27 خطاب اليوبيل


خطاب تاريخي ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مزرا مسرور أحمد أيد الله تعالى بنصره العزيز بمناسبة جلسة يوبيل الخلافة في 27/ من مايو/ أيار 2008 في قاعة المؤتمرات “أيكسل سنتر” بلندن

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعين* اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين (آمين)

 

لقد اجتمعنا اليوم هنا بفضل الله تعالى لنشكره على اكتمال مئة عام على إقامة الخلافة الإسلامية الراشدة الأحمدية، كما يشترك معنا في هذه المناسبة الجليلة المسلمون الأحمديون من جميع بلاد العالم عبر قناتنا الإسلامية الأحمدية MTA. فأولاً وقبل كل شيء أهنئكم وجميعَ الأحمديين في شتى بقاع العالم.

إننا نشاهد اليوم مشهد وحدة عالمية ببركة انضمامنا إلى جماعة المسيح والمهدي . وبسبب أمطار الأفضال الإلهية التي أنزلها الله تعالى على المسيح الموعود ولا يزال يُنْزلها علينا طبقًا لوعده معه ، نشاهد اليوم أيضا مناظر من تلك القرية عبر شاشة التلفاز، تلك القرية التي كانت صغيرة جدا وغير معروفة للعالم حينذاك، أما اليوم فإن الدنيا كلها لا تعرف قرية المسيح المحمدي هذه فحسب، بل تعرف أزقّتَها ومنارتها البيضاء التي شُيِّدتْ إعلانًا بأن المسيح المحمدي قد بُعث. كما نشاهد اليوم بهذه المناسبة العطرة، تحقُّقَ أحد الإنجازات العظيمة التي تمّتْ على يد ابنه العظيم الموعود الذي كان من أولي العزم، بحسب وعد الله تعالى لمسيحه المختار، حيث نرى مشاهد من مدينة “ربوة” التي أنشأها هذا الابن الموعود، والتي كانت في البداية قفرا غير ذي زرع ولا شجر، فتحولَت إلى بلدة عامرة مخضرَّة ذات أشجار وأزهار وأثمار.

إن هذه المشاهد التي تصل اليوم من الشرق إلى الغرب ثم تعود بحسب وعد الله تعالى مع صورة الخليفة وصوته، شاهدةً على دوام القدرة الثانية ونزول أفضال الله علينا، يراها الناس اليوم في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفي أوروبا وفي أمريكا وآسيا وأفريقيا.

لا جرم أن هذه الأحداث تُذكِّر كلَّ مسلم أحمدي أن الله تعالى قد وفى بوعوده ولا يزال يفي بها، وأنه تعالى قد بلّغ دعوة سيدنا المسيح الموعود إلى أقصى أنحاء الأرض، ولا يزال يبلّغها. لقد أرانا الله تعالى في الماضي مشاهد تأييده وقيام الخلافة وازدهار الجماعة ببركة الخلافة، ولا يزال يرينا تأييده حتى اليوم. إننا لنـزداد إيمانًا على إيمان برؤية المعاملة التي عاملَ بها الله الخلافةَ الإسلامية الأحمدية عبر التاريخ الممتد على مئة عام مضت.

ألا تدفعنا هذه الأمور كلها إلى أن نكون عباد الله تعالى الشاكرين، ونعبر عن شكرنا له؟ والحق أن خطابي هذا أيضا تعبير عن هذا الشكر. إن هذا اليوم الذي طلع بفضل الله تعالى علينا ليؤرخ فصلا ذهبيا جديدا في تاريخ الإسلام بواسطة جماعة الخادم المخلص لسيدنا رسول الله . لذا فإن هذا الاحتفال وغيره من الاحتفالات التي نعقدها اليوم في مختلف بلاد العالم تحديثًا وشكرا لهذه النعمة الإلهية العظيمة ليست أمرًا جائزا فحسب، بل هي في الواقع امتثال لأمر الله تعالى:

وأما بنعمةِ ربِّك فحَدِّثْ (الضحى: 12).

يقول سيدنا المسيح الموعود :

“إن التواضع والتذلل شرط ضروري للعبودية، ولكن لا بد من التحديث بنعمة الله تعالى أيضا لقوله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدِّث

ثم يقول : “وطبقًا لأمر الله تعالى الوارد في قوله: وأما بنعمة ربّك فحَدِّثْ لا أتردد في القول إن الله الرحيم قد أعطاني أنا العبد الضعيف -وبمحض فضله ورحمته- حظًا وافرًا من كل تلك الأمور، ولم يبعثني صفر اليدين، ولم يرسلني بدون آية، بل أعطاني كل هذه الآيات التي تظهر في هذه الأيام وستظهر في المستقبل أيضا، ولن يبرح الله تعالى يُظهرها إلى أن تقوم الحجة بشكل واضح.

ثم يقول :

“تذكروا أن من واجب الإنسان أن يستمر في الدعاء أولاً، وأنّ عليه أنْ يعمل بأمر الله تعالى: وأما بنعمةِ ربك فحدِّثْ ثانيا. إذًا فلا بد من التحديث بنِعَم الله تعالى، فهذا يزيد المرء حبًا لله تعالى وحماسًا لطاعته . وليس المراد من التحديث بالنعمة أن يذكرها الإنسان باللسان فقط، بل لا بد من أن يُرى أثرها على الجسم أيضا.”

إذن، فلا بدّ لكم من الحديث عن نعم الله التي أنعم بها علينا ولا يزال ينعم بها دون انقطاع – وقد وعد بدوامها – لتكونوا عبادا شاكرين له ، ولكي لا تنقص بركاتها إلى الأبد، بل يطلع عليكم ربكم كل يوم بشأن جديد. لقد قال المسيح الموعود أن التواضع والتذلل شرط أساسي للعبودية، لذا واجب كل أحمدي أن ينتبه جيدا إلى هذا الشرط المهم دائما، لأننا كلما ازددنا خضوعًا وتواضعًا لله تعالى، ليس في الظاهر فقط بل من أعماق القلوب وبالسير على دروب التقوى، ازددنا حظًا من هذه النعمة الإلهية.

إن هذا اليوم الذي نحتفل به على مرور مائة عام على قيام الخلافة، أو سنحتفل به على مدار السنة كلها، يجب أن يذكِّرنا أننا سنبذل كل ما في وسعنا للعمل بأوامر الله ونواهيه كما ينبغي، سالكين طرق التقوى والتواضع. ليس هدفنا اليوم التغنّي ببعض الأناشيد وإطلاق البالونات وترتيب بعض البرامج والاحتفالات وأكل الحلويات والأطعمة الشهية. كلا، لا تعني هذه المناسبة التي نحتفل بها اليوم هنا، أو في فروع أخرى للجماعة في مختلف البلاد أن نعبر عن فرحتنا وابتهاجنا فقط. صحيح أن هذا أيضا ضمن أهدافنا إذ هو تحديث بنعمة الله كما قلتُ، ولكن يجب أن يوجهنا ذلك إلى السير على سبل التقوى. أما إذا اقتصرت أهدافنا على الابتهاج وإحداث الضجيج والتسابُق في عقد الاحتفالات من الناحية الدنيوية، أصبح هذا العمل مكروهًا، كما يُكرَه أن يحضر أحدكم الاجتماعَ السنوي دون أن يحدث في نفسه أي تغيير حسن، أو كما يُكرَه العمل غير الصالح الذي لا يحظى برضا الله تعالى. إن يومنا هذا يومُ عقدِ عهدٍ جديدٍ، ويومُ تذكيرنا بتاريخنا. هذا اليوم يذكِّرنا أيضًا بذلك اليوم الذي أُصيبَ فيه أعضاء الجماعة بزلزال شديد، حيث وقع قبل مئة عامٍ ويومٍ حَدَثٌ جَلَلٌ هزّ الجماعة كلها، أعني يوم 26 أيار 1908م حيث انتقل فيه حبيب الله مسيحُ الله إلى رحمة ربه تعالى. كان الله تعالى قد أخبره بوقوع هذا الحدث قبل فترة من الزمن، وكان قد ذكّر جماعته بهذا الأمر في مناسبات عديدة، ونبَّه أبناءَ الجماعة إلى هذا الأمر في كتابه “الوصية” بشكل خاص وبوضوح تام، ونصحهم بالتقدم في مجال الإيمان والتقوى، وقال من أجل اطمئنان الجماعة: لا تظنوا أن يد تأييد الله ستُرفع عنكم بعد مغادرتي، بل إن وعود الله تعالى ستتحقق لكم من بعدي باستمرار.

باختصار إن من سنة الله أن مَن يأتي إلى هذه الدنيا فلا بدّ أن يغادرها يومًا لا محالة، وقد غادرها جميع الأنبياء أيضا بحسب هذه السنة الإلهية وورثوا جنة ربهم الأبدية التي كانوا يتحروْنها على الدوام. ونجد أن المسيح الموعود أيضا كان في كل لحظة من حياته يتمنى حياة الآخرة التي هي الحياة الأبدية، وعندما توفي لم يصدق كثير من أبناء الجماعة وفاته، رغم أن المسيح الموعود كان يعدُّ جماعته منذ فترة لتلقي هذا الحادث، إذ كان يتلقى من الله تعالى إلهامات متكررة بهذا الصدد جاء فيها: “الرحيل ثم الرحيل والوقت قريب”. فلما علموا أن حادث وفاته قد وقع حقًا، حدثت ضجة كالقيامة من البكاء والتضرع والابتهال هزت سقف “المسجد المبارك”وذلك في أثناء صلاة المغرب، كما يروي الراوون.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية بلغت تصرفات المعارضين الشائنة ذروتها. فقد جمعوا الأوباشَ حول مبنى “أحمدية بلدنغز” (بلاهور) حيث وُضع جثمانه الطاهر، وأخذوا يرفعون هتافات ويتغنون بأغانٍ منحطة تعبيرًا عن فرحهم وابتهاجهم على وفاة المسيح الموعود ، حتى بلغوا في السفاهة والوقاحة منتهاها.

يتوقع المرء هذه التصرفات الشائنة من قبل الأوباش، ولكن الغريب أن بعض أصحاب الجرائد ذوي السلوك المنحط والرؤية الضيقة أيضا أظهروا خبث باطنهم حيث أعربوا عن بهجتهم وسرورهم على وفاته ، زاعمين أن هذه الجماعة ستُدمَّر الآن وتُباد. وقد أخطأ هؤلاء المتفوهون بالهذيان فيما زعموا، إذ كان هذا تفكيرًا معوجًا وأمنية باطلة من ديدان الأرض هؤلاء. كان هذا خطأً من هؤلاء الذين لم يعلموا أن الله تعالى يغار للذين يبعثهم من عنده غيرة كبيرة. كانت عقولهم في غطاء وعيونهم في غشاوة، فلم يعرفوا أن هذا الشخص الذي قد غادر الدنيا اليوم قد كان مصداقًا لنبوءات سيده ومطاعه التي تنبأ بها قبل 14 قرنا، وأن هذا الشخص قد أنشأ من المؤمنين جماعة قد وعد الله تعالى بكلمات واضحة أن يبدِّل خوفها أمنًا، ويؤيدها بتأييده ونصره. لقد سبق أن بشّر الله تعالى المؤمنين الصادقين على لسان سيدنا رسول الله أن فرحة الأعداء على وفاة المسيح الموعود والمهدي المعهود ستكون فرحة مؤقتة وكاذبة، وأنه تعالى يستر خدامه المخلصين برداء رحمته وفضله.

لقد تنبأ النبي في حديثه الشريف عن أحداث ستقع بدءًا من زمنه إلى الزمن الأخير، فقد ورد عن حذيفة قال رسول الله : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكا جَبْريةً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، ثم سكت. (مسند أحمد، حديث النعمان بن بشير)

فهذه هي كلمات السكينة والطمأنينة التي بشر بها النبي المؤمنين الذين كان مقدَّرًا لهم أن ينضموا إلى جماعةِ العاشق الصادق للنبي . كان من المقدر أن تفور رحمة الله من أجل أتباع المسيح والمهدي . كانت الخلافة الدائمة على منهاج النبوة مقدَّرة لأتباع المسيح والمهدي . ومهما رفع الأعداء هتافات فارغة ومهما دقُّوا طبول الفرح والابتهاج فإن الخلافة سوف تهيئ لنا الأمن عند كل خوف. هذا قدر الله الذي لا يمكن ردُّه بحال من الأحوال. وهذا هو نصيب المؤمنين الصادقين، ولن تقدر حفنة من الأوباش ذوي الآفاق الضيقة والمعجبين بعلمهم المزعوم، على ردِّ هذا القدر المحتوم.

لقد زاد المسيح الموعود هذا الأمر وضوحا في كتابه “الوصية” لاطمئنان الجماعة، إذ كان يعرف أن الأعداء يزعمون دائما أن جماعات الأنبياء سوف تُدمَّر وتُباد على إثر وفاتهم. فيترقب المعاندون والمنافقون أن يروا افتراق تلك الجماعة، ولكن الله الذي يرسل أنبياءه إلى الدنيا ليُري قدرته عندئذ.. إن ذلك الإله حين بعث في الدنيا أفضل الرسل وخاتم الأنبياء سيدنا محمدا أعلن على لسانه أن شريعته دائمة وأبدية. لا شك أن جماعته أيضا ستتعرض لبعض المحن بعد وفاته، ولكن الحديث النبوي يبين أن زمن غلبة الإسلام سيبدأ ثانيةً ببعثة المسيح الموعود وسيمتد إلى يوم القيامة. ستكون هناك معارضة، ولكنها سوف تزول كغثاء السيل وتتلاشى كما يتلاشى الغبار في الهواء.

إذن، فقد طمأنَ المسيحُ الموعود الجماعةَ بناء على علم من عند الله تعالى ونصَحَهم ألا يقلقوا بسبب استهزاء الأعداء وسخريتهم. فيقول حضرته بهذا الصدد في كتابه “الوصية”:

 “إن من سنة الله التي ما زال يجلّّيها دون انقطاع منذ أن خلق الإنسان في الأرض أنه ينصر أنبياءه ورسله، ويكتب لهم الغلبة، كما يقول: كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أنا ورسلي . والمراد من الغلبة هو أن الرسل والأنبياء كما يريدون أن تتم حجة الله على الأرض بحيث لا يقدر على مقاومتها أحد، كذلك يُظهِر الله تعالى صدقهم بآيات قوية، ويزرع بأيديهم بذرةَ الحق الذي يريدون نشره في الدنيا، غير أنه تعالى لا يُتمّه على أيديهم، بل يتوفاهم في وقت يصحبه الخوفُ من الفشل في الظاهر، فيُفسح بذلك المجالَ للمعارضين ليَسخَروا ويستهزئوا ويطعنوا ويشنّعوا. وحينما يكونون قد أخرجوا كل ما في جعبتهم من سخرية واستهزاء يُظهر الله تعالى يدًا أخرى من قدرته، ويهيئ من الأسباب ما تكتمل به الأهداف التي كانت تبدو ناقصة إلى ذلك الحين.فالحاصل أنه تعالى يُري قسمين من قدرته: أوّلاًً، يُري يدَ قدرته على أيدي الأنبياء أنفسهم، وثانيًا، يُري يدَ قدرته بعد وفاة النبي حين تظهر المحن ويتقوى الأعداء ويظنون أن الأمر قد اختل الآن، ويوقنون أن هذه الجماعة على وشك أن تباد، حتى إن أعضاءها أنفسهم يقعون في الحيرة والتردد، وتنقصمُ ظهورهم، بل ويرتدّ العديد من الأشقياء، عندها يُظهر الله تعالى قدرتَه القوية ثانيةً ويُساند الجماعة المنهارة. فالذي يبقى صامدًا صابرًا حتى اللحظة الأخيرة يرى هذه المعجزة الإلهية، كما حصل في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ، حيث ظُنَّ أن وفاة الرسول قد سبقت أوانَها، وارتد كثير من جهّال الأعراب، وأصبح الصحابة من شدة الحزن كالمجانين، عندها أقام الله تعالى سيدنا أبا بكر الصديق ، وأظهر قدرته مرة أخرى، وحمى الإسلام من الانقراض الوشيك، وهكذا أنجزَ وعده الذي قال فيه: ولَيُمكِّننَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم وليُبدِّلنّهم مِن بعد خوفهم أمنًا .. أي أنه تعالى سوف يثبّت أقدامهم بعد الخوف.” (“الوصية”، الخزائن الروحانية المجلد 20 صفحة 304-305)

ثم قال :

 “فيا أحبائي، ما دام الله تعالى يُري قدرتَين – حسب سنته القديمة – ليحطّم بهما فرحتَين كاذبتين للأعداء.. فمن المستحيل أن يغيّر الله تعالى الآن سنّتَه الأزلية. فلا تحزنوا لما أخبرتُكم به ولا تكتئبوا، إذ لا بد لكم من أن تروا القدرة الثانية أيضًا، وإن مجيئها خير لكم، لأنها دائمة ولن تنقطع إلى يوم القيامة. وإن تلك القدرة الثانية لا يمكن أن تأتيكم ما لم أغادر أنا، ولكن عندما أرحل سوف يرسل الله لكم القدرةَ الثانية، التي سوف تبقى معكم إلى الأبد بحسب وعد الله المسجل في “البراهين الأحمدية”، وإن ذلك الوعد لا يتعلق بي بل يتعلق بكم أنتم، حيث قال الله تعالى: “إني جاعلُ هذه الجماعة الذين اتبعوك فوق غيرهم إلى يوم القيامة.”فمن الضروري أن يأتيكم يومُ فراقي ليأتي بعده ذلك اليومُ الذي هو يوم الوعد الدائم. إن إلـهنا إلـهٌ صادق الوعد، ووفِيٌّ وصَدوق، وسيُريكم كل ما وعدكم به. وبالرغم من أن هذه الأيام هي الأيام الأخيرة من الدنيا، وهناك كثير من البلايا والمصائب التي آن وقوعها، ولكن لا بد أن تظل الدنيا قائمة إلى أن تتحقق جميع تلك الأمور التي أنبأ الله تعالى بها. لقد ظهرتُ من عند الله تعالى كقدرة له ، فأنا قدرة الله المتجسِّدة، وسيأتي مِن بعدي آخرون سيكونون مَظاهِرَ قدرةِ الله الثانية…..” (المرجع السابق)

والآية التي اقتبسَ منها المسيح الموعود والتي تسمى آية الاستخلاف هي كالآتي:

وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:56)

هذه الآية تضم بشرى عظيمة للمؤمنين، وهي بمنـزلة بَلْسَمٍ لتسكين القلوب بحيث لا نستطيع أداء حق شكره تعالى مهما حاولنا. ومن ناحية أخرى إنها تبعث على القلق أيضا، إذ قد قال الله تعالى هنا إن وعدي هذا خاص بالمؤمنين ذوي الإيمان القوي، والذين يقيمون الصلوات، ويؤتون الزكاة، ويؤدون حقوق الله تعالى كلها أيضا. ويحتل الإيمان بالغيب مكان الصدارة في مراتب الإيمان التي بينها الله تعالى في مواضع مختلفة، إذ لا يسمى المرء عبدا حقيقيا لله إلا إذا أصبح إيمانه كاملا وصار حبه كله خاضعًا لرضا الله تعالى. وفي مثل هذه الحالة تبقى قلوب المؤمنين خاشعة له تعالى، ويسلكون سبل التقوى، ويعملون بأوامره بكل ما في الكلمة من معانٍ.

ثم يقول الله تعالى في وصفهم وعملوا الصالحات . إذن فلا تكفي الصلاة وحدها، ولا يكفي الصيام وحده، ولا تكفي الزكاة والحج فقط، بل لا بد من العمل بجميع الأعمال الصالحة التي ذكرها الله تعالى في القرآن المجيد. الحق أن الإيمان والأعمال الصالحة مترابطان، إذ لا فائدة من الأعمال بدون الإيمان، ولا يكتمل الإيمان بدون الأعمال الصالحة. فالله تعالى يريد -بربط المؤمنين بالخلافة- خَلْقَ مجتمع يؤدي حقوق الله وحقوق عباده أيضا. ويقول المسيح الموعود موضحًا العلاقة بين الإيمان والأعمال الصالحة:

“لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم العملَ الصالح مقرونا بالإيمان. والمراد من العمل الصالح هو ما لا تشوبه أدنى شائبة من الفساد. اعلموا أن هناك لصوصا يريدون أن يسرقوا عمل الإنسان دائما. وما أدراكم ما هم أولئك اللصوص؟! إن هؤلاء اللصوص هم: الرياء، والعُجب، وأنواع السيئات والذنوب التي تصدر من المرء، لأنها تبطل أعماله. وإنما العمل الصالح ما لا يخطر ببال صاحبه أبدًا ظلمٌ ولا عُجب ولا رياء ولا استكبار ولا هضم حقوق أحد.  فكما ينال الإنسان النجاةَ في الآخرة بالأعمال الصالحة، كذلك يحظى بالنجاة في هذه الدنيا أيضا بسبب الأعمال الصالحة نفسها. لو كان في البيت شخص واحد يعمل الصالحات فيُنقَذ أهله كلهم. واعلموا أن لا فائدة من الإيمان وحده بدون الأعمال الصالحة. ولا يُعتبر العمل صالحا إذا قمنا به حسب مشيئتنا ورغبتنا الشخصية، بل الأعمال الصالحة الحقيقية هي تلك التي لا تشوبها أدنى شائبة من الفساد، لأن الصلاح نقيض الفساد. فكما أن الطعام يكون طيبا إذا لم يكن نيئًا ولا مطبوخا أكثر من اللازم، ولم يكن من شيء رديء، بل من شيء يصبح جزءًا من الجسم على الفور، كذلك من الضروري ألا تشوب العمل الصالح شائبةٌ من الفساد قط.. أي يجب أن يكون منسجما مع أوامر الله تعالى وسنة النبي ، ولا يشوبه كسل ولا عُجب ولا رياء، ولا يكون صادرا عن رغبة شخصية أو أهواء نفسية. فلو تم العمل على هذا المنوال سُمِّي عملا صالحا وأصبح بمنـزلة الكبريت الأحمر.”

(أي يصبح شيئًا ذا قيمة كبيرة ونادر الوجود جدا، وهذا هو العمل الذي يجب أن يقوم به المؤمنون)

يقول الله تعالى إنه يَعِد الذين يُحدثون في أنفسهم هذا الانقلاب أنهم سينالون فيوض الخلافة دائما. إنهم يحمون الخلافة والخلافة تحميهم. وإن مشاهد هذه الفيوض والحماية لن تتيسر إلا إذا اعتصموا بدين الله بقوة.. أي أن هذا الوعد ليس للذين يريدون أن يعملوا بحسب رغباتهم الشخصية.

كم من محاولة تجري اليوم في الأمة المسلمة لإقامة الخلافة! ولكنها كلها ستبوء بالفشل ولن تنجح أبدا، ذلك لأن أصحابها يريدون أن يفرضوا دينًا ينسجم مع رغباتهم الشخصية بدلاً من دين ارتضاه الله تعالى. وبدلاً من أن يطيعوا خلافة أقامها الله تعالى يريدون أن يقيموا خلافة من صُنع البشر. إنهم مصرون على رفض قرار الله رغم شعورهم بخطئهم.

إن تاريخ الأحمدية وخاصة تاريخ خلافتها الممتد على مئة سنة قد وهب كل أحمدي إدراكًا كاملاً للبشرى التي أعطاها الله تعالى المؤمنين في آية الاستخلاف والتي وضّحها لنا المسيح الموعود ، حيث أصبح كل مسلم أحمدي مهبطًا للأمطار الغزيرة من أفضال الله تعالى بالفعل. لقد أدرك كل أحمدي اليوم، وليكن واضحا للأحمديين في المستقبل أيضا، أن هذه البشرى لا تتحقق إلا لأولئك الذين يحاولون أن يكونوا كاملين في إيمانهم، ويقوموا بأعمال صالحة. إن الأغيار حين يرون هذه المشاهد يعترفون علنا – ولو على سبيل الاضطرار – أنه لو أراد أحد أن يرى في هذا الزمن كيف تتحول حالة الخوف إلى الأمن فلينظر إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. فكم نحن الأحمديين سعداء إذ صِرنا أهلاً لهذه النعمة نتيجة انضمامنا إلى جماعة المسيح الموعود .

فهذه الآية التي تسمى آية الاستخلاف التي سمعناها فيما قرأته عليكم من قول المسيح الموعود .. تُنبِّهنا، كما قلت، إلى ضرورة الحفاظ على إيماننا وأعمالنا باهتمام كبير. وكما بينت لكم أن أعداء الجماعة هؤلاء أيضا يشعرون بأهمية الخلافة ويحاولون إقامتها، ولكنهم لن ينجحوا في ذلك أبدًا، لأنهم يفسرون الخلافة حسب أهوائهم ومصالحهم، فهم يريدون أن يفرضوا خلافتهم على الناس بدلاً من أن يَخضعوا للخلافة التي أقامها الله تعالى. فكيف يمكن أن يُبدَّل خوفُهم بأمن؟ وأَنَّى لهم أن ينجحوا في إقامة نظام الخلافة فيهم؟ إن الخلافة نعمة من الله، ومن خلالها يبدّل الله تعالى خوف المؤمنين أمنًا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينْزع من قلب الخليفة كل نوع من المخاوف الدنيوية، ويهب له القوة للتصدي للأهوال، ويُنـزل عليه السكينة بفضله في الساعات الحرجة، ليطمئن هو بدوره أفراد الجماعة. فأنَّى للتدابير المادية والجهود الدنيوية أن تحول دون قدرة الله ومشيئته؟

لقد قال الله تعالى من أجل اطمئناننا إنه لا بد أن يبدل خوفنا أمنًا، وإنه تعالى سيرشد الخليفة حتمًا، ولا بد أن يظل الخليفةُ مهتمًا بعبادة الله تعالى، ولن يتخذ تهديدات العالم كله ولا إغراءاته شريكًا مع الله تعالى، ولن يكفر بنعمة الله أبدًا. وإن هذه التأييدات الربانية تؤكد أنه لو صدر من الخليفة ضعف من هذا القبيل – لا قدَّر الله- لكونه بشرًا فإن الله بنفسه يوجِّهه ويصحّح قِبلته، ولسوف يأتي بالنتائج الطيبة حتى في هذه الحالة، لأنه تعالى هو الذي اختاره. غير أن من واجب أفراد الجماعة أن يولوا العبادة اهتماما كبيرًا ويأخذوا الحذر كله مِن أن تنشأ في قلوبهم شائبة من شوائب الشرك. فكُونوا عباد الله الشاكرين دائمًا على نعمته الجليلة هذه.

كنت أقول يجب على أفراد الجماعة أن يشكروا الله على هذه النعمة العظيمة، وبعد ذلك فلينفضوا كل قلق وخوف من قلوبهم، لأن الله تعالى سيكون أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم، فلن يستطيع أحد أن يضرهم بشيء. لقد رأينا هذه الحالة من الخوف تطرأ على جماعة الله التي أقامها بنفسه حين زُلزلَ كل فرد من الجماعة إثر وفاة المسيح الموعود ، ودقّ الأعداء الطبول فرحًا زاعمين أن هذه الجماعة على وشك التشتت والانهيار. أقدم لكم بعض هذيانهم وكلامهم الفارغ كمثال ليطِّلع جيلنا الجديد والمبايعون الجدد على أن الأعداء لم يتركوا أي وسيلة لنشر الشائعات لكي يبثّوا الفتنة في الجماعة. فمثلا أشاع أتباع “الشيخ جماعت علي” بين الناس أن المرزائيين (أي الأحمديين) يرتدون عن دينهم بكثرة، يعني أنهم يتركون الأحمدية ويدخلون في “إسلام هؤلاء الأعداء”. والحق أن الإسلام الحقيقي الآن هو الأحمدية نفسها. هكذا كانت مزاعمهم عند وفاته . ونسمع اليوم أيضا ادعاءات مماثلة من أعدائنا السذج، ولكن أمانيهم هذه لن تتحقق اليوم كما لم تتحقق في الماضي. إن أعداء الجماعة قد فقدوا صوابهم منبهرين برؤية ازدهار الجماعة، فإنهم يدَّعون من ناحية أنهم قد تمكنوا من القضاء على الأحمدية، ومن ناحية  أخرى يمارسون الضغوط على الحكومات الإسلامية قائلة: امنعوا “القاديانية” من التقدم وإلا سوف يُضل هؤلاء القاديانيون الأمة الإسلامية بأسرها.

هذه ادعاءاتهم ومزاعمهم اليوم.

لقد ذكرت آنفا: لقد لجأ هؤلاء عند وفاة المسيح الموعود إلى كل وسيلة منحطة لشفاء غليلهم. أقدم لكم مثلا بعض ما فعلوا. لقد قال المولوي ثناء الله الأمرتسري: ألقُوا جميع مؤلفات الميرزا (أي كتُبه ) لا في البحر، بل في التنور الملتهب، وليس ذلك فحسب، بل يجب ألا يَذكر اسمه أبدًا أيُّ مؤرخ من المسلمين أو غيرهم في تاريخ الإسلام أو تاريخ الهند.

أما الخواجة حسن نظامي – الذي كان في الظاهر رجلا درويشا منطويا على نفسه – فقد كتب مقترِحًا على الأحمديين أن يعلنوا براءتهم من دعوى الميرزا بكونه مسيحا موعود وإماما مهديا، وإلا ستتعرض الجماعة الأحمدية، بسبب غياب إنسان لبِقٍ فطِنٍ منظِّمٍ مثل الميرزا، لثورة من قبل المعارضين وتتشتت.

فترون أن السيد نظامي قد استخدم كلمات ليّنة ومؤدبة في حق الجماعة، لكنه أعاد الاقتراح نفسه بأن يخرج الأحمديون عن بيعة المسيح الموعود ويرفضوا دعواه.

هذا ما حدث في ذلك الوقت، حيث كان المطبوعون على الفساد والشر يهذون ويستخِفّون، لكن الشرفاء والنبلاء أيضا بدأوا يخرجون ما تُكِن صدروهم، لكنهم لما كانوا أناسًا ماديين فلم ينظروا إلا إلى الأوضاع الظاهرة ولم يلتفتوا إلى وعود الله تعالى، وما كان لهم أن ينظروا إليها، فلم يدركوا ما أعلنه مسيح الله إذ قال: عندما أرحل سوف يرسل الله لكم القدرةَ الثانية. وقد شهد العالم بأسره كيف وبأي عظمة تحققت وعود الله تعالى التي قطعها مع هذا المسيح المحمدي. لقد انقلبت عليهم ادعاءاتهم الجوفاء وتمنياتهم الدنية الهابطة، لأن المؤلفات التي كانوا يتمنون حرقها قد انتشرت في العالم كله بعد أن ترجمتْ إلى شتى اللغات، لتقدم ماء زلالا للعطاشى السعداء، وإن الإنسان العظيم الذي كانوا يريدون حذف اسمه من أوراق التاريخ تُرفع اليوم هتافات باسمه في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا فيقال: يعيش غلام احمد! يعيش غلام أحمد!. اليوم يصل اسم مرزا غلام أحمد القادياني وصورتُه وكتبه إلى كل بيت في كل بقعة من العالم عبر موجات الهواء. إن الذين زعموا أن الجماعة الإسلامية الأحمدية لن تقدر على مقاومة ثورة المعارضين، لو كانوا أحياءً لوجدوا أن الأحمدية قد انتشرت اليوم في جميع مدن العالم، وأن المعارضين يفرّون من مواجهة الأحمديين على مائدة الحوار، ناهيك عن عدم قدرتهم على التصدي لهم، أما السباب والشتائم فيمكن أن تسمعوا منهم قدر ما شئتم. فإذا كانت لديهم شجاعة فليقدم كل بلد إسلامي فرصة للأحمديين في الإذاعة والتلفزة القومية لشرح موقفهم بسهولة، ويجب على الحكومات الإسلامية أداء مسؤولياتها لتوفير الحماية للأحمديين وفقًا لمقتضى العدل والإنصاف، إذ لا إكراه في الدين، فكل عاقل سيميز الخبيث من الطيب. فمِمَّ يخافون إذن؟ لا أحد يستطيع أن يجعل أحدًا أحمديا عنوة وقسرًا.

فهؤلاء المعارضون يحاولون إغلاق قناتنا الفضائية مطالبين الحكومات بذلك، لكن الله تعالى يخلق من عنده أسبابًا جديدة، فإذا نجحوا في إغلاقها في مكان، أتاح الله لها في أماكن أخرى فرصًا أكبر. أنَّى لهجماتهم أن تضر الجماعة شيئًا؟ فإن قناتنا الفضائيةMTA  وحدها قد بثت فيهم الرعب. كل هذه شواهد على تحقُّقِ وعود الله لنا. فإذا كان أحد يريد أن يحارب الله فليحاربه. لقد رأى هؤلاء مصيرهم على مرّ التاريخ، ولْيشاهدوه اليوم أيضا.

باختصار، قد استنزف الأعداء جهودهم إثر وفاة المسيح الموعود ولجأوا إلى كلِّ حيلة ومكيدة ليقتلعوا شجرة الأحمدية، لكن الله  تعالى كان قد أوحى إلى حضرته سلفًا: “غرستُ لك بيدي رحمتي وقدرتي”، لذا فقد أخطأ هؤلاء في زعمهم أن غراس الأحمدية لا يزال في بداية نمائه، وسيذبل بعد وفاته . كلا، بل إن الله تعالى قال: إني أنا قد غرست برحمتي وقدرتي هذه الشجرةَ، وقُدّر لها أن تنمو وتزدهر وتتأصل جذورها في الأرض وتعانق فروعها السماء. والقدرة الثانية التي بشر بها سيدنا المسيح الموعود بناءً على وحي الله تعالى معلنًا أنها دائمة كانت في الواقع نبوءة بأن هذه الشجرة التي غرسها الله تعالى بيده ستنمو وتزدهر وتثمر. ونرى أن هذه الشجرة التي غرسها الله تعالى بيده والتي كانت ستؤوي الأرواح السعيدة من كافة بلدان العالم تحت ظلها المريح، تظلهم الآن بظلها فعلاً. فأَنّى لهؤلاء الأقزام أن يتمكنوا من زعزعتها ؟

لقد قال الله تعالى للمسيح الموعود :

“إني معك ومع أحبائك”،

وقد رأينا هذا الوحي الإلهي يتحقق كل يوم بشأن عظيم باستمرار. لقد تحقق هذا الوحي أول مرة إثر وفاته ، حين جمع الله تعالى أفراد الجماعة كلهم على يد سيدنا نور الدين كخليفة أول لحضرته سكينةً لهم. كان الأعداء يزعمون في ذلك الوقت أن هذا الشيخ الهِرم البالغ من العمر ثمانين حولاً سيفشل في قيادة هذا الجماعة. فقد نشرت جريدة “كَرْزَنْ جَزَتْ”: “ماذا بقي لدى المرزائيين الآن؟ قد قُطع رأسهم، والذي أصبح إمامًا لهم الآن لن يستطيع فعل شيء إلا أن يتلو عليهم القرآن الكريم في أحد المساجد.” (تاريخ الجماعة الأحمدية المجلد 3 صفحة 221)

لكن الرجل الذي ظنوا أنه لا يقدر على شيء قد أنجز حتمًا تلك المهمة التي لم تكن عندهم ذات أهمية.. أعني بيان معارف القرآن الكريم وحقائقه. والحق أنها هي المهمة التي من أجلها بعث الله تعالى نبينا الكريم استجابةً لدعوة إبراهيم ، وهي المهمة التي من أجلها بعث الله تعالى المسيحَ الموعود في الآخرين، وهي المهمة التي من أجلها أقام الله تعالى نظام الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية. لكن أنى للعيون المادية أن تدرك قيمة هذا الإنجاز الجليل؟

المهم، أن الخليفة الأول قال معلقًا على تصريح هذه الجريدة: وفَّقني الله تعالى لأن أقرأ عليكم القرآن الكريم.

لقد زعم الأعداء وبعض المنافقين من الجماعة أن الخليفة الأول مُسنّ ضعيف وسيفقد السيطرة على الجماعة. بل كان العدو يحسب أن هذه الجماعة ستتشتت ويُقضى عليها بسبب الضعف الإداري، أما بعض الأحمديين المنافقين الذين كانوا يحسبون أنفسَهم دعائم الجماعة فزعموا أن مؤسسة “الأنجمن” هي خليفة المسيح في الواقع، ويجب أن يُترَك الأمر كله إليهم. فتصدى سيدنا الخليفة الأول لهاتين الفتنتين أو الهجمتين بصرامة لا توهب إلا لمن يختاره الله تعالى للخلافة فعلاً. فقد قال في نهاية الخطاب الذي ألقاه عقب انتخابه خليفة: والآن، مهما كانت ميولكم وطبائعكم، فعليكم أن تطيعوا جميع أوامري. فإن كان هذا الأمر مقبولا لديكم، فإني أتحمل هذه المسئولية طوعا أو كرها.

إن الشروط العشرة للبيعة قائمة على حالها، وإنني أضيف إليها، بوجه خاص، تعليم القرآن الكريم وتقوية نظام الزكاة وتوفير الواعظين والأمور الأخرى التي سوف يلقيها الله تعالى في قلبي بين حين وآخر. ثم لا بد أن يكون تعليم الدين والتعليم في المدرسة الدينية حسب رغبتي وموافقتي. وأتحمل هذه المسئولية لوجه الله وحده الذي قال:

وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ،

واذكروا دائما أن الخير كله في الوحدة، لأن الجماعة التي لا إمام لها ميّتة.” (حياة نور ص 334- 335)

لم تتحقق أمنية الأعداء في أن يروا الجماعة تتشرذم وما كانت لتتحقق، لكن الأخطار الداخلية من قِبل بعض المنافقين رفعت رأسها فعلاً. وكلما ظهرت هذه الفتنة تصدى لها الخليفة الأول لها بمنتهى الحكمة والصرامة. ففي إحدى المرات ألقى خطابا جلاليا في المسجد المبارك بقاديان قال فيه بعد سماعه أقوال المعارضين: “لقد آذيتموني بتصرفكم إيذاء شديدًا لدرجة أنني لا أقف في ذلك الجزء من المسجد الذي أنشأتموه أنتم.”

لقد تم التوسيع في بناء المسجد المبارك، أما البناء القديم فكان قد أُنشئ في زمن المسيح الموعود ، فقام حضرته في ذلك الجزء، أما الجزء الآخر فقد أنشئ فيما بعد بتبرعات أفراد الجماعة.

فقال حضرته:

“لقد آذيتموني بتصرفكم إيذاء شديدًا لدرجة أنني لم أقف في ذلك الجزء من المسجد الذي أنشأتموه أنتم، بل وقفت في مسجد حبيبي الميرزا.”

 ثم قال:

“إن قراري هو أن القوم والأنجمن كليهما يجب أن يطيعوا الخليفة، وهما خادمان له؛ وإن الأنجمن مستشار له ووجوده ضروري للخليفة.”

ثم قال:

“مَن كتب أن مهمة الخليفة تقتصر على أن يأخذ البيعة، وأنَّ السلطة النهائية  للأنجمن، عليه أن يتوب، لأن الله تعالى أخبرني أنه إذا تخلى عني واحد وارتدّ فإنه تعالى سوف ينعم عليّ بجماعة من الناس بدلا منه.”

ثم قال:

“يقال لي إن مهمة الخليفة تقتصر على أن يؤم الصلاة أو الجنازة أو يعقد القِران أو أن يأخذ البيعة! مع أن هذا الأمر يمكن أن يقوم به أي شيخ بسيط، ولا حاجة للخليفة لهذا الغرض. وإنني أرى أن مثل هذه البيعة تساوي شيئا، بل البيعة الحقة هي تلك التي يطيع فيها المبايع طاعة كاملة ولا يحيد عن أمر من أوامر الخليفة.”

وكان خطابه جلاليا بحيث يقول شهود عيان: حتى إن الذين حضروا إلى قاديان وكانوا متأثرين بأقوال مناهضي الخلافة بدأوا يتقلبون ويتلوّون من شدة الكرب على أرض المسجد كما يتقلب السمك خارج الماء.

هذا كان أول تجلٍّ إلهي بدّل الله به خوف الجماعة أمنًا، وقد جربه أفراد الجماعة، كما تجلى في شخص خليفة ذلك الوقت أيضًا، حيث أعلن الخليفة الأول عندها دونما خوف: إذا كان أحد يريد الارتداد فليرتدّ، فسوف يهب الله لي جماعةً عوضًا عنه، وإذا تركني رجل واحد فسأجد جماعة من عند الله.

وقد أصلح هذا الإعلان المؤمنين المخلصين وزادهم إيمانا وإخلاصا من ناحية، وناحية أخرى جعل حزبَ المنافقين يختفي لمدة، وظلت الجماعة تقطع أشواطًا واسعة في التقدم والازدهار.

ثم لحق الخليفة الأول برفيقه الأعلى في 13 مارس/ آذار عام 1914م وفق سنة الله المذكورة في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن 27)، فأصيبت الجماعة بهزة عنيفة مرة أخرى، حيث إن كبار أعضاء “مؤسسة الأنجمن” الذين كانوا يعتبرون أنفسهم عمائد الجماعة وكانوا صامتين نتيجة هيبة الخليفة الأول، رفعوا رؤوسهم مرة أخرى وبدأوا يقولون: يجب أن تُخوَّل جميع الصلاحيات إلى “الأنجمن” لتكون لها السلطة التامة بدلاً من الخليفة. وبينما كان المخلصون يكادون يموتون حزنًا وأسى على وفاة الخليفة الأول وكانوا منهمكين في الدعاء من أجل استمرار “القدرة الثانية”، كان هؤلاء “العمائد” المغرورون بعلمهم منشغلين في نسج المكائد والمؤامرات.

لقد حاول هؤلاء إقناع حضرة مرزا محمود أحمد بأن “الأنجمن” هي الخليفة الحقيقي للمسيح الموعود ، وأن لا داعي لانتخاب أي خليفة آخر، لكنه رد عليهم بقوله: لا بد أن يكون للجماعة خليفةٌ إذ لا يمكن الاتكال على الأنجمن وحدها، وهذا ما قاله المسيح الموعود . ثم أكد لهم أنه هو وأفراد عائلته سوف يبايعون بصدق القلب أيَّ شخص ينتخبونه خليفةً، فعليهم أن لا يرتعبوا ولا يخافوا منه، فهو لا يطمح أن يكون خليفةً أبدًا. لكن هؤلاء الذين كانوا يحسبون أنفسهم علماءَ أفاضلَ أصروا على رأيهم بعناد بأن تكون الأنجمن هي الخليفة، وألا حاجة لأي خليفة آخر. وأخيرًا حين رأى أفراد الجماعة أن هؤلاء المناهضين للخلافة لا يتركون عنادهم اجتمع أغلبيتهم في مسجد “نور” وتم انتخاب الخليفة الثاني في 14 مارس / آذار 1914 حيث أخذت الأصوات ترتفع من حشد ضم ألفي إنسان قائلة: حضرةَ الميان، حضرةَ الميان، أي أننا نريد حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد خليفة. وبدأ الناس يتقافزون من على رؤوس الآخرين ليبايعوه. ويقول الذين رأوا هذا المشهد العظيم بأم أعينهم: كان يبدو كأن الملائكة يجرّون الناس إلى هذا الانتخاب الذي كان من عند الله تعالى. وبعد رؤية هذا المشهد اختفى من هناك مناهضو الخلافة الذين كانوا عمائد في الأنجمن وكانت أموالها في حوزتهم. وهكذا مكّن الله تعالى للجماعة دينها كما وعد وبدل خوفهم أمنًا مرة أخرى من خلال الخلافة الأحمدية.

وفي العهد الميمون الممتد على 52 عاما لخلافة المصلح الموعود العظيم الذي كان من أولى العزم والابن الموعود للمسيح الموعود ، قد رأى أفراد الجماعة من الرقي والتقدم ما لا يتأتى بدون تأييد رباني خاص. ليت هؤلاء القوم الذين أفرغوا خزينة الجماعة والذين خرجوا من قاديان مدّعين أن النصارى سيسيطرون عليها.. كانوا على قيد الحياة ليروا أن ذلك الابن الموعود العظيم قد تمكنَ من جمع آلاف النصارى تحت راية المسيح المحمدي، بدلاً من أن تقع قاديان في أيدي النصارى.

ثم حين ظهرت فتنة “الأحراريين” الذين ادّعوا أنهم سيدمِّرون قاديان ويدكّونها دكًّا، أعلن سيدنا المصلح الموعود مشروع “التحريك الجديد”، ونشر شبكة المراكز الإسلامية الأحمدية في العالم كله. وإن تفسيره للقرآن الكريم وكتبه القيمة الأخرى لتشهدُ على أنه كان بالفعل مفعمًا بعلوم ظاهرة وباطنة انتشرت بواسطته في العالم.

ثم حين اضطر للهجرة من قاديان قام بتوجيه أفراد الجماعة بحيث تمكَّن الأحمديون من الهجرة من الهند إلى باكستان بسلام ورغم الظروف الصعبة جدا. وترك في قاديان لحمايتها أناسا متحلين بروح التضحية بمن فيهم أبناؤه أيضا، فقاموا بحماية قاديان والدفاع عنها بكل غال ورخيص.

ثم بعد الهجرة إلى باكستان شعر بضرورة مركز جديد للجماعة فحوَّل بفراسته وتوجيهه واديا غيرَ ذي زرع إلى مدينة خضراء نرى الآن بعض مشاهدها عبر الشاشة. فذلك الفتى البالغ من العمر 25 عاما فقط، والذي حاربه كبار القوم في زعمهم -حين نال تأييدًا من الله تعالى واختاره الله خليفةً فصار مظهرا للقدرة الثانية حسب وعد الله تعالى- سجّل كقائد ناجح انتصارا تلو انتصار، وظل، بتأييد الله ونصرته، يبدّل خوف المؤمنين به وخوف خدام المسيح المحمدي أمنًا.

وأخيرا حين انتقل حضرته من هذا العالم الفاني إلى رحمة الله حسب قدره في نوفمبر / تشرين الثاني عام 1965، تجلى الله علينا بالمظهر الثالث للقدرة الثانية. لقد امتد عهد الخليفة الثاني إلى 52 عاما، وكانت مدة طويلة تمتعت فيها عدة أجيال بفيوض الخلافة، وقد أصبح لكل أحمدي علاقة خاصة بحضرته ، وكان يُخشى أن لا تتحمل الجماعة صدمة وفاته، لكن إذا كان ثمةَ وعْدٌ من الله فهو يبدّل خوفَ المؤمنين أمنًا في لمح البصر. وقد رأينا المشهد نفسه في عهد الخليفة الثالث، حيث أحرز التقدم والرقي في كل مجال، وفتَح المستشفيات والمدارس في أفريقيا، وقطع شوطًا كبيرًا في مجال الدعوة والتبليغ.

ثم إن اضطرابات عام 1974لم تكن قاسية على الجماعة في باكستان فحسب، بل كان جميع الأحمديين في مختلف بلدان العالم قلقين جدًا على خليفة المسيح في باكستان. لكن الجماعة تصدّت لكل هذه الأخطار والأهوال، وخرجت منها سالمة وراء جُنّة الخلافة، ومضت قدمًا في ازدهارها.

ثم طلع علينا عام 1982 وودّعنا الخليفة الثالث -رحمه الله – لكن الله تعالى ساند جماعته في هذا الوقت العصيب وتم انتخاب الخليفة الرابع رحمه الله تعالى. فتقدمت الجماعة في عهده في آفاق جديدة حتى فقد العدو صوابَه وطار لبُّه برؤية ازدهار الجماعة، فحاول القضاء على الخلافة وبالتالي القضاء على الجماعة في زعمهم، لكن الله تعالى خيب الأعداء في مكائدهم وجاء بحضرة الخليفة الرابع إلى هنا بسلام؛ وفاءً بوعده وتضامنًا مع أحباء المسيح الموعود ، وأهلكَ عدوّه الذي أراد القضاء على الخلافة حتى لم تسلم ذرة من جثته.

وبعد هجرة الخليفة الرابع إلى هنا بدأ عهد جديد لدعوة الإسلام، وتأسست فضائيتنا MTA، فبلغت دعوة المسيح الموعود إلى أرجاء المعمورة بشكل رائع، وتحقّق وعْد آخر من وعود ربنا مع المسيح الموعود بشوكة وجلال. فكان العدو يحاول القضاء على الخلافة ليجعلها كالعضو المشلول، لكن الله تعالى خطّط لإيصال دعوته إلى بيوت الناس بحيث لا يمكن أن تعيقها أية عوائق جغرافية. ولو أردتُ ذكر تقدم الجماعة بالتفصيل فلن ينتهي هذا الذكر في ساعات عديدة، وسأتناول هذا البيان في خطب الجلسة السنوية.

المهم أن هذا العهد الذهبي للخليفة الرابع – رحمه الله – كشف للجماعة غايات جديدة للتقدم والرقي، وانتهى في أبريل / نيسان 2003 حسب مشيئة الله. وعند وفاة سيدنا الخليفة الرابع رحمه الله خرَّت الجماعة ساجدةً على أعتاب الله تعالى من شدة الخوف، لأن هذا ما أُمر به المؤمنون وهذا ما يتميزون به، فإنهم كلما تعرضوا لمحنة خضعوا لله تعالى وأنابوا إليه.

باختصار، إن وعد الله تعالى بالتأييد وعد دائم، وهذا ما طمأننا الله به مسبقا. لقد بدل الله تعالى خوف الجماعة أمنًا بعد وفاة سيدنا المسيح الموعود ، ليتحقق قولُه : “إن هذا الوعد لا يخصني أنا بل يخصكم أنتم”، وأيضا قولُه : “إن الله يُري قدرتين”، كذلك قد هيّأ الله تعالى للجماعة الأمنَ مرةً أخرى عند وفاة الخليفة الرابع رحمه الله تحقيقا لقول المسيح الموعود : “إن القدرة الثانية دائمة.” وقد رأى العالم بأسره هذا المشهد مرة أخرى.

إذا كانت الخلافة الراشدة في العهد الأول للإسلام قد اقتصرت على أربعة خلفاء، فكان ذلك بحسب نبوءة رسول الله كما ورد في الحديث الشريف الذي ذكرته من قبل، أما بعد بعثة المسيح الموعود فقد كان من المقدر أن يفتح تاريخ الإسلام أبوابا جديدة في جميع المجالات، وعليه فإن استمرار الخلافة وانتخاب الخليفة الخامس في هذا العصر هو باب جديد في تاريخ الإسلام بحسب وعود الله تعالى. وإن هذا الباب يمثّل صفعة قاسية في وجه العدو، وضربة قاضية على فرحته. فأخذ ينظر إلى رقي الجماعة اليوم بحسد أشد، لأن الأعداء يرون بكل حسرة أن الجماعة الإسلامية الأحمدية لا تزال تمضي قدمًا في ظل الخلافة رغم معارضتهم الشديدة.

(يقول حضرته: يبدو أن وصول البث إلى ربوة يتأخر أكثر منه إلى قاديان، فقيل له: نعم. فقال: إذًا يجب أن أتمهل قليلا)

أقول: لأن المخالفين يرون بكل حسرة أن الجماعة الإسلامية الأحمدية تمضي قدما في ظل الخلافة رغم الصعاب والعراقيل، ولا يزال الله يحقّق فيها وَعْدَه ليستخلفنهم مرة بعد أخرى، ويمكّن لها دينها في كل مرة، وتتقوى جذورها وتترسخ أصولها أكثر فأكثر، ولا يزال الله تعالى يبدّل خوف المؤمنين أمنًا حيث يحميهم بجُنّة الخلافة، ولا يزال الأحمدي – رغم معارضة العدو – يوصل دعوة المسيح الموعود إلى أكناف العالم نتيجة تمسكه بحبل الله هذا، ويجمع الضالين المنحرفين عن جادة الصواب تحت راية النبي ، ليعرفوا ربهم الذي خلقهم. إن هؤلاء المعارضين يعترفون بأنفسهم أن اتحاد الأمة الإسلامية مستحيل بدون الخلافة؛ وأن لا رقي للإسلام ولا وحدة للمسلمين بدون الخلافة، ولكن قد أُغشيتْ أبصارهم، فيرفضون مَن بعثه الله تعالى كخاتَمِ الخلفاء في هذا العصر وأقام الخلافة بعده.

أذكر هنا بعض الأمثلة التي تبين حسرتهم بصدد الخلافة. يقول المولوي عبد الرحمن وهو مدير الجامعة الأشرفية بكراتشي:

فيما يتعلق بنظام الخلافة على منهاج النبوة فليس هناك نظام أفضل منه وأروع، لأن الله تعالى قال:

إِنَّا الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِين  أنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (التوبة: 111)،

ولكن المؤسف جدًّا أن النـزاعات الداخلية بين المسلمين هي على أشدها اليوم، فمن نختاره خليفةً؟ فلو اخترناه من مكة المكرمة فسيكون البريلويون أول المنازعين له. ولقد شاورت زملائي أيضا بخصوص الخلافة ووصلنا إلى نتيجة أن من المستحيل – على ما يبدو – إقامة نظام الخلافة في باكستان.

كذلك كتب همايون جوهر – أحد المفكرين في باكستان – في مقال له بعنوان: “سفَر كا آغاز هوتا هى” (أي: بداية الرحلة) في ديسمبر/ كانون الأول 2005م:  نجد أنفسنا اليوم في هوة سحيقة من الأفكار الفاسدة والتقاليد الجوفاء والجهالة. والعيوب الاجتماعية تحيط بنا، ونعاني بشدةٍ من انعدام العدل والإنصاف. وهذا التلوث الأخلاقي والديني في ازدياد مستمر مع مرور الأيام، لذلك فما أحوجنا اليومَ إلى مَن يكون بمنـزلة نسمة هواء عليل حتى يصلح أحوال الأمة، الأمر الذي يتطلب عزيمة قوية وحماسا عاليا نابعا من صلابة الموقف وقوة الإيمان. ولا يتأتى ذلك إلا بواسطة نظام الخلافة في المسلمين”.

هذه هي حسراتهم، إذ يشعرون بضرورة الخلافة ولكنهم لا يستطيعون إقامتها.

لقد نقلت فضائيةُ MTA للعالم كله مشاهدَ انتخاب الخليفة الخامس وأخذِ البيعة. ولقد شاهدتِ الدنيا كلها كيف تحققت لنا هذه الأمور التي يذكرون متحسرين، فقد حققت جماعتنا الوحدة باجتماعها على يد واحدة حتى إن بعضهم اعترف صراحة قائلا: يبدو من خلال الوقائع أن الله معكم. ولكنهم يزدادون حسدا برؤية هذا بدلاً من أن يصلحوا أنفسهم. يعقد المشايخ في باكستان اليوم اجتماعات ضد الجماعة لا لشيء إلا أنهم لا يتحملون وحدة الجماعة الإسلامية الأحمدية وازدهارها. إن هذه الحسرة والحسد قد صارت نصيب هؤلاء، بينما أصبحت رياح نصر الله وتأييده لجماعتنا تهبّ بقوة الآن. إن أماني هؤلاء القوم ستخيب وإن محاولاتهم ستتبخر بإذن الله تعالى. فيا معارضي الأحمدية ها إني أقولها لكم مدوية: إذا كنتم مخلصين في إقامة الخلافة فتعالوا خدامًا طائعين للمسيح المحمدي لتكونوا جزءا من هذا النظام الأبدي الذي أقامه الله تعالى، وإلا فسوف تموتون ساعين لإقامة الخلافة ولن تستطيعوا ذلك أبدا. وإذا انتهجتْ ذرياتكم منهجكم فلن تستطيع هي الأخرى إقامتها إلى يوم القيامة مهما حاولت لذلك.

اتقوا الله ولا تحاربوه تعالى، بل اسعوا جاهدين لإنقاذ أنفسكم وذراريكم. أما نحن الأحمديين فينبغي أن لا نفرح على ما ذكرته عن معارضينا ولا نكتفي بالشفقة عليهم، بل يجب أن نأخذ الحذر من العدو الذي يحترق حسدا وكمدًا في هذه الأيام. إنه سيحاول إلحاق الضرر بالأحمديين، وحيثما يجدهم ضِعافا يهاجمهم. لذا فعلى الأحمديين المتمسكين بحبل الخلافة اليوم أن يدعوا لإخوانهم الأحمديين ليحفظهم الله تعالى من شر هؤلاء الحاسدين والأشرار، إضافةً إلى دعواتهم لتقوية الخلافة وترسيخ دعائمها.

اعلموا أن هذا العهد، عهد الخليفة الخامس، الذي ندخل فيه في القرن الجديد للخلافة لهو عهدُ ازدهار الجماعة الإسلامية الأحمدية وانتصاراتها، وإنني أؤكد لكم أنه قد فُتحتْ علينا في هذا العهد أبواب جديدة للتأييد الإلهي ولا تزال تفتح؛ بحيث إن كل يوم جديد يقرّبنا نحو غلبة الجماعة وانتصارها بأسرع من سابقه. أما أنا فكلما نظرتُ في نفسي خجلتُ، إذ إنني عبد بسيط، لا يصلح لشيء، خطّاء. إني لا أعرف الحكمة الإلهية الكامنة وراء اختيار الله تعالى إياي لهذا المنصب، ولكنني أقول لكم على وجه البصيرة إن الله تعالى سيبارك هذا العهد بركات كثيرة وسيكتب لنا الرقي بعد الرقي، ولن يقدر أحد أن يحول دون ازدهار الجماعة في هذا العهد، ولن يتوقف هذا الرقي والازدهار في المستقبل، وستبقى الخلافة مستمرة، وستمضي الجماعة الإسلامية الأحمدية قدما بإذن الله تعالى. لقد تحدثت عن أفضال الله النازلة على الجماعة في غضون خمس سنوات ماضية في خطابات الجلسات السنوية الماضية وسأتحدث عنها هذه السنة أيضا؛ فإن الرقي المنوط بالخلافة الأحمدية – الذي ذكره المسيح الموعود في كتيب الوصية أيضا – لهو رقي لا نهاية له، فكل من يتمسك بالخلافة ويزداد إيمانا وعملا صالحا سوف يريه الله تعالى تلك الإنعامات التي ينـزلها على كل فرد من الجماعة ببركة تمسكه بالخلافة. ولسوف يهب الله تعالى خلفاءَ الأحمدية أولئك الخدام الأوفياء الذين سيزدادون إخلاصا وتفانيا، ويضحّون بنفسهم ونفيسهم لاستمرار الخلافة وترسيخ دعائمها، والذين قد شحن الله قلوبهم حبًّا للخلافة ولا يزال يشحنها وسيظل يشحنها في المستقبل أيضا. وإنني كل يوم أرى مشاهد ذلك من كل بلد من بلاد العالم. لقد شاهدتم خلال جولتي السابقة مشاهد حبّ أهل أفريقيا للخلافة. لقد رأيتم كم كانوا مفعمين بالحب الصادق. أما أنا فقد طمأَنَني الله تعالى قبل أمد طويل بأنه تعالى سوف يُعدّ مِن عنده أولئك الأوفياء والمخلصين في عهدهم. فامضوا قدمًا حتى يكون كل واحد منكم – من خلال فحص إيمانه وأعماله – من الذين سيجعلهم الله بنفسه سيوفًا مسلولة للدفاع عن الخلافة.

لقد كتب إلي أحد الإخوة قبل أيام أننا نفرح لأن الخلافة قد أكملتْ مئة عام على قيامها، ولكن نقلق أيضا لأننا قد ابتعدنا عن عصر المسيح الموعود بمئة سنة، ونخاف أن يؤدي ذلك إلى تطرق الضعف الديني فينا. لا شك أن قلق هذا الأخ في محله، ولكننا إذا وضعنا وعود الله تعالى وحديث النبي وأقوال المسيح الموعود في الحسبان فسنظل مؤهلين لأفضال الله وإنعاماته على الدوام نتيجة تمسُّكنا بالخلافة بإذن الله. وأرى أن من التوارد الرباني أنني حين استلمت مع هذه الرسالة رسالةً أخرى من أحد المبشرين في أمريكا لفت فيها انتباهي إلى عهدٍ أخذه المصلح الموعود من الخدام (شباب الجماعة) في اجتماعهم السنوي عام 1959م، وأوجب على “الأنصار” (مَن يزيد عن الأربعين في الجماعة) أيضا ترديد هذا العهد على الدوام، وأمر أن يجدَّد في كل اجتماع، بل يُنقَل من جيل إلى جيل إلى أن يغلب الإسلام والأحمدية على كل بقعة من بقاع المعمورة. لقد كنت أفكر في هذا الأمر بعد وصول رسالة الأخ الأول، ولكن زاد اهتمامي به عندما وصلت الرسالة الأخيرة من أحد دعاتنا، وأعجبني الاقتراح أن يردد الأحمديون في العالم كله هذا العهد بمناسبة مرور مئة عام على إقامة نظام الخلافة. فسآخذ منكم الآن، بمناسبة اليوبيل المئوي للخلافة، هذا العهدَ بعد إجراء تغيير بسيط فيه، لكي لا تبعدنا أعمالنا عما أمرنا الله به ورسوله وعن أسوته وعن تعاليم المسيح الموعود بسبب البعد الزمني، ولكي لا يطلع علينا أي يوم إلا ويجعلنا أكثر تقديرًا لوعود الله تعالى. والآن سوف آخذ منكم هذا العهد، وألتمس من الموجودين هنا أن يقوموا كلهم رجالا ونساء، كما أقول للأحمديين في العالم أجمع أن يقوموا أيضا ويرددوا معي هذا العهد.

أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

نعاهد اليوم بمناسبة مرور مئة سنة على إقامة نظام الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية، حالفين بالله تعالى أننا سنواصل جهودنا حتى آخر لحظة من حياتنا لنشر دعوة الإسلام والأحمدية ولتبليغ اسم محمد رسول الله إلى أقصى أنحاء الأرض. ولتكميل هذا الواجب المقدس سوف نكرس حياتنا لوجه الله تعالى ورسوله ، وسنظل رافعين راية الإسلام في جميع أقطار العالم إلى يوم القيامة مقدِّمين كل تضحية مهما كانت كبيرة. ونقرّ أيضا أننا سنظل نسعى جاهدين إلى آخر لحظة من حياتنا للحفاظ على نظام الخلافة ولتقويته، وسوف نوصي أولادنا أيضا نسلاً بعد نسل بالتمسك بالخلافة والاستفادة من بركاتها، لكي تظل الخلافة الإسلامية الأحمدية مصونة ومحفوظة إلى يوم القيامة، ولكي يظل الإسلام ينتشر بواسطة الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى يوم القيامة، ولكي ترفرف راية سيدنا محمد فوق رايات العالم كلها. اللهم وفّقْنا للإيفاء بهذا العهد، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.

فيا خدّامَ المسيح المحمدي، ويا أيتها الأغصان الخضراء لشجرة كيانه، إني على أمل كبير بأن هذا العهد قد نفخ فيكم حماسا وروحا جديدين، وأثار لديكم مشاعر الشكر لله أكثر من ذي قبل. فادخلوا القرنَ الجديد للخلافة الإسلامية الأحمدية بهذه الروح والحماس ومشاعر الشكر. يجب أن ينفخ فينا يوم 27 مايو/ أيار روحًا جديدة، ويُحدث فينا ثورة تؤدي إلى حدوث ثورات في حياة ذرياتنا إلى يوم القيامة. إن توفيق الله لنا بالدخول في هذا العهد والعصر الجديد لدليل على أننا بالفعل نسعى جاهدين لنصبح الأغصان الخضراء من شجرة كيان سيدنا المسيح الموعود . فما أروعَها مِن نظرةِ حبٍ كان ينظر بها المسيحُ الموعود إلى جماعته! وكم كان يُحسِن بها الظن حين قال عنا: لا يوجد في العالم كله نظير لما أحرزه أفراد جماعتنا من رقي روحاني وتغيير حسن. وأقول: ألا يفرض علينا هذا الظنُّ الحسن مِن قبله بأن نسعى لإحداث انقلاب حسن في أنفسنا أكثر من ذي قبل، وأن نكون مستعدين لتقديم كل تضحية للوفاء بعهدنا، وأن نتحرى غاياتٍ جديدةً في مجال الرقي الروحاني شاكرين الله على منّته التي أسداها إلينا في صورة الخلافة، وأن نسعى للوفاء بعهد البيعة بأفضلَ من ذي قبل، وأن نرفع مستوى طاعتنا للخلافة إلى الدرجات العلى، وأن نردّد على الدوام أناشيد الحب والوداد بين الأحباب والأغيار، شكرًا على هذه المنة الإلهية. لا جرم أن من واجبنا أن تكون هذه الحسنات والشكر مطمح أنظارنا دائمًا، وينبغي أن تتدفق ينابيع المحبة والمودة من قلوبنا، وينبغي أن يكون التحري عن السبل الجديدة للوفاء بالعهد هو هدف حياتنا. فإذا حصل كل ذلك اعتُبرنا من الذين يقدّرون نعمة الله تعالى حق قدرها، وإذا حصل هذا فسوف نستفيد بفيوض الخلافة الدائمة، وسوف تهطل علينا أمطار أفضال الله بلا نهاية.

فيا أحبائي وأحباءَ أحبائي، انهضوا واقفزوا إلى هذه الحلبة للوفاء بعهودكم بعزيمة جديدة وهمة عالية، خاضعين أمام الله تعالى مستعينين به، لأنه هو السبيل الوحيد الذي يضمن بقاءكم ويضمن بقاء ذرياتكم، بل يضمن بقاء البشرية جمعاء. أدعو الله تعالى أن يوفقكم وإياي للوفاء بعهودنا، اللهم آمين.

تعالوا الآن ندعُ معًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك