تأويل أحاديث العبد الصالح
  • ما الدليل على أن أحاديث العبد الصالح لم تكن سوى رؤيا منامية
  • ما تأويل وقائع تلك الرؤيا؟

__

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف 79)

التفسير:

لما رأى هذا العبد الصالح أن صاحبه لا يمتنع عن الاعتراض قال لـه: الآن لا بد لنا من الفراق. وكان هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب حين يرفضون دعوة الاتحاد على التوحيد ولا يمتنعون عن الإشراك بالله، سيقطع محمد رسول الله علاقته عنهم، لتبدأ المواجهة بينه وبينهم.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا   (الكهف 80)

التفسير:

تحتوي هذه الآية على التأويل الذي فسّر به العبد الصالح الأحداثَ السالفة الذكر.

واعلموا أن الرائي قد يعبّر في الرؤيا نفسِها الأحداثَ التي يراها فيها، وقد يكون ذلك التعبير واضحًا تمامًا، وقد ينكشف تأويلها جزئيًّا بحيث تحتاج إلى تعبير آخر في اليقظة كما هو الحال في هذا المقام. مما لا شك فيه أن التأويل الذي ذكره العبد الصالح للأحداث يكشف الحقيقة لحد ما، ولكنه ليس بتأويل واضح، بل لا تزال الأحداث بحاجة إلى تأويل آخر طبقًا لمبادئ عالم اليقظة.

قبل كل شيء قام العبد الصالح بتأويل حادث السفينة فقال أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا .

لقد سبق أن ذكرتُ تأويلَ جميع الأحداث ما عدا المساكينَ والمَلِكَ. فاعلم أن المراد من المساكين هنا أناس منكسرة متواضعة قلوبهم، لا تمنعهم أموالهم ولا منجزاتهم المادية عن مواساة الفقراء والعطف عليهم والتعايش معهم. أما الملِك فتأويله حب الدنيا، لأن الملوك الماديين مظهر من مظاهر الدنيا. وبما أن الآية تذكر هنا أن الملك كان يأخذ السفينة غصبًا فالمعنى أن الأغنياء الذين ليس لديهم حب الدين ولا ينفقون جزءًا كافيًا من أموالهم على الفقراء والأعمال الخيرية الأخرى، تستولي عليهم محبة الدنيا وتصير أموالهم تحت تصرف الشيطان. لذلك أوصى النبي أُمّتَه، بأمر الله تعالى، أن يخرقوا سفينتهم، أي أن ينفقوا أموالهم في سبيل الدين وخدمة الإنسانية، كيلا يطغى حبُّ الدنيا على قلوبهم، ولكيلا تصير أموالهم للدنيا الدنيّة، بدل أن تكون لله تعالى وحده.

وجدير بالذكر هنا أن الدنيا ظهرتْ لرسول الله في الإسراء على شكل عجوز، بينما ظهرت لموسى في إسرائه على صورة ملِك غاشم. وهذا، في رأيي، إشارة إلى أن هجوم الدنيا على الأمة المحمدية يكون ضعيفًا جدًّا حيث كانت صولتها على المسلمين بقوة امرأة عجوز، ولكن صولتها على أمة موسى تكون على أشدها حيث رآها على صورة ملِكٍ غاصب.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (الكهف 81)

التفسير:

لقد ذكرت سابقًا أن رؤيا الغلام في المنام تأويلها الحركة والقوّة وغلبة الجهل، والتفسير الذي بيّنه هذا العبد الصالح في هذا المقام يوافق هذا التعبير تمامًا؛ حيث قال عن قتل الغلام: كان أبواه مؤمنَين فخشِينا أن يُرهقهما طغيانًا وكفرًا.. أي قتلتُه مخافة أن يتسبب في طغيانهما وكفرهما.

ولقد بيّنتُ من قبل أن قتل الأولاد غير المنقادين الذين لم يرتكبوا جنايةً حرامٌ من دون شك. فلا ريب أن هذا المنظر أيضًا بحاجة إلى التعبير. وما دام الغلام يؤوَّل بالحركة والقوة وغلبة الجهل – وهي أشياء معنوية غير مادية – فلا بد أن يُعتبَر أبواه أيضًا من الأشياء المعنوية. ومعلوم أن منشأ الحركة والقوة والجهل هو الروح والجسد، حيث أودعَ اللهُ تعالى الروحَ والجسد – وهما بمنـزلة الزوجين- ميزة خاصة وهي أن اجتماعهما يولّد في الإنسان الحركةَ والقوة وكذلك الجهالة التي معناها العمل دون مبالاة بالعواقب. غير أن هذه الأشياء الثلاثة، التي لا بد للإنسان منها لفلاحه ونجاحه، يجب ضبطُها حتى لا تتعدى حدودها اللازمة، لأنها إذا أُُطلِق لها العنان دفعتْ بروح الإنسان وجسده إلى هوة الكفر والطغيان.

علمًا أن كسر حدّة الشيء يعبَّر بالقتل في اللغة العربية، يقال: قتَل الشرابَ: مزَجه بالماء، وقتَل الجوعَ والبردَ ونحو ذلك: كسَر شدّتَه. وقتَل غليلَه: سقاه فزالَ غليلُه بالريِّ (الأقرب). إذًا فلفظ القتل لا يُستعمل بمعنى القضاء على حياة الحيوان فحسب، بل يعني أيضًا كسرَ شدة العواطف والأحاسيس. فالمراد من التأويل الذي ذكره هذا العبد الصالح أن والدَي الحركةِ والقوة والجهالة – أي الجسدَ والروحَ – مؤمنان.. بمعنى أنهما قد أُودِعَا خاصيةَ الإيمانِ بأوامر الله تعالى، ومُنحا الكفاءة العالية للقيام بأحسن الأعمال وأفضلها؛ ولاستخدام هذه الكفاءات زوّدهما بخواص ثلاث: الحركة والقوة والجهالة.. بمعنى (أولاً) أن في روح الإنسان ودماغه نـزوعًا شديدًا للتحرك إلى الأمام أي للتقدم، و(ثانيًا) أن فيهما كفاءة عالية للقيام بأعظم الأعمال، و(ثالثًا) أنهما مزوَّدان بقوة الصمود أمام أشد الخطوب والأخطار. وباستخدام هذه القوى أو الخواص الثلاث المتولدة من تفاعل البدن والروح يمكن للإنسان أن يحقق الغاية من حياته. ولكنه إذا لم يكبح جماح هذه القوى وأطلق لها العِنان دفعت بروحه وجسده إلى هوة العصيان والكفر والطغيان فيهلك. فلم يشأ الله تعالى أن يترك الروح والجسد – هذين الشيئين النافعين جدًّا – ليقعا في الكفر والطغيان. فقتَل حدة هذه القوى الثلاث بواسطة الجلوة المحمدية، أي كبَح جماح هذه القوى بواسطة الشريعة التي أنزلها على محمد وجعَلها على حد الاعتدال حتى لا تعمل إلا في حدود الخير.

 لما رأى هذا العبد الصالح أن صاحبه لا يمتنع عن الاعتراض قال لـه: الآن لا بد لنا من الفراق. وكان هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب حين يرفضون دعوة الاتحاد على التوحيد ولا يمتنعون عن الإشراك بالله، سيقطع محمد رسول الله علاقته عنهم، لتبدأ المواجهة بينه وبينهم.

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (الكهف 82)

التفسير:

أي جاء الإسلام بهذه التشريعات والقيود كي يُخضع الإنسان رغباته كليةً لمقتضى الأخلاق الفاضلة بدلاً من أن تعمل رغباته من دون رقابة سليمة، وكأنه أريد بقتل الرغبات المطلَقة أن يُمنحا – أي روحُ الإنسان وجسده – ولدًا صالحا يطيع الإنسانَ، ويجعله موردًا لرحمة الله تعالى، بدل أن يتسبب في سقوطه في هوة الكفر والطغيان.

وقولـه تعالى خيرًا منه زكاةً وأقربَ رُحمًا فاعلم أن الزكاة تعني الطهارة والنماء، وأن الرُّحم هو الرِّقّة والتلطف (الأقرب). فالآية تعني أن الولد الجديد سيكون برًّا بهما ومطيعًا لهما وسببًا لرقيهما وطهارتهما. بمعنى أن القوى الإنسانيةَ غير المكبوحة إذا قُتلتْ بحُسام الشرع وكُبِّلتْ حُرّيتُها الهمجية بقيود الأحكام الإلهية، استجابت لأوامر الجسم والروح وساعدت على تطورهما وطهارتهما.

ولكن الأمة الموسوية – كما ذكرتُ من قبل – لم تستوعب هذا الأمر، بل انغمست في اللهو والملذات والخلاعة والمجون، ولأجل ذلك نشاهد في أعمالهم سرعةً، وفي قواهم حِدّةً، وفي سلوكهم تجاسرًا؛ ومن جانب آخر تزيدهم هذه القوى طغيانًا وكفرًا، وتنحرف بهم عن الخير والتقوى، ولا تميل طبائعهم إلى قبول ما يمليه الدينُ والعقل اللذان يمثِّلان الروحَ والجسدَ.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف 83)

شرح الكلمات:

كنـزٌ: الكنـزُ: المالُ المدفون في الأرض؛ وقيل: اسمٌ للمال إذا أُحْرِزَ في وِعاء؛ الذهبُ؛ الفضّةُ (الأقرب).

تأويل: التأويل: الظنُّ بالمراد؛ بيانُ أحدِ محتمَلاتِ اللفظِ؛ العاقبةُ. وأوّلَ الشيءَ: رجّعه. وأوَّلَ الكلامَ: دبَّره وقدَّره وفسَّره. وأوَّلَ الرؤيا: عبَّرها (الأقرب).

التفسير:

قال هذا العبد الصالح لموسى: بَقِيَ الآن أن أُجيبَ على أمر اختلفنا فيه. أنت لا تفهم لماذا أصلحتُ الجدار الذي كان يريد أن ينقض من دون أن آخذ عليه أجرًا؟ فاعلم أنني أصلحت الجدار لأنه كان يحفظ تحته كنـزًا لغلامَين يتيمَين في المدينة كان أبوهما صالحًا.

لقد ذكرتُ سابقًا أن الجدار معناه هنا الصالحون من أجداد اليهود والنصارى، والمراد منهم في هذا المقام موسى وعيسى وأبوهما سيدنا إبراهيم الذي قال الله تعالى عنه في القرآن المجيد: وإنه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: 123). أما الكنـز فهو الكنـز العلمي الروحاني الذي حفِظه تعليمُ موسى وعيسى، ولكن نفوذهما الروحاني الذي كان يحمي ذلك الكنـز بعد موتهما كان قد ضعُف ووهَن جراءَ تغافُلِ اليهود والنصارى عن الدين وابتعادهم عنه. فجاء محمد وأصلحَ ذلك الجدار من جديد، أي حفِظ من خلال شريعته الجديدة تلك الحقائقَ التي كانت توجد في شرع موسى وعيسى. ولا سيما تلك الأنباءَ الغيبية التي كانت تخبر عن ظهور الإسلام وبعثة محمد رسول الله قد حُفظت بين دفتي القرآن الكريم كي يمكن لليهود والنصارى – عندما يعودون إلى صوابهم – أن يهتدوا للإيمان بمحمد رسول الله ويصلحوا حالهم بالاطلاع على نبوءات صلحائهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك