القتل باسم الدين الحلقة الثامنة والأخيرة

الفصل التاسع

أإرهاب..وإسلامي..!؟

ما هو الإرهاب الإسلامي يا تُرَى؟ إن صلة الإسلام بالإرهاب تشبه صلة النور بالظلام أو الحياة بالموت او السلام بالحرب. نعم، إنهما فعلا يتلاقيان، ولكن ذلك من جهتين متناقضتين تماما. تراهما يتماسكان، ولكنهما لا يسيران سويا في سعادة أبدا.

ولا يسع المرء أن ينكر تورط بعض المسلمين في عدة مناسبات بأنشطة إرهابية لصالح جماعته أو دولة ذات أغلبية إسلامية. ولكن أليست هناك جماعات أخرى غير إسلامية تشترك في أعمال الإرهاب والتدمير؟ أليس من الأنسب أن نسمي كل أنواع الإرهاب طبقا لنفس المبدء الذي اتبع عند إطلاق اسم (إرهاب إسلامي).. فتكون عندنا قائمة تضم الإرهاب السيخي، والإرهاب الهندوسي، والإرهاب المسيحي، والإرهاب اليهودي، والإرهاب البوذي، والإرهاب اللاديني، والإرهاب المادي، والإرهاب الوثني؟

ليس من اليسير أن نغمض العيون عن أصناف متنوعة من الإرهاب، تزدهر للأسف في شتى أنحاء العالم. والواقع أنه من المستحيل أن يخفى على أي مراقب ما يحدث من اضطهاد وسفك دم وقتل باسم مثل أعلى أو هدف نبيل مزعوم. فالإرهاب مشكلة عالمية، ويتطلب دراسة من منظور أوسع. وإذا لم نفهم القوة الفعالة خلف العنف فلن نتمكن من فهم لماذا تتحول جماعات وحكومات إسلامية نحو الإرهاب لتحقيق أهداف معينة. إني على قناعة تامة أن أي عنف طائفي يشهده العالم اليوم، ومهما كان الرداء الذي يستتر تحته، هو في غالب الأمر سياسي من أساسه. فالدين ليس المستفيد، وإنما هو ضحية الاستغلال لمصالح سياسية داخلية او خارجية .

مثالا لذلك هناك الإرهاب الناشيء عن العنصرية، ولكن التحليل يصل بنا في النهاية إلى طبيعته السياسية. وهناك أيضا أنماط من الإرهاب تتولد تعبيرًا عن التمرد والكراهية ضد نظم اجتماعية وحضارية سائدة. تُعزى هذه عامة إلى أنها من أعمال المجانين أو الفوضويين. وهناك نوع خاص من الإرهاب ينسب إلى صراع بين القوى، ومن ثم فهو سياسي.

لو أننا تأملنا ما يسمى بالإرهاب الإسلامي لاكتشفنا القوة السياسية التي تعمل خلف واجهة إسلامية. وفي أغلب الأحيان لا يكون المناورون والمنتفعون هم المسلمون أنفسهم ولنلتفت إلى بعض أمثلة من الإرهاب كي نشخّص الأمراض المسببة لها. ولنبدأ بإيران لنرى كيف تولدت الخومينية.

من المعلومات الشائعة أن أيام الشاه كانت أيام ازدهار اقتصادي. وبشرت الخطط الطموحة للتطوير الصناعي والاقتصادي بمستقبل زاهر للبلاد. ولكن هل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ الإجابة قطعا بالنفي. وما دام الإيرانيون في إيران تحت الحكم الاستبدادي للشاه كانوا يريدون المشاركة في مسئوليات ما يجري في بلادهم.. لم يكن بوسعهم أن يكتفوا بملء بطونهم فحسب. إن جوعهم إلى احترام الذات والكرامة، ورغبتهم الملحة في الحرية والتحرر من نظام قمعي شديد الصرامة.. جعلهم متبرمين متفجرين متضجرين، واستوى الموقف بعد ذلك ثورة دموية عنيفة.

إذا لم تكن الثورة الوشيكة طبيعة إسلامية.. لكان من الممكن أن تكون شيوعية، وأشد دموية وتطرفا. كان الاضطراب الذي هز إيران من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، مولودا حتميا وطبيعيا لقمع سياسي طال أمده، وإنكار لحقوق الإنسان الأساسية وحرياته، مصحوب بتخريب واستغلال من جانب قوى أجنبية غربية. كان الإيرانيون يعلمون حقيقة أن النظام القمعي للشاه مدعوم بتأييد من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. لم يتوقف بُغض الشعب وحافزه للانتقام عند إسقاط نظام الشاه، وإنما يستهدف أيضا تدمير كل مراكز القوى الداخلية التي كانت مسئولة عن دعم وإبقاء النظام الملكي بشكل أو آخر.

أخرج وعي الشاه بالدعم الأمريكي أسوأ ما فيه من ميول قمعية. كان أول الأمر يعيش في رعب، ثم تخلى الرعب عن مكانه بالتدريج ليحل محله بالإرهاب، وجعله خوفه من الثورة يشتد أكثر وأكثر مع مرور الزمن. وبالتدريج وُلدت في إيران دولة بوليسية من أسوأ طراز. وأدرك الإيرانيون أن الحكومة البوليسية تلقى دعما كاملا غير مشروط من حكومة الولايات المتحدة. ولعب الشاه دور (دمية) تحركها خيوط خفية في أصابع أمريكا. وأدى هذا كما أشرنا من قبل إلى موقف ملائم لثورة تدفعها نيران الحقد والكراهية.

استفاد آية الله الخميني من الموقف، وقدم النظرية الإسلامية الشيعية لتكون لونا ومظهرا عاما للثورة. ولكن هل كان الحب الشيعي للإسلام هو الذي ولد الكراهية ضد الولايات المتحدة، أم كان الإسلام مجرد واجهة لتخفي الدوافع الحقيقية؟ لو لم يرفع الخميني راية الإسلام، ألم تكن الثورة لتشتعل تحت اسم آخر؟ أليس الواقع أن الخميني استثمر الموقف وأعطاه لونا ومظهرا، وكان من الممكن أن تستغله فلسفة أخرى غير دينيه كأن تكون اشتراكية وطنية أو علمية؟

الواقع أن الخميني سبق القوى التي كانت تحث الخطى في أثره، والتي لو أتيح لها الوقت لتجاوزته هو وكل ما يمثله. لهذا أصبح الموقف في إيران معقدا ومربكا للغاية. لم يكن الحافز الأساسي للثورة مضادا للشيوعية أو أية فلسفة يسارية، ولكن الهدف كان الشاه ومستشاريه. ولكن كان هناك احتمال حقيقي أن ينزع زمام الثورة من يد الخميني قيادة يسارية. كان عليه أن يقاتل في ثلاث جبهات في آن واحد. فبعد إسقاط الشاه كان عليه العمل على استئصال أنصار الشاه والقضاء عليهم، ثم اجتثاث جذور النفوذ الأمريكي حيثما كان. وكان هذا في حد ذاته تأييدًا للفكر اليساري، والذي إذا ترك ليزدهر دونما عائق، لنجح في اختطاف السلطة من بين يدي الخميني، واستبدل النظرية الإسلامية بنظرية ماركسية لينينية.

إن الخميني من حسن حظه كان داهية وقويا بما فيه الكفاية ليستخدم سيف الإيديولوجية الإسلامية ببراعة، ليس في مواجهة اليمين الأمريكي وحده بل وضد اليسار الروسي أيضا وبنفس الكفاءة.

ولكن وبعد أن تم القول والفعل، تبين الآن أن الثورة الإيرانية، أيا كان دافعها، فإن الإسلام لم يكن أبدا هو الذي هداها ووجهها. ويمكنك إذا أردت تسمية ما حدث، وما هو جار في إيران، بأنه الخومينية، فذاك أفضل. فالقوة الحقيقية الفعالة ليست ذات طبيعة دينية، لا في حقيقتها ولا في أساسها. لقد استغلت القوة السياسية رد فعل الإيرانيين ضد الشاه للوصول إلى أهداف سياسية بحتة.

هناك تاريخ طويل لنمو وعي الإيرانيين بالاستغلال والاستعباد من قوة أجنبية من نوع أو آخر. وبالرغم من أن غالبية الإيرانيين مسلمون، فإنه لا يمكن التغاضي عن أنهم لم يستطيعوا أن ينسوا أو يغفروا غزو العرب لوطنهم. ومع أن الجراح تبدو وكأنها قد اندملت منذ زمن طويل، وأن عوامل فعالة من الدين المشترك والأعداء المشتركين قد لعبت دورا هاما في التحام الإيرانيين والعرب.. إلا أنه لا يمكن إنكار وجود تيار تحتي مستمر من عدم الرضا بسيادة العرب على إيران خلال القرون الماضية. ولا يغيبن عن البال أنه في عصر ما قبل الإسلام كانت إيران واحدة من أعظم الحضارات التي عرفها العالم قوة وازدهارا. كان أباطرة الرومان يسيطرون على العالم الغربي، وقياصرة الفرس يحكمون الشرق. ما تزال ذكريات هذا الماضي البعيد لم تمحها الأيام تماما.. مع أن سلطان الأخوة الإسلامية القوية قد حد منها كثيرا. كان هناك دائما ظل للحضارة الإيرانية العظمى يداعب خيال المثقفين الإيرانيين.

التاريخ الطويل للعداء الإيراني العربي، والحملات التأديبية التي كان يبعث بها ملوك الفرس إلى جزيرة العرب.. تركت ندوبا قبيحة متقيحة، لم يستطع الزمن.. مع أنه الشافي العظيم.. أن يزيلها من النفوس. وهذا أمر بشري؛ فالناس في أنحاء العالم قد يصعب عليهم أحيانا أن يفصلوا أنفسهم عن الماضي.. وينسوا الجراح والإهانات التي نالت شرفهم. ومثل هذه الفصول لن تغلق نهائيا من صفحات التاريخ، بل ستفتح مرة بعد مرة.

كفانا من حزازات الإيرانيين، ولنلتفت إلى عصر أكثر حداثة.. فليس ضد العرب وحدهم ربّى الإيرانيون مرارتهم وإحساسهم بالظلم. ففي الحرب العالمية الثانية.. تعرض الإيرانيون لأسوأ نوع من السيطرة على يد قوات الاحتلال البريطانية المسيطرة. في حالة العرب كان هناك على الأقل عوامل التهدئة من روابط الثقافة والدين، أما في حالة البريطانيين فإن الهوّة بين الحاكم والمحكوم كانت تتسع ولا تضيق.

بعد سقوط النفوذ البريطاني.. جاء عصر من التبعية والسيطرة غير المباشرة للقوى العظمى.. من خلال نطم من الدُّمى العملية. وفي هذه الفترة من الإمبريالية الجديدة تحولت المحمية الإيرانية من حضن بريطانيا إلى حضن الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبح شاه إيران رمزا للإمبريالية الأمريكية التي ساندت أيديولوجيات تتعارض مع الأيديولوجية الأمريكية نفسها، كما لا تزال تفعل إلى اليوم في بولندا ونيكارجوا وإسرائيل وجنوب أفريقيا على سبيل المثال.

وقود الكراهية الذي أشعلت شرارته الثورة الخومينية في النهاية.. لم يكن حصيلة القهر الأمريكي وحده، ولكنه كان يتجمع من قرون.. كما يتجمع النفط في مكامنه في باطن الأرض. والنقطة المهمة الجديرة بالملاحظة هنا.. أن هذه الكراهية ليست في أساسها نابعة من الدين. وإذا لم يكن الخوميني قد استغلها باسم الإسلام لاهتبلها زعيم شيوعي باسم العدالة الاجتماعية. وأياً كان الاسم الذي أعطى لها.. دينيا أو غير ديني.. فإن العوامل الكامنة والمحركة للثورة كانت وستبقى كما هي.

لقد قلت مرات كثيرة.. لأولئك الذين يحسبون التجاوزات التي ارتكبها الخوميني ضد قومه، وأعمال الانتقام التي نفذها في بلاد أخرى.. أنها أعمال ذات طابع إسلامي.. قلت إن الإسلام كدين.. لا علاقة له بتعبير الإيرانيين عن سخطهم. ويمكن القول بأنه من واجب الغرب أن يعامل الخوميني على أنه من المحسنين إليهم بدلا من اتخاذه عدوا لهم. أقول ذلك لأني واثق تماما من أنه لو لم يتمكن الخميني من استغلال الموقف.. وإعطائه الوجه الإسلامي كي يدعم ويديم وجود عصبة من رجال الدين المسلمين في السلطة لكان من المؤكد أن يستغل الموقف قادة إيرانيون من ذوي الميول اليسارية؛ ولكانت إيران التي نراها اليوم خضراء مشوبة بنقط حمراء.. مصبوغة عندئذ باللون الأحمر تماما. ومن السذاجة القول بأن القيادة الشيوعية التي خلقها ودربها الدكتور مصدق قد ضعفت ووهنت.. بحيث تعجز أن تلعب دورا مؤثرا وثوريا زمن خلع الشاه، تلك الفترة التي تعتبر مطلع عهد جديد في تاريخ إيران. وفي الحقيقة إن القيادة الشيوعية مدعومة ومدربة جيدا، ولو كان هذا ما جرى لكانت له تبعات مشئومة على الشرق الأوسط، ذي الثورة البترولية والضعف العسكري. وإذن، فمهما بدا النظام الإيراني للغرب ملطخا بالدماء كريها.. فيمكن النظر إليه على أنه نعمة مخفية لهم، ويجدر بهم رؤية الدور الخوميني من هذا المنظور.

وقد تبدو الحرب الإيرانية العراقية غير مناسبة في هذا الموضوع، ولكنها تلقي ضوء على طبيعة الأحداث المتفجرة في هذا الجزء من العالم الإسلامي. الدولتان كلاتاهما تعلن انتماءها للإسلام، وتوهم بأنها استوحت الكراهية والتخريب والإذلال لتنزله بالأخرى باسم الإسلام المقدس. فكل الجنود الذين ماتوا في المعركة من الجانب العراقي أبَّنتهم وسائل إعلامهم على أنهم شهداء؛ في حين أن جميع الجنود الإيرانيين الذين قتلوا في المعارك بأيدي العراقيين وصموهم بالكفر.. وأنهم سينقلون من ساحة المعركة إلى نار الجحيم فورا! ونفس القصة بالتمام والكمال ترددها وسائل الإعلام الإيراني معكوسة بالطبع. وكلما سقط جندي عراقي صريعا هتف الجنود الإيرانيون: الله أكبر!

عجبًا! في أي جانب كان الإسلام يا تُرى؟ كل هذا يوضح كون تلك الشعارات فارغة. والنقطة الوحيدة التي يمكن إثباتها بدون أدنى شك هي أن الجنود العراقيين والإيرانيين.. الذين قدموا حياتهم على أنها في سبيل هدف نبيل.. قد غررت بهم قياداتهم ، ولم يكن الإسلام وجودا في بال هذا الجانب أو ذاك.

تعاليم القرآن الكريم تقول:

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 39-41).

كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (المائدة: 65).

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحجرات: 10-11).

ولقد تجاهل الفريقان المتحاربان كل تلك التعاليم القرآنية خلال العمليات الحربية. وفي مكة أثناء الحج.. بذلت بعض المحاولات من جانب إيران لتبليغ رسالة الثورة الخمينية إلى سائر مسلمي العالم عن طريق الحجاج الإيرانيين. وللأسف أسفرت هذه المحاولات عن مواقف غاية في القبح.. إلى الحد الذي أحرج المسلمين. مثلا ما حدث في مكة عام 1987 أثناء موسم الحج، والاحتياطات المضادة الشديدة التي اتخذتها الحكومة العربية السعودية كان حديث صحافة الغرب لمدة طويلة. والقرآن الكريم يعلم المسلمين جميعا:

وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين (البقرة: 192).

ومن الفوائد التي جنتها القوى العظمى التي تساند إسرائيل سرًا وعلانية.. وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.. من نظام الخميني والخمينية، هو أن الخميني تُرك في وضع لا خيار فيه إلا أن يواصل الحرب مع العراق. وهذا صرف انتباه العالم الإسلامي بعيدا عن إسرائيل.. تلك الشوكة المثيرة في جنبهم، إلى موضوع مختلف تمامًا. وتراجع الشعور بوجود العدو الخارجي عن مكانه بسبب ما ترعرع من شعور بعدم الثقة بين المسلمين وبعضهم البعض.

تقطعت أوصال منطقة الشرق الأوسط. وأزاحوا الخوف من إسرائيل جانبًا على الأرفف كخطر ثانوي كامن.. لأن ثمة عاملاً ملِحًّا ضاغطًا، أرخی ستائر النسيان على مخاوف حقيقية أو وهمية من عدو خارجي. وبالطبع، فلا بد للتغرير بالجندي البسيط.. من أن يرفع شعار (الإسلام في خطر) من كلا الجانبين. وحقيقة ما كان يجري هو إحياء روح المنافسة والغيرة بين العرب والعجم. لم تكن المسألة قوة إسلامية في مواجهة قوة غير إسلامية، أو الشيعة ضد السنة.. ولكنها تحريك بسيط ومباشر لضغائن ما زالت تعيش منذ آلاف السنين. وهذا هو السبب في أن العرب الذين كانوا من قبل ينتقدون العراق والسعودية.. استدرجوا للوقوف إلى الجانب العراقي. لقد أصبحت المسألة ببساطة: بقاء العرب ضد التحدي والتهديد المتزايد من قبل إيران.

ولقد أدانت القوة العظمى تلك الحرب بصراحة، وطالما طلبت وقف أعمال العدوان. ولكنهم هم أنفسهم المسئولون عن إمدادها المتواصل بالسلاح لكل من الطرفين المتحاربين. ثم إن طائرات القتال والصواريخ والقذائف الموجهة والمدافع والدبابات والعربات المصفحة وكل أصناف الأسلحة المدمرة التي كانت تعج بها جبهات القتال من الجانبين لم تكن أبدًا مصنوعة على أرض بلادهم. كان تبادل صفقات البترول والسلاح تجري سرًا وجهرًا. وأخذت الحرب وقودها.. في نهاية الحساب.. من البترول الذي أنتجته العراق وإيران، وتحول إلى سلاح من صنع القوى الغربية والشرقية غير المسلمة. وفيما يتعلق بالغرب.. لم تكن صفقة سيئة بالمرة.. لقد أتاهم بترول الشرق الأوسط ليقايضوه بأسلحة عتيقة وقديمة نسبيًّا. فمن يتصور صفقة أربح من هذه؟

وكما رأينا فقد نُسيت إسرائيل.. العدو الرئيسي.. وقتل المسلمون المسلمين. استخدم بترول العالم الإسلامي لتدمير وإحراق اقتصاد العالم الإسلامي. المنجزات الاقتصادية التي کدحوا لتحقيقها في العقد الماضي أمست يبابًا. أما عن التقدم والرخاء.. فقد ارتدت الدولتان على أعقابهما مبتعدتين عنه كثيرا.

لا شك في أن الحروب لها تأثيرات واسعة على التقدم الاقتصادي والمادي، وعلى الموارد البشرية والانجازات الثقافية والصناعية، ولكن بوسع الدول المتقدمة أن تعتمد على مواردها الذاتية وموارد حلفائها، ولا تتسبب متطلبات الحروب وضغوطها وصراع البقاء في استنزاف مواردها بسهولة. فهي تثري معارفهم العلمية وخبراتهم التكنولوجية إلى درجة كبيرة وفي مدى قصير. ويمكنهم استخدام المعرفة والخبرة المكتسبة خلال الحرب على الفور لإعادة بناء اقتصادهم، بل ودفعه إلى الأمام دفعات هائلة. ومن ثم، فإنهم وإن افتقروا ماديًا في الظاهر نتيجة للحرب الطويلة.. إلا أنهم يمكنهم أن يعتنوا كثيرا لبناء مستقبل أفضل.

ولكن.. واحسرتاه! ليس الحال كذلك مع الأمم المتخلفة في مجالات العلم والاقتصاد عندما تتورط في ترف الحرب. لا خيار أمامهم عندئذ إلا أن يبيعوا كل ما عندهم، بل ويرهنوا مستقبلهم، عن طريق ترتيبات مع البلاد المتقدمة علميًا واقتصاديًا ليمدوهم بعتاد الحرب. وبدون ذلك لا يمكن لحرب أن تطول إلى هذه المدة، وأن تصل إلى هذا القدر المخرب، كما حدث بين العراق وإيران.

إن المسئولية عن كل ما نجم من فظائع ارتكبتها تلكما الدولتان في حق نفسيهما أو في حق غيرها أحيانًا.. يجب أن تشارك فيها إلى حد ما تلك الدول التي أسهمت في إمدادهما بالسلاح والذخيرة. وعندما ينتهي كل ما يقال، وتسوى الديون، ويؤخذ في الحسبان تبادل السلع، فربما كان مناسبًا عندئذ النظر في مسألة من هو المستفيد من الحروب؟

ولقد رأينا كيف أدين الإسلام بأنه دين همجي، يؤيد الإرهاب، ويبشر بالكراهية والتعصب، ويفرق أتباعه إلى معسكرات متعادية متعطشة للدماء. وليس هناك مفاجأة.. فهي من الفوائد الإضافية التي يفوز بها أولئك الذين دبروا وتآمروا ونفذوا وزودوا بمعدات الخراب أتعس الفرق المتحاربة في أمة الإسلام.

وتصادف أن عبارة الإرهاب الإسلامي تقود إلى تعبير آخر يدعو للاهتمام.. انتحلته وسائل الإعلام الغربي في العقد الماضي.. وهو القنبلة الذرية الإسلامية! يدّعون أن باكستان تملكها. وبالطبع فلا بد وأن تكون هناك قنبلة ذرية إسلامية، ما دام هناك شئ اسمه إرهاب إسلامي! ولربما ظهرت عبارات أخرى تحمل صفة الإسلام متعلقات الحروب المختلفة. لماذا لا نسمع عن قنبلة ذرية مسيحية أو يهودية أو هندوسية، أو قنبلة عنصرية أو شنتوية؟ ومن العجيب أنه يمكن نسبة القنبلة الذرية إلى آلاف من الديانات الأخرى، لكن الإعلام الغربي قد انتقی وعَّرف واستهجن قنبلة واحدة: القنبلة الإسلامية.. مع أن وجودها نفسه مشكوك فيه!

وكما صرحنا من قبل، فإن القوى الحقيقية الفعالة ليست حقًا وأساسًا ذات طابع دینی. فلماذا تنفرد بكلمة (إسلامية) اليوم كلما تحركت قوى الإرهاب لتعمل في جماعات أو دول مسلمة.

تلك القوى المسئولة عن إطالة الحرب الإيرانية العراقية بتوفيرها المدد المستمر من السلاح لها لا يمكن أن يتهربوا من مسئوليتهم عما ترتب عليها من الخسائر الرهيبة في الأنفس والأموال، وما قاساه البشر من أهوال لا توصف. ومهما كانت دوافعهم الخفية فإنهم سيساعدون على بقاء اسم الخمينية لمدة أطول، ولو أن البلدين المتحاربين تُركا لمواردهما الهزيلة لبدأت الخومينية طريقها إلى الزوال والذبول.

من بين أمور أخرى، أَحيَتْ هذه الحرب وقوّت الروح القومية، وحولت انتباه الإيرانيين بعيدًا عن مشاكلهم الداخلية نحو تهدید من عدو خارجي. وقد يبدو مدهشًا لو حدث مزيد من خيبة الأمل لدى الإيرانيين، فلربما نجم عنه تحد سافر أو حتى ثورة ضد الخومينية. وفي داخل إيران هناك ميل قوي نحو تقییم الثورة والحكم بما لها وما عليها. ومع أن الجزء الأكبر من المتنوّرين قد قضي عليه ، فإن الأحياء منهم متجهون نحو إعادة تقييم خسائرهم ومكاسبهم أثناء الثورة الخومينية. وقد تكون هنا حركة نحو إيجاد نظام جديد لإيران.

كانت ضرورة رفع الروح المعنوية للجماهير خلال الحرب تجد كفايتها في هيجان الصراع، وعندما تنفد الروح المعنوية فسيكون ذلك يوم الشك العظيم. هل ستحل قوى اليسار أم قوی اليمين محل النظام الحالي، أم تبقی مع أصحاب الوسط؟ ستكون هناك معركة عظيمة للحصول على السيادة والاستيلاء على الحكم. وسوف يرتد كل شي إلى بوتقة الصهر، ولا يمكن لأحد أن يتكهن لإيران بما هو في بطن الغيب. الله تعالى هو وحده العليم، وكل ما بوسعي هو أن أدعو لشعب إيران أن تؤول أيام شدتهم إلى خاتمة من السلام والسعادة. إنهم شعب شجاع موهوب ولا ريب. لقد قاسوا الكثير في الماضي، ولا يزالون يقاسون على يد غير الإيرانيين وعلى يد الإيرانيين، ولسخرية الأقدار أنهم اكتسبوا سمعة سيئة خلال الصفقة. عسى الله أن يتولاهم برحمته ويخلصهم من مأزقهم الصعب.

والآن نلتفت إلى جانب آخر للثورة الخومينية في إيران. بعدما وصل الخوميني إلى السلطة خطط لتغيير أسلوب الحياة ظاهرًا وباطنًا.. ليس لدي الإيرانيين المسلمين وحدهم، بل أخذ على عاتقه إحداث ثورات مماثلة في الدول الإسلامية المجاورة. وألقى في روع العالم الإسلامي أنه سيلعب دورًا أقوى في مساعدة الفلسطينيين وهزيمة القوى الصهيونية. ومن الواضح أنه لا الحكومات الإسلامية ولا حكومة إسرائيل كانوا على استعداد لاستقبال رسل الثورة الإيرانية بأذرع مفتوحة، ومن ثم لم يكن لتصدير الثورة سبيل شرعي أو سلمي. وفشلت إيران في تصدير بضاعتها الثورية إلى البلاد الإسلامية المجاورة.. وقد حققت، ولا شك، بعض النجاح في القطاع الفلسطيني الإسرائيلي. فكما أشرتُ آنفًا، بدأت الأنشطة الإرهابية تعرف طريقها إلى المنطقة موجهة إما ضد اسرائيل أو ضد ممثلي القوى الغربية، تحمل رخصة إسلامية، ولكن فلسفتها نابعة من الثورة الإيرانية وحدها.

الحديث المتزايد الذي نسمعه عن النضالية واستخدام القوة، يتطلب تحليلا بعناية قبل أن نتفهم أهمية هذه الظاهرة الغريبة. إن الموقف الضيق المتعصب أصبح أكثر شيوعًا اليوم بين رجال الدين المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي. وتقع مسئولية ذلك أساسا على أكتاف الحكومة السعودية، التي تحاول جذب انتباه المسلمين جميعا، وهي تبدو مصممة على نشر نفوذها السياسي تحت مظهر ديني. ولما كانت تتمتع بميزة فريدة.. لأنها الوصية على أقدس مدينتين عند المسلمين.. مكة المكرمة والمدينة المنورة.. فهي بالتأكيد في موقف يسمح لها باستغلال هذا الوضع إلى أقصى مداه.

والفلسفة الدينية السعودية تنبع من الفكر الوهابي، الذي يستمد منابعه من الإسلام المتعصب في دنيا العصور الوسطى، أكثر مما يأخذ من الإسلام السمح المتفهم الذي كان في عهد النبي . وينتشر النفوذ السعودي، مدعومًا بدولارات النفط، والرصيد الهائل في البنوك الرئيسية في العالم. ومن مفاخر السعودية أن جزء من عائدات الاستثمارات الضخمة يستخدم لمد قنوات من صندوق المعونة السعودي إلى البلاد الإسلامية الفقيرة. وفي أغلب الأحايين لا يمنح هذا العون لتقوية اقتصادهم المنهار، وإنما يوجه لبناء المساجد والمدارس والمعاهد لتخريج (العلماء) من الصنف السعودي. ومن ثم، فحيثما تتبعتَ مجرى العون السعودي ستلحظ زيادة سريعة في المواقف الضيقة المتعصبة المنسوبة إلى الإسلام بين رجال الدين المسلمين. ولا شك أن العالم المسيحي يسمع تلك الأصوات المتحمسة لكل القيم غير الإسلامية.. والتي تدعو إلى الجهاد.. أو الحرب المقدسة ضد الحكومات غير الإسلامية.. فيساقون إلى الاعتقاد بأن الحديث عن الجهاد سوف يترجم إلى اشتباك حربي بالفعل. ولكن ما يحدث في الواقع يختلف عن ذلك تمامًا.

يتحدث رجال الدين المسلمون بصوت عال عن الحرب المقدسة.. والتدمير النهائي للقوى غير الإسلامية، وهم في الحقيقة يقصدون بالقوى غير الإسلامية.. ليس قوى المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الإلحادية .. بل من وجهة نظرهم يعتبر كل من عاداهم من الطوائف الإسلامية الأخرى هم القوى غير المسلمة.. إما بسبب خصائصهم أو عقائدهم التي تجعلهم محط لعنة الله وعباده الصالحين!

فليس أعداء الإسلام الحقيقيون.. كما يرونهم.. هم غير المسلمين، وإنما هم بعض الطوائف الإسلامية في عالم الإسلام. والميول النضالية المناهضة في توجهها من طائفة إسلامية ضد طائفة إسلامية أخرى أكثر من توجهها ضد غير المسلمين. وهذا هو السبب في تأكيدهم على عقوبة الإعدام للمرتد. إنه سلاحهم الذي يشهرونه ضد المسلمين الذين يخالفونهم في مسألة مذهبية شائعة بين الغالبية من أهل البلد. هذه الطوائف في الواقع توزع ضربة الموت في خطوتين: الأولى إعلان أن عقائد مخالفيهم غير إسلامية، أي تعدّهم مرتدين. والثانية أن تقول بأن عقوبة الارتداد هي الموت، ومن ثم فهم يستحقون الإعدام.

ولسوف يوافق المراقب المحايد على أن الميول النضالية النامية تخلق الاضطراب بين المسلمين أنفسهم، وأنها مسئولة عن تولید کراهية شديدة للغاية في قلوب أبناء كل طائفة ضد أبناء الطوائف الأخرى.

أما القوى غير الإسلامية.. فبوسعهم الشعور بالأمان التام، وأن يستريحوا مطمئنين ألا خطر عليهم بتاتًا على أية صورة مما يسمى بالميول النضالية في عالم الإسلام. ولبيان ذلك.. ما على المرء إلا أن ينظر في العلاقة بين السعودية والغرب، وعلى الأخص مع الولايات المتحدة. فلا يعقل أن السعودية ومن يدورون في فلكها يحكمون برفع السيف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية أو أحد حلفائها؛ فالنظام السعودي يعتمد في بقائه على الولايات المتحدة الأمريكية اعتمادًا تامًا.. مائة بالمائة، وكل ثروات البيت الحاكم السعودي مودعة في البنوك الأمريكية والأوربية. وفوق كل هذا، فإن اتكاله على الغرب لأمنه في الداخل والخارج من الوضوح بحيث لا نرى أننا بحاجة للإسهاب فيه. وهذان العاملان يضمنان وحدهما ألا تجرؤ السعودية، أو أي دولة تحت نفوذها، أن تمثل تهديدًا لدولة غربية غير مسلمة. وفضلاً عن ذلك فمن الحقائق الثابتة أنه لا توجد دولة إسلامية واحدة تعتمد على نفسها في إنتاج معدات الحرب، فكلها تعتمد إما على الغرب أو على الشرق للحصول على حاجاتها الدفاعية أو الهجومية .. وهذا ضمان أكثر من كاف لسلوك مسالم ومأمون مع القوى غير المسلمة. وينطبق نفس المبدأ على بلاد مثل ليبيا أو سوريا.. التي تتمتع بعلاقات ودية مع القوى الشرقية أكثر منها مع الغرب.

لا أحد ممن لديهم معرفة بنظام الحرب الحديثة يتخيل أن يكون ثمة تهديد حقيقي لما يسمى بـ (النضالية) الإسلامية. هناك من غير ريب خطورة لهذه الميول المتزايدة، ولا بد أن ينزعج لها المرء. فخطورة النضالية الإسلامية تهديد للعالم الإسلامي نفسه. إنها تهديد متجه إلى الداخل، يفسد سلام المسلمين في كل مكان. وكل ما نلقاه في عالم الإسلام اليوم من عدم التسامح وضيق في الفكر وتعصب أعمى.. إنما هو تخريب للسلام في عالم الإسلام.. وا حسرتاه!

إني مدرك لحقيقة أن كلمة (إرهاب) بالمفهوم الدقيق تنطبق على العمل الإرهابي كمحاولات التفجير والتدمير وما أشبه ذلك. ولكني لا أعتقد أن هذه وحدها هي كل أنواع العمل الإرهابي التي يقاسي منها العالم. إني أعتقد أنه حيثما كان هناك إجراءات قمعية تقوم بها الحكومات ضد مواطنيها لتخمد أصوات المعارضة.. يجب أن تدرج في مدلول الإرهاب، وأن تدان بقوة بمثل ما تدان كل الأعمال الإرهابية الأخرى. لأني أعتقد أن كل حدود الكبت التي تضعها الحكومات ضد اليمين أو ضد اليسار داخل حدودها الوطنية.. إرهاب من أسوأ الأنواع.

عندما توجه أعمال الإرهاب ضد حكومة أجنبية وتأخذ طابع التفجيرات هنا وهناك، أو اختطاف الطائرات؛ مثل هذه الأعمال تجذب إليها الانتباه الشديد، ويتعاطف الرأي العام العالمي.. وحق له أن يتعاطف مع ضحايا مثل هذه الأعمال الإرهابية القاسية. ولا يكون هذا التعاطف بالقول وحده، وإنما يتبعه عادة إجراءات بناءة لمنع ومبادرة هذه المحاولات في المستقبل. ولكن.. ماذا بشأن مئات الألوف من الناس الذين يعانون تحت وطأة أيد شديدة لا رحمة فيها من حكومتهم نفسها؟ نادرًا ما تسمع صرخات کربهم في الخارج. وغالبًا ما تكتم صيحات احتجاجهم بحدود رقابية صارمة. حتى إن الوكالات الخيرية.. مثل منظمة العفو الدولية حينما تلفت أنظار الدنيا لأعمال الاضطهاد القاسية والتعذيب والحرمان من حقوق الإنسان، فتدان تلك الأعمال.. إذا حدث ذلك.. إدانة خفيفة من حكومات العالم، وأغلب الأحيان تعد تلك الأعمال من الشؤون الداخلية للبلاد، وبدلاً من أن تدمغ بكونها أعمالاً إرهابية.. تذاع على أنها جهود حكومية لمنع الإرهاب الداخلي، وإقرار السلام والقانون والنظام!

إني مقتنع تمامًا أن كل إجراءات الحظر والعقاب التي تتخذها حكومة ضد شعبها لتكبت حركة شعبية أو معارضة مظنونة.. تحيد في جوهرها أغلب الأحيان عن حدود الوسائل القانونية، وتؤول إلى أفعال غاشمة من العنف، مصممة لإلقاء الرعب في قلوب قطاع من الشعب أبدى عدم الرضى. ولقد قاست الإنسانية من إرهاب الدولة أكثر بكثير مما قاسته من أحداث التخريب أو خطف الطائرات كلها مجتمعة. ومن حيث وجهة نظر الإسلام، فإنه بالقطع يرفض ويدين كل أعمال العنف. والإسلام لا يقبل، ولا يبرر، أي فعل من أفعال العنف، سواء ارتكبه فرد أو جماعة أو حكومة.

هناك بالتأكيد مناطق غير مستقرة في العالم الإسلامي، حيث تمارس الجماعات والمنظمات، وأحيانا الحكومات، أساليب الإرهاب والعنف والتخريب. وأنباء فلسطين ولبنان وليبيا وسوريا كثيرا ما تذاع في نشرات الأخبار. وفي غالب الحالات يكون المرتبطون بها من المسلمين، ولكن هناك بعض استثناءات. فمن بين الفلسطينيين مثلاً من أخذوا على عاتقهم القيام بأعمال الإرهاب ضد إسرائيل، وكان فيهم بعض المسيحيين. وتسهيلاً للأمور، أو نقصًا في المعلومات، يلقي الإعلام الغربي بها تحت بند (الإرهابيين المسلمين). يوجد في لبنان إرهابيون من المسلمين، ومن المسيحيين، وكذلك من عملاء إسرائيل وجنودها من اشترك في عمليات إرهابية تروع الأحاسيس الإنسانية، ولكنك فيما يتعلق بما يجري في لبنان لم تسمع أبدًا بإرهاب يهودي أو مسيحي. فكل أعمال الإرهاب تضم معًا وتحزم في ربطة واحدة تحت اسم (الإرهاب الإسلامي).

وفيما يخص سلمان رشدي فإن أي انسان عاقل، له دراية صحيحة بالقرآن الكريم، لا يستطيع أن يتفق مع الإمام الخميني في أن الحكم بالإعدام يقوم على أساس من أي تعاليم إسلامية. فليس هناك عقوبة للكفر لا في القرآن ولا في حديث نبي الإسلام . التجديف ضد الله تعالى ورد ذكره في القرآن الكريم، حيث قال تعالى:

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.. (الأَنعام: 109)

ولم يمنح الحق لأي انسان لينزل عقوبة الموت على من يسيء الأدب ضد الله تعالى. ولقد وقع من اليهود إساءة أدب ضد مريم أم المسيح عيسى ، ذكره القرآن فقال:

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (النساء: 157).

ولم يرد أيضًا ذكر أية عقوبة مشروعة غير العقاب الذي ينزله الله تعالى. ومن المفجع، والباعث على الأسى، أن الإمام الخميني أساء إلى الإسلام بدلاً من أن يدافع عنه، وتسبب في تشويه صورة الإسلام أمام العالم الحر. ولقد رفض شیخ الجامع الأزهر القرار الخميني، وإني على ثقة من أن كثيرًا من المسلمين الشيعة لا يوافقون على موقف الإمام الخميني.

وبالرغم من كل ذلك، فمما يجافي العدل أن نتجاهل المسألة الحقيقية. إنني أشعر بأنه من غير المنصف، ما فعل بعض السياسيين والعلماء، إذ أدانو الخميني بدلاً من إدانة سلمان رشدي، الذي أخرج كتابًا في لغة قاسية متعمدة ومهينة لملايين كثيرة من المسلمين في العالم. ليس ذلك فحسب، بل إن الكتاب ساعد على زرع الألغام تحت علاقات السلام بين المسلمين والمسيحيين. وإذا حكمنا، على ضوء التعليقات المرسلة إلى الصحف الدولية من القراء فإنه قد أطلق قوى التعصب الجنسي أيضًا.

وأُعلنها صريحة واضحة.. أني لا أبرر الإرهاب مهما كان نوعه، أو لونه، أو ملته، أو عاطفته، أو دوافعه وأهدافه التي يدعي الإرهابي تمثيلها. الإسلام عقیدتی ودینی، والاسلام لا يوافق على الفوضى في أي شكل من أشكالها. الإسلام بري براءة تامة من أن يكون الإرهاب من ضمن تعاليمه.

وللمرء أن يتساءل ما هو دين الإرهاب الذي ينظمه ويسانده رئيس عربي بدولارات البترول؟ وما هو دين النشاط الإرهابي التي انغمست فيه دولة عربية في الماضي؟ هل هو الإسلام؟ وإذا كان كذلك، فما الفرق إذن بين الإسلام والاشتراكية العلمية؟ أليست حقيقة واقعة أن الفكر الإسلامي (الأخضر).. هو في حقيقته ومضمونه (أحمر) اللون.. بل شديد الحمرة؟

وإذا كانت الأنشطة الإرهابية للمسلمين الأصوليين في إيران أو بعض الدول العربية تدعى (إرهابًا إسلاميًا) فإن لون إسلامهم يبدو أخضر داكنًا! عجبًا؟ كيف يمكن أن يتناقض مفهوم الإسلام مع نفسه تناقضًا تامًا؟ وكيف يمكن للإسلام أن يكون (أخضر) و (أحمر) في ذات الوقت؟

إذا كان ولا بد فإن الإرهاب في دولة عربية ما يمكن أن يرى فقط على أنه إرهاب وطني متنكر. وبالمصادفة، فإنه يذكرنا بالزعيم الكوبی (فیدل کسترو) الذي قطع شوطًا أبعد كثيرًا من رئيس عربي في ولعه بالعنف والإرهاب. ومع ذلك لا نسمع أبدا أن أفعاله هذه تسمى (الإرهاب المسيحي).

والشيء بالشيء يذكر، فبحث الإرهاب يستحضر أمام مخيلتنا مراحل تاريخية متنوعة. فقد تورطت المسيحية في أفعال قبيحة من الاضطهاد والتعذيب، وأوغل بعض الملوك المسيحيين في أعمال غاشمة من العنف والاضطهاد تحت تأثير نظرية ضالة خاطئة بأنهم يخدمون دين المسيح. وخلال سنوات (الموت الأسود 1348، 1349)، ألم يحرق أعداد كبيرة من اليهود أحياء في بيوتهم؟ وفي زمن محاكم التفتيش الإسبانية سادهم عصر طويل من الرعب تحت توجيه وهدي (!) من بعض رجال الكهنوت المسيحي؟ كثير من النسوة المساكين أنزلت بهن محنة الموت بتهمة السحر. وكانت هناك فكرة عامة محرفة أن الطريقة المسيحية للتعامل مع السحر هو قتل السحرة.

ومهما كانت العلاقة بين هذه الأفعال وبين المسيحية، إلا أن الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية كانت نتاج عصور شديدة الظلمة سادها الجهل تمامًا. متى يبدأ الإنسان فهم الفرق بين سلوك الشخص وتعاليم دينه؟ إذا خلط الإنسان بينهما، وحاول فهم الدين بدراسة سلوك أتباعه، لترتب على ذلك مسائل عديدة؛ فإن مسلك أتباع الدين يختلف من قطر إلى قطر، ومن مذهب إلى مذهب، ومن عمر إلى عمر، ومن شخص إلى آخر.

ما أشد اختلاف سلوك تلاميذ المسيح مع سلوك أتباعه في شيلي على عهد (بينوتشت) Pinochet ، أو في جنوب أفريقيا الذين يزعمون تمسكهم بالقيم المسيحية! من هو الذي يمثل المسيحية؟ هل يحق لنا أن نصف الحربين العالميتين الأولى والثانية التي فقد فيها الملايين أرواحهم بأنها حروب مسيحية ضد الإنسانية؟ في الحرب العالمية الثانية كانت خسائر الروس تربو على ستة ملايين ومائة ألف من الأنفس، أي ما يعادل شعب سويسرا.. ووصلت الخسائر المادية في الممتلكات حدًا من المحال تقديره. فهل تعزى هذه التجاوزات إلى المسيحية؟ أم نستمد فهمنا للمسيحية من أيامها الأولى، عندما كان المسيحي يدير خده الأيمن لمن ضربه على خده الأيسر، والذين قُدموا طعامًا للوحوش، وحرقوا أحياء في بيوتهم، ولم يردوا العنف بالعنف أبدًا؟ أما أنا فأختار هذا الطريق الأخير.

كل عمل حربي في بلد مسلم يعزوه الغرب إلى (الإرهاب الإسلامي). أما إذا وقع في بلد آخر.. فهو نزاع سياسي! لماذا انتشرت معايير العدالة المزدوجة في هذا العصر.. وفي هذه الأيام؟ لقد بدأ المرء  يتساءل فعلاً.. هل هناك تیار خفي من البغضاء تحت هذا السطح الهادئ للحضارة المسيحية؟ أهي مخلفات الحروب الصليبية ضد قوى الإسلام رغم انقضاء القرون؛ أم هي خمر معتقة من سموم المستشرقين تقدم في كؤوس جديدة؟ إن فكرة انتشار الإسلام بالسيف موضع شك كبير. وحروب الحكومات الإسلامية ينبغي أن توزن بمیزان مبادئ السياسة والعلاقات الدولية السائدة في هذه الأيام.. وليس على أساس من الدين.

إن التعبير بالعنف عرض لأمراض كثيرة في المجتمع. والعالم الإسلامي اليوم لا يعرف أي السبل يسلك. فالناس غير راضين عن أمور كثيرة، وليس لهم من وسيلة للسيطرة عليها. إنهم ضحايا الاستغلال بأيدي قادتهم الفاسدين أو العملاء والدمى في يد القوى الخارجية. ولسوء الحظ أن كثيرًا من قادة البلاد الإسلامية أنفسهم يلتمسون من الإسلام ستارًا لأفعال العنف والقهر.. كما حدث في عهد رئیس باكستان الجنرال ضیاء الحق. إن الثورات الدموية تخالف فلسفة الإسلام، وليس لها مجال في بلاد إسلامية.

وبوصفي من رجالات الإسلام، وإمامًا لجماعة روحية.. واجهنا قرن كامل من الاضطهاد.. مائة عام من الإرهاب والقسوة.. ولذلك فإني بكل قوة أدين كل عمل إرهابي، وكل صورة من صورة الإرهاب، لأن عقيدتي الراسخة هي أن الإسلام، وكل دین حقيقي، أيًا كان اسمه، لا يمكن أن يقر باسم الله ارتكاب العنف، وسفك دماء الأبرياء من الرجال والنساء والولدان..

الله الودود، والله السلام

والود لا يمكن أن ينجب البغضاء..

والسلام لا يلد الحرب أبدًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك