمن بك ولا نأخذ في كيف وأين. وجئناك منقطعين من الأسباب، ومستبطنين أحزانا للقاعدين على السراب، والغافلين عن الماء المَعين وطرق الصواب، والمستكبرين، الذين يبلعون الريق، ويرفضون الكأس والإبريق، ويُعادون الصادقين. يتركون الحقائق لأوهام، وما كانت ظنونهم إلا كمُخْلِفة أو جَهام، ولا يجيئون أهل المعارف إلا متكاسلين، ولا ينظرون الحق إلا لاعبين. وهجمَتْهم أوهامهم كالبلاء المفاجي في الليل الداجي، فصار العقل كالظلف الواجي، فسقطوا على أنفسهم مُكبّين. والتحصهم تعصّبُهم إلى الإنكار، وأسفوا على الواعظين، وولّوا الدبر كالفرار. وامتلأوا حشنة وحقدًا، ونقضوا عهدًا وعقدًا، وطفقوا يسبّون الناصحين. وما كان فيهم إلا مادّةُ غباوة، رُكِّبَ بإثاوة، فأداروا رحى الفتن من عداوة، وسفَا تُرْبَهم ريحُ شقاوة، فبعدوا عن حق وحلاوة، وجلَوا عن أوطان الصدق تائهين. كثرت الفتن من حؤول طبائعهم، وخُدع الناس من اختداعهم. ربِّ فارحم أُمّة محمد وأصلِحْ حالهم، وطهِّرْ بالهم وأَزِلْ بَلبالهم، وصلّ وسلّم وبارِك على نبيّك وحبيبك محمد خاتم النبيين، وخير المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه عمائد الملّة والدين، وعلى جميع عبادك الصالحين. آمين.

أما بعد.. فاعلم أيها الأخ الفطن، أن هذه الأيام أيامٌ تتولد فيه الفتن كتولُّد الدود في الجيفة المنتنة، وتضطرم فيه الأهواء كاضطرام النيران من الخُشُب اليابسة. وأرى الإسلام في خطرات من إعصار هذا الزمان، وصراصر هذا الأوان. قد انقلب الزمن واشتدت الفتن، وازورّت مُقْلتا الكاذبين مغضبين على الصادقين، واحمرّت وجنتا الطالحين على الصالحين. وما كان تعبُّسهم إلا لعداوة الحق وأهله، فإن أهل الحق يفضح الخؤونَ ويُنجي الخلق مِن وَحْله، ولا يصبر على كلمات الظالم وجورِه، بل يرد عليه من فوره، ويصول على كل مريب لتكشيفِ مَعيبٍ، وهتكِ سترِ المدلّسين. وكذلك كنتُ ممن أسلمَتْهم محبّةُ الحق إلى طعن المعادين، وانجرَّ أمرهم من حماية الصدق إلى تكفير المكفرين.

وتفصيل ذلك أن الله إذا أمرني وبشّرني بكوني مجدّدَ هذه المائة، والمسيحَ الموعود لهذه الأُمة، وأخبرتُ المسلمين عن هذه الواقعة، فغضبوا غضبا شديدا كالجهَلة، وساءوا ظنًا من العجلة، وقالوا كذّاب ومن المفترين. وكلما جئتُهم بثمار من طيبات الكَلِم، أعرضوا إعراض البَشِم، حتى غلظوا لي في الكلام، ولسعوني بحُمَة الملام. ونصحت لهم وبلّغت حق التبليغ مرارا، وأعلنتُ لهم وأسررت لهم إسرارًا، فلم تزل سحبُ نصاحتي تبدو كالجَهام، ونخبُ مواعظي تزيد شقوة اللئام، حتى زادوا اعتداءً وجفاءً، وطبع الله على قلوبهم فاشتدوا دناءةً وداءً، وكانوا على أقوالهم مصرّين. ولعنوني وكذّبوني وكفّروني وافتروا من عند أنفسهم أشياء، ففعل الله ما شاء، وأرَى المكذّبين أنهم كانوا كاذبين. وطردني كل رجل وَحْداني، إلا الذي دعاني وهداني، فحفظني بلمحاتِ ناظرِه، وربّاني بعنايات خاطره، وجعلني من المحفوظين.

وبينما أنا أفرّ من سهام أهل السُنّة، وأسمع منهم أنواع الطعن واللعنة، إذ وصلني بعض المكاتيب من بعض أعزة الشيعة وعلماء تلك الفرقة، وسألوني عن أمر الخلافة، وأمارات خاتم الأئمّة، وكانوا من طلباء الحق والاهتداء، بل بعضهم يظنون بي ظن الأحبّاء، ويتخذونني من النصحاء، ويذكرونني بخلوص أصفى وقلب أزكى، فكتبوا المكاتيب بشوقٍ أَبْهَى وحِرّةٍ عُظمَى، وقالوا حَيَّهَلْ بكتاب أشفى، يشفينا ويروينا ويهب لنا برهانا أقوى. ثم أرسلوا إليّ خطوطا تترى، حتى وجدتُ فيها ريح كبدٍ حَرَّى، فتذكرتُ قصّتي الأولى، وانثنيتُ أقدِّم رِجلا وأؤخّر أخرى، حتى قوّاني ربي الأغنى، وألقى في روعي ما ألقى، فنهضتُ لشهادة الحق الأجلى، ولا أخاف إلا الله الأعلى، والله كاف لعباده المتوكلين.

واعلم أن أهل السُنة عادَوني في شَرْخ شأني، والشيعة كلّموني في إقبال زماني، وإني سمعتُ من الأولين كلمات كبيرة، وسأسمع من الآخرين أكبر منها، وسأصبر إن شاء الله حتى يأتيني نصر ربي، هو معي حيثما كنتُ؛ يراني ويرحمني، وهو أرحم الراحمين. ورأيت أكثر أحزاب الشيعة لا يخافون عند تطاوُل الألسنة ولا يتّقون ديّان الآخرة، ولا يجمعون نشوب الحقيقة، ولا يذوقون لبوب الطريقة، ولا يفكرون كالصلحاء، ولا يتخيرون طرق الاهتداء، فرأيتُ تفهيمهم على نفسي حقًّا واجبًا ودَينًا لازمًا، لا يسقط بدون الأداء. فكتبتُ هذه الرسالة العُجالة، لعل الله يصلح شأنهم ويُبدل الحالة، ولأبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وأخبرهم عن سرّ الخلافة، وإن كان تأليفي هذا كولد الإصافة، وما ألّفتُها إلا ترحّمًا على الغافلين والغافلات، وإنما الأعمال بالنيات. وأتيقن أن هذه الرسالة تُحفِظ كثيرا من ذوي الحرارة، فإن الحق لا تخلو من المرارة، وسأسمع من علماء الشيعة أنواع اللعنة، كما سمعتُ من أهل السُنة.

فيا ربّ.. لا توكُّل إلا عليك، ولا نشكو إلا إليك، ولا ملجأ إلا ذاتك، ولا بضاعة إلا آياتك، فإن كنتَ أرسلتني بأمرك لإصلاح زُمرك، فأدرِكْني بنصرك، وأيِّدْني كما تُؤيّد الصادقين. وإن كنتَ تحبّني وتختارني فلا تُخزِني كالملعونين المخذولين. وإن تركتني فمن الحافظ بعدك وأنت خير الحافظين؟ فادرَأْ عني الضرّاء، ولا تُشمت بي الأعداء، وانصرني على قوم كافرين.

أما الرسالة فهي مشتملة على تمهيد وبابَين، وفيها هدايات لذوي العينين ولقوم متّقين. وأسأل الله أن يضع فيها بَرَكة، ويضمّخها بعطر التأثير رحمة، ولا علم لنا إلا ما علّمَنا وهو خير المعلّمين.

التمهيـــد

أيها الأعزة.. اعلموا، رحمكم الله، أني امرؤٌ عُلّمتُ من حضرة الله القدير، ويسّرني ربي لكل دقيقة، ونجاني من اعتياص المسير، وعافاني وصافاني وأسرَى بي من بيت نفسي إلى بيته العظيم الكبير. فلما وصلتُ القِبلة الحقيقية بعد قطع البراري والبحار.. وتشرفت بطواف بيته المختار، وخصصني لطفُ ربي بتجديد المدارك وإدراك الأسرار، وكان ربي خِدْني ووَدُودي، واستودعتُه كلَّ وجودي، وأخذتُ من لدنه كلَّ علم من الدقائق والأسرار، وصُبّغتُ منه في جميع الأنظار والأفكار، صرفتُ عنان التوجه إلى كل نزاع كان بين فِرَق القوم والملة، وفتّشتُ في كل أمر من السبب والعلة، وما تركتُ موطنا من مواطن البحث والتدقيق، إلا واستخرجتُ أصله على وجه التحقيق. وعرفتُ أن الناس ما أخطأوا في فصل القضايا، وما وقعوا في الخطايا، إلا لميلهم إلى طرف مع الذهول عن طرف آخر، فإنهم كبّروا جهة واحدة بغير علم وحسبوا ما خالفها أصغر وأحقر. وكان من عادات النفس أنها إذا كانت مغمورة في حُبّ شيء من المطلوبات، فتنسى أشياء يخالفه، ولا تسمع نصاحة ذوي المواساة، بل ربما يعاديهم ويحسبهم كالأعداء، ولا يحاضر مجالسهم ولا يصغي إلى كلماتهم لشدة الغطاء. ولهذه المفاسد علل وأسباب وطرق وأبواب، وأكبر علله قساوة القلوب، والتمايل على الذنوب، وقلة الالتفات إلى محاسبات المَعادِ، وصحبة الخادعين والكاذبين من أهل العناد، وإذا رسخوا في جهلهم فتدخُل العثرات في العادات، وتكون للنفوس كالمرادات، فنعوذ بالله من عثرات تنتقل إلى عادات وتُلحق بالهالكين. وربما كانت هذه العادات مستتبعة لتعصبات راسخة من مجادلات. والمجادلات النفسانية سمٌّ قاتِل لطالب الحق والرشاد، وقلما ينجو الواقع في هذه الوهاد. وقد تكون العلل المفسدة والموجبات المضلِّة مستترة، ومن العيون مخفية، حتى لا يراها صاحبها ويحسب نفسه من المصيبين المنصفين. وحينئذ يسعى إلى المشاجرات، ويشتد في الخصوصات(1)، وربما يحسب خيالا طفيفا ورأيا ضعيفا كأنه حجة قوية لا دحوض لها، فيميس كالفرحين. وسبب كل ذلك قلّةُ التدبر وعدم التبصّر، والخلوُّ عن العلوم الصادقة، وانتقاشُ صُورِ الرسوم الباطلة، والانتكاسُ على شهوات النفس بكمال الجنوح والحرمان من مذوقات الروح وعجزُ النظر عن الطموح والإخلادُ إلى الأرض والسقوط عليها كعَمِين.

وهذه هي العلل التي جعلت الناس أحزابا، فافترقوا وأكثرهم تخيّروا تبابًا، وكذّبوا الحق كِذّابًا، بل لعنوا أهله كالمعتدين، وصالوا كخريجٍ مارِق على المحسنين، ونظروا إلى أهل الحق بتشامخ الأنوف، وتغيظ القلب المؤوف، وحسبوا أنفسهم من العلماء والأدباء، وسحبوا ذيل الخيلاء، وما كانوا من المفلقين. ومنهم الذين نالهم من الله حظٌّ من المعرفة، ورزق من الحق والحكمة، وفتَح الله عيونهم وأزال ظنونهم، فرأوا الحقائق محدقين. ومنهم قوم أخطأوا في كل قدم، وما فرّقوا بين وجود وعدم، وما كانوا مُستبصرين. أصرّوا على مركوزات خطراتهم، وخطوات خطيّاتهم، ولباس سيّئاتهم، وكانوا قومًا مفسدين.

وإذا نزعوا عن المِراس بعد ما نزعوا لاء (2) البأس، ويئسوا من الجِحاس، مالوا ميلة واحدة إلى الإيذاء بالتحقير والازدراء، وبنحت البهتان والافتراء والتوهين. وكلما خضعتُ لهم بالكلام مالوا إلى الإرهاق والإيلام، وكادوا يقتلونني لو لم يعصمني ربي الحفيظ المعين. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وزاد ذنوبهم، وتركهم في ظلمات متخبطين. فنهضتُ بأمر الله الكريم، وإذن الله الرحيم، لأزيل الأوهام وأداوي السقام، فاستشاطوا من جهلهم غضبًا، وأوغلوا في أثري زرايةً وسبًّا، وفتحوا فتاوى التكفير ودفاتر الدقارير، وصالوا عليّ بأنواع التزوير، ولدغوني بلسان نضناض، وداسوني كرضراض. وطالما نصحتُ فما سمعوا، وربما دعوتُ فما توجهوا، وإذا ناضلوا ففرّوا، وإذا أخطأوا فأصرّوا وما أقرّوا، وما كانوا خائفين. واجترءوا على خيانات فما تركوها وما ألغوها، حتى إذا الحقائق اختفت، وقضية الدين استعجمت، وشموس المعارف أفَلتْ وغرَبتْ، ومعارف الملة اغتربت وتغرّبت، والدواهي اقتربت ودنت وغلبت، وبيتُ الدين والديانة خلا، والأمن والإيمان أجفلا، ورأيت أن الغاسق قد وقب، ووجه المحجّة قد انتقب، فألّفتُ كُتبًا لتأييد الدين، وأترعتُها من لطائف الأسرار والبراهين، فما انتفعوا بشيء من العظات، بل حسبوها من الكلِم المُحفِظات، وما كانوا منتهين.

ثم إذا رأوا أن الحجة وردت، والنار المضرمة بردت، وما بقي جمرةٌ من جمر الشبهات، فركنوا إلى أنواع التحقيرات، وقالوا مِن أشراط المجدّد الداعي إلى الإسلام، أن يكون من العلماء الراسخين والفضلاء الكرام، وهذا الرجل لا يعلم حرفا من العربية، ولا شيئًا من العلوم الأدبية، وإنا نراه من الجاهلين، وكانوا في قولهم هذا من الصادقين. فدعوتُ ربي أن يُعلّمني إن شاء، فاستجاب لي الدعاء، فأصبحتُ بفضله عارف اللسان، ومليح البيان، ومن الماهرين. ثم ألّفتُ كتابَين في العربية مأمورًا من الحضرة الأحدية، وقلتُ يا معشر الأعداء، إن كنتم من العلماء والأدباء، فأْتوا بمثلها يا ذوي الدعاوي والرياء إن كنتم صادقين. ففرّوا واختفوا كالذي ادّان عند صفر اليدين، وما أفاق إلا بعد إنفاق العين، فما قدر على الأداء بعد التطوق بالدَين، ولازَمه مستحقّه وجدَّ في تقاضي اللُجَين، فما كان عنده إلا مواعيد المَين؛ كذلك يخزي الله قومًا متكبرين.

والعجب أنهم مع هذا الخزي والذلّة، وهتك الأستار والنكبة، ما رجعوا إلى التوبة والانكسار، وما اختاروا طريق الأبرار والأخيار، وما صلح القلب المؤوف وما تقوضت الصفوف، وما سعوا إلى الحق نادمين، بل لوَوا عني العِذار، وأبدوا التعبس والازورار، وكانوا إلى الشر مبادرين. ورأيتهم في سلاسل بخلهم كالأسير، وما نصحتُ لهم نصحا إلا رجعتُ يائسا من التأثير، حتى تذكرتُ قصة القردة والخنازير، واغرورقت عيناي بالدموع إذ رأيتُ ذوي الأبصار كالضرير، وإني مع ذلك لستُ من اليائسين.

وقيّض القدر لهتك أستارهم وجزاء فجّارهم أنهم عادَوا الصادقين وآذَوا المنصورين، وحسبوا الجدّ عبثًا والحق باطلاً، فكانوا من المعرضين. وإني أراهم في لددٍ وخصامٍ مُذْ أعوامٍ، وما أرى فيهم أثر التائبين. فأردتُ أن أتركهم وأُعرض عن الخطاب، وأطوي ذكرهم كطيّ السجلّ للكتاب، وأتوجه إلى الصالحين. ولو أن لي ما يوجّههم إلى الحق والصواب لفعلتُه، ولكني ما أرى تدبيرا في هذا الباب، وكلما دعوتهم فرجعوا متدهدهين، وكلما قدتهم فقهقروا مقهقهين. بيد أني أرى في هذه الأيام أن بعض العلماء من الكرام رجعوا إلي وانتثرت عقود الزهام، وزال قليل من الظلام، وتبرءوا من خُبث أقوال الأعداء، وأدهشهم الإدلاج في الليلة الليلاء، وجاءوني كالسعداء، فقلت: بَخْ بَخْ لهذا الاهتداء، وهداهم ربهم إلى عين الصواب من ملامح السراب، فوافَوني مخلصين، وشربوا من كأس اليقين، وسُقوا من ماء معين، وأرجو أن يكمل الله رشدهم ويجعلهم من العارفين. كذلك أدعو لنظّارة هذا الكتاب، أن يوفقهم الله لهم لتخيُّر طرق الصواب، ومَن بلغ أشُدَّه في نشأة روحانية، فسيقبل دعوتي بتفضلات ربانية، وقد سوّيت كلماتي لكل من يصغي إلى عظاتي، والله يعلم مجالبها ويدري طالبها، ولا تتخطى نفس فطرتها، ولا تترك قريحة شاكلتها، ولا يهتدي إلا من كان من المهتدين.

اعلموا، رحمكم الله، أن قومًا من الذين قالوا نحن أتباع أهل البيت ومن الشيعة قد تكلموا في جماعةٍ من أكابر الصحابة وخلفاء رسول الله وأئمة الملّة، وغلَوا في قولهم وعقيدتهم، ورموهم بالكفر والزندقة، ونسبوهم إلى الخيانة والغضب والظلم والغيّ، وما انتهوا إلى هذا الزمان وما فاءَ مَنشَرُهم إلى الطيّ، وما كانوا منتهين. بل استحلَوا ذِكرَ سبِّهم، وتخيَّروه في كل خبّهم، وحسبوه من أعظم الحسنات بل من ذرائع الدرجات، ولعنوهم واستجادوا هذا العمل وشدوا عليه الأمل، وظنوا أنه من أفضل أنواع الصالحات والقربات، وأقرب الطرق لابتغاء مرضاة الله وأكبر وسائل النجاة للعابدين. وإني لبِثتُ فيهم بُرهةً من الزمان، ويسّر لي ربّي كل وقت الامتحان، وكنتُ أتوجس ما كانوا يُسرّون في هذا الباب، وأُصغي إلى كل طرق الاختلاب. وقيّض القدر لحسن معرفتي أن عالما منهم كان من أساتذتي، فكنت فيهم ليلا ونهارًا، وجادلتهم مرارًا، وما كان أن تتوارى عني خبيئتهم أو يخفى علي رؤيتهم، فوجدتُ أنهم قوم يُعادون أكابر الصحابة، ورضوا بغشاوة الاسترابة. ورأيت كل سعيهم في أن يفرُط إلى الشيخَين ذمٌّ، أو يلحقهما وصمٌ، فتارة كانوا يذكرون للناس قصة القرطاس، وتارة يشيرون إلى قضية الفَدَك، ويزيدون عليه أشياء من الإفك، وكذلك كانوا مجترئين على افترائهم وسادرين في غلوائهم، وكنتُ أسمع منهم ذمّ الصحابة وذمّ القرآن وذمّ أهل الله وجميع ذوي العرفان، وذمّ أُمّهات المؤمنين. فلما عرفت عُود شجرتهم وخبيئة حقيقتهم أعرضتُ عنهم وحُبِّبَ إليّ الانزواء، وفي قلبي أشياء. وكنتُ أتضرع في حضرة قاضي الحاجات، ليزيدني علما في هذه الخصومات، فعُلِّمتُ رشدًا من الكريم الحكيم، وهُديتُ إلى الحق من الله العليم، وأخذتُ عن رب الكائنات وما أخذتُ عن المحدثات، ولا يكمل رجل في مقام العلم وصحة الاعتقادات إلا بعدما يلقى العلوم من لدن خالق السماوات، ولا يَعصمُ من الخطأ إلا الفضل الكبير من حضرة الكبرياء، ولا يبلغ أحدٌ إلى حقيقة الأمور ولو أفنى العمر فيها إلى الدهور، إلا بعد هبوب نسيم العرفان من الله الرحمن، وهو المعلِّم الأعظم والحكيم الأعلم، يُدخل من يشاء في رحمته، ويجعل من يشاء من العارفين. وكذلك مَنَّ الله عليّ ورزقني من العلوم النخب، وجعل لي نورًا يتبع الشياطين كالشهب، وأخرجني من ليلة حالكة الجلباب إلى نهار ما غشّاه قطعة من الرَباب، وطرَد كلّ مانع عن الباب، فأصبحت بفضله من المحفوظين. وأُعطيتُ مِن فهمٍ يخرق العادة، ومِن نور ينير الفطرة، ومِن أسرار تعجب الطالبين. وصبّغ الله علومي بلطائف التحقيق، وصفاها كصفاء الرحيق، وكل قضية قضى بها وجداني أرانيها الله في كتابه ليزيد اطميناني، ويتقوّى إيماني، فأحاطت عيني ظهر الآيات وبطنها وظعاينها وظعنها، وأُعطيتُ فراسة المحدّثين. وأعطاني ربي أنواع فهم جديد لكل زكي وسعيد، ليصلح المفاسد الجديدة ويهدي الطبائع السعيدة، ومن يهدي إلا هو، وهو أرحم الراحمين. نظر الزمان ووجد أهله قد أضاعوا الإيمان، واختاروا الكذب والبهتان، مَن ائتُمن منهم خان، ومن تكلم مان، فنفخ في روعي أسرارًا عظيمة، وكلمات قديمة، وجعلني من ورثاء النبيين، وقال إنك من المأمورين لتنذر قوما ما أُنذر آباؤهم ولتستـبين سبـيل المجرمين.      (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك