29 بركات الخلافة

29 بركات الخلافة

محمد طاهر نديم


لقد أقام الله منذ القديم نظاما كاملا لإظهار ربوبيته؛ فكلما ظهر الفساد في البر والبحر بعثَ الله رسولاً لينير للعالم الغارق في وحل الضلالة دروبَ النجاة والخلاص، فرَوَتِ الأرضُ المجدبةُ غليلَها الروحاني بهذا الفيض الرباني، واخضرَّت الأراضي القاحلة ورَبَتْ بالمزارع الروحانية.

لا شك أن الحياة الإنسانية في طريقها إلى زوال، وكل نفس ذائقة الموت.. فهذه مشيئة الله وهذا هو قانون الفطرة، وعندما ينتقل النبي إلى رحمته بعد إكمال مهمته تكون تلك الساعات قاسية على أتباعه الصادقين وكأن القيامة تقوم عليهم. ولتصوّر هذه الحالة المؤلمة جدًّا تعالوا ننظر إلى الحالة المأساوية التي أُصيب بها الصحابة عند وفاة النبي حيث قال بعضهم: لقد تنوّرت المدينةُ بحلول النبي فيها حتى صارت مثل الشمس المنيرة، ولكنها اليوم أصبحت مظلمة جدًا في أعيننا. والعواطف الرقيقة التي أعرب عنها شاعر الإسلام حسان بن ثابت في أبياته لم تكن صرخة أليمة صعدت من قلبه فحسب، بل إن جميع الصحابة كانوا يعانون الحالة نفسها هذه؛ إذ أخذت الصدمة منهم كل مأخذ. فكانوا يعانون نوعين من الهم والغم، أوّلُهما فراق الرسول ، وثانيهما مَن سيحمل على عاتقه هذه الأمانة المقدسة التي تركها رسول الله ؟ وماذا عسى أن يكون مآل الإسلام؟

لقد اطّلع الله على حالة المؤمنين وتجلى بوعده الصادق: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ، فأقام فيهم الخلافة الراشدة، وفرّج بها عنهم كروبهم، وأعاد الفرحة والحبور إلى قلوبهم، وأعطاهم قائدًا ملهمًا وإمامًا مظفّرًا وخليفةً مؤيَّدًا بنصره العزيز. هكذا ظهرت القدرة الإلهية ثانيةً. وقد تناول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود هذا الموضوع فقال: “…لقد ظنوا أن وفاة الرسول قد سبقت أوانَها، وارتد كثير من جهال الأعراب، وأصبح الصحابة لشدة الحزن كالمجانين، عندها أقام الله تعالى سيدنا أبا بكر الصديق ، وأظهر نموذجًا لقدرته الثانية، وساند الإسلامَ المتهالكَ، وهكذا أوفى بوعده الذي قال فيه: (وليمكّننَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم وليُبدِّلنّهم من بعد خوفهم أمنًا).. أي أنه تعالى سوف يثبّت أقدامهم بعد الخوف.” (الوصية، الخزائن الروحانية ج 20 ص305)

الله يتولى انتخاب الخليفة

 يقول الله تعالى في آية الاستخلاف في سورة النور إنه هو نفسه يقيم نظام الخلافة في المؤمنين الذين يعملون الصالحات. ولقد بشر سيدنا محمد أمته بقيام الخلافة فيها مرتين، فقال :

“تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ.” (مسند أحمد بن حنبل، مسند الكوفيين)

والجدير بالذكر أن الخلافة الأخيرة، التي تنبأ بها النبي في الحديث المذكور أعلاه إنما تعني الخلافة الراشدة التي تكون في الزمن الأخير عند ظهور الإمام المهدي والمسيح الموعود . وقد ذكر سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي هذا الأمر في كتابه الوصية المذكور أعلاه.  وقد أشار إلى الحقيقة نفسها رسول الله بقوله: “ما من نبوةٍ قطّ إلا تبعتها خلافةٌ.” (كنـز العمال ج 6 ص 119)

يتضح جليًا من القرآن الكريم ومن أحاديث رسول الله أن الله نفسه يَعِدُ المؤمنين بالخلافة، وهو الذي يتولى تحقيق هذا الوعد الجليل ويختار الخلفاء، من أجل ذلك أخذ النبي عهدا من عثمان للحفاظ على رداء الخلافة، فقال:

“يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلا تَخْلَعْهُ لَهُمْ.” (سنن الترمذي، كتاب المناقب)

لقد قطع رسول الله في قوله هذا أمرَين اثنين، أولهما: إن الله تعالى هو الذي يتولى انتخاب الخليفة وهو الذي يهب هذا المنصب لمن يشاء من عباده.

ثانيهما: كل من يدخل زمرة المؤمنين ثم يعترض على الخليفة ويعارضه فإنه يدل على نفاقه، وإن الذين يقومون بدعاية كاذبة ضد الخلافة الحقة هم المنافقون حقًا.

لقد أكد سيدنا نور الدين الخليفة الأول للمسيح الموعود أن الخلافة من الله وهو الذي يختار الخليفة، وقد شرح هذا الأمر مرات عديدة لبعض الأحمديين الذين لم يفهموا مكانة الخليفة، فقال:

“لقد قلتُ مرة بعد أخرى، مستشهِدًا بالقرآن الكريم، إن إقامة الخليفة ليس من عمل الإنسان، وإنما هو من عمل الله تعالى.”

ثم قال:

“عندما أموت سيقوم مقامي ذلك الذي يريده الله تعالى بل سيقيمه الله بنفسه.” (المرجع السابق)

فمُنذ أن أقام الله تعالى الخلافة الراشدة في الجماعة الإسلامية الأحمدية حاول المعارضون القضاء عليها مرارًا، ولكن الله أحبط مخططاتهم في كل مرة، وبذلك برهن على أن الله تعالى هو الذي قد أقامها، ولذلك فلن يدع أي تخطيط يفلح في القضاء عليها.

لقد وجه سيدنا مرزا طاهر أحمد رحمه الله التحدي التالي للعالم أجمع وقال:

“فليبذل العالم الإسلامي كله ما بوسعه ثم لينظرْ هل ينجح في تنصيب خليفة لهم. إنهم لن يستطيعوا ذلك لأن الخلافة ترتبط باختيار الله تعالى، واختيار الله يقع على من يعتبره من أهل التقوى.” (خطبة الجمعة ألقاها في 2 إبريل 1993م)

تمكين الدين

إن أمر تمكين الدين هو الأول من بركات الخلافة المذكورة في آية الاستخلاف حسب قوله تعالى: لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ .. أي أن الله تعالى سوف يمكّن الدين الإسلامي ويمنحه القوة والهيبة بواسطة إقامة الخلافة فيه، ومن ثمّ يُظهره على الدين كله. وهذا الإعلان كما كان يبشر ببشارات عظيمة، كذلك كان يتضمن وعيدًا بأنه مستحيل لكم إحراز أي نجاح أو تقدم أو ازدهار أو بركة معرضين عن النظام المبارك للخلافة. وإنما النجاح والفلاح سيكون من نصيب أولئك الذين يحتمون بحمى الخلافة ويستظلون بظلالها الوارفة.

ومع أن زمن الخلافة الراشدة في أوائل الإسلام اقتصر على ثلاثين عاما فحسب، إلا أنه في هذه المدة الوجيزة لم تظهر عظمة الإسلام في المنطقة العربية فحسب، بل انتشرت في أرجاء العالم كله، وحقق المسلمون انتصارات باهرة في كل المجالات، ونالوا فتوحات عظيمة في كل حدب وصوب، وذلك وفقًا لوعد الله تعالى للمؤمنين:

وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

لقد تعرَّضَ المسلمون لظروف خطيرة جدًّا بعد وفاة النبي ؛ إذ بلغت فتنة المرتدين من الحدة بحيث أصبح أداء الصلاة جماعةً مستحيلا، اللهم إلا في المدينة المنورة ومكة وموضع آخر، كما أثار مانعو الزكاة فتنة كبرى وتمردوا على الدولة المسلمة، واستغل المنافقون هذا الوضع فسعوا لنسف بناء الإسلام من أساسه بزرعهم الفُرقة في صفوف المسلمين، كما حاول المتنبئون الكاذبون النيل من الإسلام والمساس بصدقه وقدسيته، فهاجت الفتن وماجت حتى بدت وكأنها تقضي على الإسلام، ولكن الله أوفى بوعده إذ أقام في المسلمين سيدنا أبا بكر الصديق قائدًا لهم وألبسه رداء الخلافة وأعطاه القوة والشجاعة والعزيمة بحيث استطاع أن يذلل كل عقبة ويقضي على كل فتنة في فترة قصيرة جدًا، ومن ثم أصبحت سفينة الإسلام تمخر عباب الدهر وهي في مأمن من العواصف والشدائد. حتى إن راية الإسلام -الذي كادت آثاره تنمحي حتى من مكة المكرمة والمدينة المنورة- غدتْ ببركة الخلافة الراشدة ترفرف خفاقة عالية على البقاع الممتدة إلى أفغانستان والصين شرقًا وإلى طرابلس وشمال إفريقيا غربًا. إلا أن المسلمين لما حُرموا هذه النعمةَ الإلهية بجريرة أعمالهم السيئة وانحراف سلوكهم، بدأت هذه الانتصارات والفتوحات تضمحل وتختفي.

أما في عصرنا الحاضر، فلما توفي مؤسس نشأة الإسلام الثانية سيدُنا المسيح الموعود الإمام المهدي كانت حالة المسلمين الأحمديين يرثى لها من شدة الحزن وكأنهم أصيبوا بنوع من الجنون، إذ كان كل واحد منهم يشعر وكأن أباه قد فارقه فأصبح يتيما. حتى إن سيدنا نور الدين قال بشكل عفوي: “بعد وفاته تبدو الجماعة جسمًا بلا روح.” (حياة نور ص 327)

فمن ناحية، أيقنَ المعارضون نظرًا إلى حالة المسلمين الأحمديين وأوضاعهم الصعبة بأن الأحمدية قد أوشكت على النهاية، ومن ناحية ثانية، كان الأحمديون خائفين على الأحمدية. ففي هذه الأوضاع المقلقة أقام الله تعالى سيدنا نور الدين خليفةً فيهم، وألبسه قميص الخلافة على منهاج النبوة، وبذلك وحّد الله صفوف المسلمين الأحمديين مرة أخرى. وبالرغم من الظروف غير الملائمة والمعارضة الشديدة أخذ نظام الخلافة في عهده الميمون يتقوّى أكثر فأكثر، ولم يجن المعارضون من وراء مساعيهم الهدامة سوى التحسر المميت والفشل الذريع.

وعندما انتقل إلى رحمته تعالى، بعد أن أدّى حق الإمامة أحسن تأدية، في 13 مارس 1914، بدأت القوى المعارضة تطلّ برأسها مرة أخرى، حيث دُبّرت المؤامرات ضد الجماعة وحيكت المكائد وبُذلت المساعي ليحيد المسلمون الأحمديون عن الخلافة، فعندما انتخب مرزا بشير الدين محمود أحمد خليفةً ثانيًا للمسيح الموعود انشقّ المولوي محمد علي وأصحابه عن الخلافة، وحيث إنهم كانوا مثقفين ظاهرًا وكانوا يعتبرون أنفسهم كبار المسؤولين في الجماعة، فقالوا عند خروجهم من قاديان: إن المراكز الدينية في قاديان ستُقفل الآن نهائيًا بعد أن خرجنا منها، وبناية الخلافة ستخرّ أنقاضًا، حتى تنبّأ أحدهم قائلاً: “نحن على يقين، وسوف ترونه أنتم أيضًا بأم أعينكم، أن الأحمدية ستتلاشى من هذا المكان خلال عشر سنين القادمة وتحلّ المسيحية محلها.” (جريدة “الفضل” عدد 3 يناير 1940)

لكن قدر الله تجلّى على عكس مزاعمهم تمامًا، إذ إن الخلافة أنجزت تحت ظل الله تعالى ورعايته خلال 100 العام المنصرمة إنجازات ضخمة غنية عن البيان. وهذا يدلّ على تمكين الله لدينه على أيدي الخلفاء، وهو إحدى بركات الخلافة الحقة.

أما طاعة الرسول فهي أنه عندما يقول الرسول إن الوقت وقت التركيز على الصلوات، يبدأ الجميع بالتركيز على الصلوات، وعندما يوجههم إلى دفع الزكاة والتبرعات يبدأ الجميع بالتركيز عليهما، وعندما يقول: الآن هناك حاجة للتضحية بالنفوس والأوطان يهبّ الجميع للقيام بالتضحية بنفوسهم وأوطانهم. وهذه الأمور الثلاثة ترتبط بالخلافة ارتباطًا وثيقًا.

إخلاص العبادة لله تعالى

يتمتع المجتمع الإسلامي بميزتين هما: العبادة والإنفاق في سبيل الله. وإن القيام بهما على وجه صحيح يقتضي وجود الخلافة الحقة، إذ إن الخليفة الذي يقيمه الله تعالى هو المرجع لإرشاد الناس إلى الطرق الصحيحة للوصول إلى تزكية النفوس والأموال.

إن إقامة الصلاة ترتبط بالخلافة ارتباطًا خاصًا، لأن أفضل الصلوات هي صلاة الجماعة، مثل صلاة الجمعة والعيدين التي يخطب فيها الإمام مراعيًا الأمور والمقتضيات التي تهم الأمة في تلك الساعة.

إن الخليفة بمثابة قلب في جسد الأمة بحيث يتلقّى التقارير من جميع أنحاء العالم وعلى ضوئها يطالب الجماعة بالتضحيات والأعمال.

يقول الخليفة الثاني للمسيح الموعود :

“لا تتولد الطاعة بدون النظام. لذلك فكلما كانت خلافة تمت معها أيضًا طاعة الرسول، لأن طاعة الرسول لا تعني القيامَ بالصلاة والصوم والحج، لأن هذه الأعمال تؤدَّى طاعةً لأوامر الله ، أما طاعة الرسول فهي أنه عندما يقول الرسول إن الوقت وقت التركيز على الصلوات، يبدأ الجميع بالتركيز على الصلوات، وعندما يوجههم إلى دفع الزكاة والتبرعات يبدأ الجميع بالتركيز عليهما، وعندما يقول: الآن هناك حاجة للتضحية بالنفوس والأوطان يهبّ الجميع للقيام بالتضحية بنفوسهم وأوطانهم. وهذه الأمور الثلاثة ترتبط بالخلافة ارتباطًا وثيقًا. وكأن الله تعالى يقول لولا الخلافة لضاعت صلواتكم، ولذهبت زكاتكم أيضًا سدًى، ولتلاشت طاعة الرسول هي الأخرى من قلوبكم.” (التفسير الكبير، قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم …)

استجابة الدعاء

إن الدعاء يحتل مكان الروح في جسد الحياة الروحانية. واستجابة الدعاء تقتضي أن يكون الإنسان عارفًا بالله. يقول المسيح الموعود والإمام المهدي عن تأثير الدعاء:

“إذا كان بالإمكان أن تُحيا الأموات فبالدعاء، وإن كان بالإمكان أن يُطلق سراح الأسرى فبالدعاء فحسب، وإن كان بالإمكان أن يُزكَّى الخُبثاء فبالدعاء فقط.” (محاضرة سيالكوت، الخزائن الروحانية ج20 ص234)

ويقول الله تعالى مشيرًا إلى أمر يؤدي إلى استجابة الدعاء: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ . والخلافة الراشدة هي أقوى هذه الوسائل بعد الرسول. وقد أشار إلى الأمر نفسه الخليفة الثاني   في قوله:

“عندما يختار الله أحدًا لمنصب الخلافة يستجيب دعواته أكثر، لأن عدم استجابة أدعيته يمثّل مساسًا باختياره .” (منصب الخلافة ص 32 طبعة 1914م)

وفي هذا الصدد روى سيدنا الخليفة الثاني الحادث الطريف التالي قائلا:

“كنت مرة عند شودري محمد ظفر الله خانْ حيث أخبرنا أحدُ الإخوة أن شخصًا من غير المبايعين (أي المنشقّون عن نظام الخلافة في جماعتنا) كان يقول لي: إن عقائدنا لهي العقائد السليمة، بيد أن دعوات ميان صاحب (أي الخليفة الثاني) تُستجاب أكثر منّا.” (الخلافة الراشدة ص 194 طبعة 1961م ربوة)

الوحدة والاتحاد

إذا كانت ثمة ذريعة لجمع شمل المؤمنين على يد واحدة بعد وفاة نبي فهي الخلافة لا غير. ولقد أشار إلى ذلك سيدنا أبو بكر الصديق حيث قال:

“قد استخلف الله عليكم خليفةً ليجمع به أُلفتكم ويقيم به كلمتكم.”

والتاريخ الإسلامي خير شاهد على أنه ما دام المسلمون متمسكين بحبل الله أي الخلافة حققوا نجاحات باهرة، ولما تركوه فشلوا فشلا ذريعًا ولقوا هزيمة بعد هزيمة.

وعندما بدأ المنافقون يطعنون ضد خلافة سيدنا عثمان قال: لو قتلتموني فوالله لن تجمع كلمتكم بعدي، ولن تتمكنوا من أداء الصلاة متحدين، ولن تستطيعوا مواجهة العدو مجتمعين. (تاريخ الطبري)

لقد سجّل التاريخ مصداقية قول عثمان الخليفة الراشد إذ تمزّقت أواصر المحبة والمودة فيما بين المسلمين بعد شهادته ، وتلاشت من بينهم نعمة الوحدة والاتحاد، ولا تزال صفوفهم مشتتة متفرقة من المسجد إلى حلبة القتال.

ولقد أكد الخليفة الأول للمسيح الموعود الموضوع نفسه بقوله:

“إنها (أي الخلافة) لسبيل البركة لكم، فاستمسِكوا الآن بحبل الله هذا، فإنه حبل الله الذي جمع شملكم المتفرّق، فابقوا متمسكين به بقوة.” (جريدة “بدر” عدد 1 فبراير 1912م)

لا شك أن الأمة المسلمة تدرك جيدًا أن الوحدة منوطة بالخلافة وحدها. فلقد كتب أحد العلماء البارزين في الهند “شودري رحمت علي” حول الحالة المتردية والمأساوية التي آلت إليها الأمة المسلمة اليوم فقال: “إن الأمة، بقضائها على الخلافة، قد ارتكبت جريمة. وإذا كان المسلمون قد صاروا عرضة للمذلة والهوان في العالم أجمع فلأنهم قد أعرضوا عن الدين الحق. والأسف كل الأسف أنهم صاروا حمقى وأعداء لأنفسهم. والحل لهذه المعضلة أن يُقام نظام الخلافة مرة أخرى لتجتمع الأمة بأسرها تحت راية واحدة. ومن المناسب أن تُمنح للمؤتمر البلاد الإسلامية مرتبة الخلافة ويُعهد أمر الأمة بيد أحدٍ منهم. وهكذا ينبغي أن تتشكل مملكة إسلامية متحدة حيث تكون جميع البلاد الإسلامية فيها بمثابة أقاليم لها. وفي ذلك يكمن حل لمشاكلنا جميعًا. (الجريدة اليومية “دن” الصادرة في لاهور عدد 21 مايو 2002 ص 5)

فلا شك إذن أن المعرضين أو المغمضين عن النظام السماوي (أي نظام الخلافة القائم في الجماعة الإسلامية الأحمدية) قد بدأوا الآن يعترفون بأنفسهم أنهم قد لاقوا الإهانة والمذلة، وبأنهم ما نجحوا في إقامة الخلافة. ولكن ليتهم يعلمون أن أمر إقامة الخلفاء بيد الله وحده، ولا يتحقق إلا في الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .

وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا

من أمارات الخلافة الحقة أنها تبدل الخوف أمنًا. وإن الجماعة الإسلامية الأحمدية قد شهدت مثل هذه الأحداث التي تبرهن على أن الله تعالى قد بدّل حالات الخوف بالأمن ببركة دعوات خلفائها. فمثلاً:

– بدّل الله بالأمن حالةَ الخوف، التي طرأت على المؤمنين لدى رحيل سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي ، وذلك بإظهاره القدرة الثانية أي إقامة الخلافة الراشدة فيهم.

– بدّل حالة الخوف أمنًا لدى حدوث فتنة “غير المبايعين” أو المنشقين عن نظام الخلافة الذين سبق ذكرهم في هذا المقال.

– بدّل الله تعالى أمنًا حالاتِ الخوف التي خيّمت على الجماعة في شبه القارة الهندية سنة 1934 و 1953 و 1974 و 1984حين أُثيرت الفتن ضد الجماعة من قبل المعارضين.

وعلاوة على حالة الخوف على المستوى القومي فثمة شاهد حيّ في كل بيت، إذ بدّل الله تعالى خوف المسلمين الأحمديين في كثير من أمورهم الخاصة أمنًا بدعاء خليفة الوقت وإمام الزمان.

وإليكم بعض الأحداث بهذا الخصوص:

قام حزب الأحراريين- وهو حزب سياسي إسلامي كان مواليًا للكونغرس الهندوسي وكان يخالف بشدة قيام دولة إسلامية مستقلة باسم باكستان، معارضًا موقف مؤسس باكستان محمد علي جناح- في سنة 1934 بمساعدة مِن حاكم البنجاب آنذاك “مستر أيمرسن” بحملة شرسة رامية إلى القضاء على الجماعة الإسلامية الأحمدية، حيث أعلنوا أنهم سيمحون أثر الأحمدية من على وجه الأرض. وقال سيدنا المصلح الموعود مشيرًا إلى هذه الحادثة: “قام حزب الأحرار بإثارة الفتنة عام 1934 وعارضونا بشدة حتى ألّبوا الهند كلها ضد جماعتنا. فأعلنتُ عندها في إحدى خُطَبي من منبر المسجد: لا تخافوا من فتنة الأحرار … فإنني أرى هزيمتهم تقترب إليهم رويدًا رويدًا. وبقدر ما ينسجون المكائد ويرفعون الهتافات لنجاحهم بقدر ما أرى موتهم واضحًا بيّنًا.” (جريدة “الفضل” عدد 30 مايو 1935 ص 5)

ثم شهد التاريخ أن حملة الأحراريين هذه مُنيت بالخيبة النكراء، وبدّل الله حالة الخوف هذه أيضًا بالأمن.

اندلعت مفسدة ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية في باكستان عام 1953 بمؤازرة حكومة إقليم البنجاب للمشايخ للقضاء على الأحمدية. وقد قال سيدنا الخليفة الثاني مشيرًا هذا الحادث:

“عندما نشبت الفسادات عام 1953 أرسل لي حاكم البنجاب إشعارًا وفق مرسوم الأمان أن لا يُنشَر مِن قبلي أو مِن قبل جريدتنا شيء ضد “حزب الأحرار”، لأن هذا يعني أنك تريد أن تزيد في حدة الفساد. وجاء مدير شرطة محافظة “جهنغ” بهذا الإشعار. لقد استلمت منه الإشعار إلا أنني قلت له: جئتَني وحيدًا في هذا الوقت ووصلَت إليّ بدون أن تشعر بأي خطر، وذلك لأنك على يقين أن الحكومة ستدعمك، فإن كنت على يقين، لكونك مندوبًا من قبل الحكومة، بأن الحكومة ستساندك وتدعمك، فما بالك بي، وقد جعلني الله بنفسه خليفة، أفلا يليق بي أن أكون على يقين تام بأن الله تعالى سيعينني. لا شك أن رقبتي في يد حاكمك، ولكن رقبته هو بيد إلهي القادر. لقد فعل بي حاكمُك ما كان يريد فعله، أما الآن فسيُرِي ربي يدَ قدرته. ثم خلال أيام معدودة أُبْعِدَ “مستر جندريغر” حاكمُ البنجاب آنذاك عن السلطة بأمر من الحكومة المركزية.” (جريدة “الفضل” عدد 5 سبتمبر 1958 ص 2)

وهكذا فببركة الخلافة الحقّة بدّل الله حالة الخوف هذه أيضًا بالأمن.

لقد مرت الجماعة الإسلامية الأحمدية بظروف عصيبة عام 1974 كانت أشد وطأةً من مفسدة 1953. فطمأن الخليفة الثالث -رحمه الله- الجماعةَ قائلاً: “إن أفواج الله تعالى لآتية لنصرتنا، وإن وقت نصر الله لقريب.” فشهد العالم بعد ذلك أن الله أطفأ نيران تلك الفتنة، وقضى على رؤوسها قضاء مبرمًا.

ولقد زادت الأحمدية نشاطًا وانتشارًا مع بداية عهد الخليفة الرابع رحمه الله، فكان من الطبيعي أن يبذل الأعداء جهودهم للحيلولة دون نفوذ الأحمدية. فقام الدكتاتور الجنرال ضياء الحق بإصدار قرطاس أبيض مزعوم ضد الأحمدية بباكستان عام 1984 ظنًّا منه أنه سيوقف رقي الجماعة وازدهارها، وهكذا خلق للأحمديين في العالم أجمع جوًّا من الخوف والقلق. ولم يكن هذا الخوف على أموال الجماعة ولا على شرفهم ولا على نفوسهم، وإنما كان على أغلى وأثمن نعمة عندهم ألا وهي الخليفة. فكان أفراد الجماعة يخافون عليه من أن يصيبه أي مكروه. تحدث الخليفة الرابع للإمام المهدي والمسيح الموعود عن هذه المؤامرة الخطيرة قائلا: “قبل ليلة كنت قد تعهدت حالفًا بالله أنني سأضحّي بنفسي من أجل الأحمدية ولن يثنيني أحد عن ذلك. ولكن الله أطلعني في تلك الليلة على أمور أحدثت فجأةً تغييرًا جذريا في حالتي القلبية، وأدركتُ حينها أنها مؤامرة مخيفة حيكت ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية ولا بد أن أُحبطها بأي ثمن. وكانت المؤامرة أنهم سيقومون باغتيال الخليفة، وعندما ستثور هذه الجماعة من جراء هذه الفعلة سيقضون على نظام الخلافة في الأحمدية نهائيًا. سيدمر الجيش مدينة “ربوة” وسيحول دون انتخاب خليفة جديد هناك، وبذلك سيتم القضاء على نظام الخلافة نهائيًا…. إن أفعال الله لعجيبة ومن عجائب أفعاله أنه أخرجني من باكستان رغم الظروف الصعبة المذكورة آنفًا. لا أقول إن المؤامرة كانت ستنجح، كلا. لأنه لو حدث ذلك لفقد الناس إيمانهم بالله تعالى بحجة أن الله تعالى بنفسه أقام نظامًا (أي نظام الخلافة) لإظهار الإسلام في العالم كله وعلى الدين كله، ثم كيف يمكن أن يوفّق المعارضين ليبسطوا أيديهم إلى قلب الجماعة (أي الخلافة) التي أقامها الله تعالى إحياءً لدينه. فما كان ليحدث ذلك البتة، لذلك فقد خيّب الله تعالى كل مكائد العدو بإفشاله هذه المؤامرة. إنه لفضل الله العظيم جدًا بحيث لا نستطيع أن نؤدي حق شكره. لا تستطيعون أن تقدروا كم كانت فادحةً نتائج هذه المؤامرة التي وقى الله الجماعة منها! وكم كانت كبيرة هذه المؤامرة التي أحبطها الله!” (خطبة الجمعة ألقاها في باريس في 28 ديسمبر 1984)

وهكذا أظهر الله قدرته مرة أخرى وبدّل خوف المؤمنين أمنًا، وبذلك برهن على أن هذه الخلافة هي الخلافة على منهاج النبوة، وهكذا تقوضت بناية المؤامرة المخيفة باصطدامها مع قدر الله وصارت كومة من الأنقاض.

لا شك أن كثيرًا من صلحاء الجماعة قد قدموا أرواحهم واستُشهدوا في هذه السبيل ليكتبوا بدمائهم حكايات لا تُنسى من الوفاء والولاء والصدق والإخلاص، ولا شك أن بعضهم سُجنوا في سبيل الله؛ ولكن التاريخ يشهد أن شمس كل يوم جديد تؤكد على خيبة آمال المعارضين، إذ إن الله القادر قد دمّر أولئك الذين وقفوا مشمّرين للقضاء على الجماعة الإسلامية الأحمدية. ولكني أتساءل: أين ذو الفقار علي بوتو ذلك الحاكم المستبد الذي قال متباهيًا: لن أبرح حتى أجعل الأحمديين متسولين يستجْدون هنا وهناك؟ وأين ضياء الحق ذلك الدكتاتور الذي اعتبر الأحمدية سرطانًا مهلكًا في جسد الإسلام وزعم أنه سيستأصله؟ إننا لنشهد أن الله القادر والقوي قد استجاب دعوات خلفاء الجماعة الإسلامية الأحمدية فقَلَع الشجرة الخبيثة وحطّمها تحطيمًا بحيث جعل أحد المذكورَين عبرة بقتله شنقًا، أما الثاني فقد تحطمت طائرته في الأجواء وصار رمادًا تذروه الرياح.

ألا فليسمع من له أذن بأن هذا هو المصير المحتوم لأعداء الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى الآن وفي المستقبل أيضًا. إن الجماعة الإسلامية الأحمدية ستنال نصرًا بعد نصر تحت ظل الشجرة الطيبة أي الخلافة الراشدة. أما الذين رضوا بأن يبقوا تحت الشجرة الخبيثة للمعارضة والعداء فليس في نصيبهم سوى الخيبة والخسران والتحسر. فاصغُوا لذلك الصادق الذي يتكلم بتأييد من الله ، والذي يظله الله تعالى بظلّه، والذي قد جعله الله رُبّانًا أمينًا لسفينة الإسلام في هذا العصر.

Share via
تابعونا على الفايس بوك