قرأت لك

حضرة أويس القرني رحمه الله تعالى

رجل زاهد نهى نفسه عن الأهواء، ووقع في أقصى درجات الحب لله. فانقطع إليه وشغله حبه عمن سواه. وتحكي عنه مكاشفات لا يمكن تأويلها إلا بأن الله يتجلى على محبيه ويكشف لهم بعض الأسرار، ويوحي إليهم ببعض الأنباء والمغيبات كما وقع لكثير من رجال الله وأوليائه المقربين. وهذه نبذة عنه ننقلها من كتاب (الإحياء) بنصها.

قال حجة الإسلام الإمام الغزالي : لما وُلّي الخلافة عمر بن الخطاب قال: أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم. قال: فقاموا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة. فجلسوا. فقال: اجلسوا إلى من كان من مراد، فجلسوا. فقال: اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا كلهم إلى رجلا واحدًا، فقال له عمر: أقرنيٌّ أنت؟ فقال: نعم. فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني، فوصفه له، فقال نعم، وما ذاك تسأل عنه يا أمير المؤمنين، والله ما فينا أحمق ولا أجنّ منه، ولا أوحش منه، ولا أدنى منه. فبكى عمر ثم قال: ما قلتُ ما قلتُ إلا لأني سمعت رسول الله يقول: يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر.

فقال هرم بن حيان لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة، فلم يكن لي هم إلا أن أطلب أويسًا القرني، وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالسًا على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ، ويغسل ثوبه. قال فعرفته بالنعت الذي نعت لي. فإذا رجل لحيم، شديد الأدمة، محلوق الرأس، كث اللحية، متغير جدًا، كريه الوجه، متهيب المنظر. قال: فسلمت عليه فرد علي السلام ونظر إلي. فقلت: حياك الله من رجل، ومددت يدي لأصافحه. فأبى أن يصافحني. فقلت: رحمك الله يا أويس، وغفر لك، كيف أنت، رحمك الله. ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه، إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى. فقال: وأنت حياك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي، ومن دلك عليَّ؟ قال: قلت: الله. فقال: لا إله إلا الله سبحان الله، إن كان وعد ربنا لمفعولاً.

قال: فعجبت حين عرفني، ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني. فقلت: من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم؟ قال: نبأني العليم الخبير! وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك. إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد، وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضًا، ويتجاوز بروح الله وأن لم يلتقوا. يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل. قال: قلت: حدثني رحمك الله عن رسول الله بحديث أسمعه منك. قال: إني لم أدرك رسول الله ، ولم تكن لي معه صحبة. بأبي وأمي رسول الله ، ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك. ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثًا أو مفتيًا أو قاضيًا. في نفسي شغل عن الناس، يا هرم بن حيان.

فقلت: يا أخي، اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك، وادع لي بدعوات، وأَوصِني بوصية أحفظها عنك، فإني أحبك في الله حبا شديدا. قال: فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم بكى، ثم قال: قال ربي، والحق قول ربي، وأصدق الحديث حديثه، وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

حتى انتهى إلى قوله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .

فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه. ثم قال: يا ابن حيان مات أبوك حيان، ويوشك أن تموت. فإما إلى الجنة، وإما إلى النار. ومات أبوك آدم، وماتت أمك حواء، ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن، ومات موسى نجي الرحمن، ومات داؤد خليفة الرحمن، ومات محمد وعليهم، وهو رسول رب العالمين. ومات أبو بكر خليفة المسلمين، ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي.

ثم قال: يا عمراه! يا عمراه. قال فقلت: رحمك الله، إن عمر لم يمت. قال: فقد نعاه إلى ربي. ونعى إلى نفسي. ثم قال أنا وأنت في الموتى كأنه قد كان. ثم صلى على النبي . ثم دعا بدعوات خفيات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان، كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين. فقد نعيت إلى نفسي ونفسك. عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت. وأنذر قومك إذا رجعت إليهم. وانصح للأمة جميعا. وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر، فتفارق دينك وأنت لا تعلم، فتدخل النار يوم القيامة. ادع لي ولنفسك.

ثم قال : اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني من أجلك. فعرّفني وجهه في الجنة، وأدخله علي في دارك دار السلام. واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان، وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير. وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيرًا. واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين. وأجزه عني خير الجزاء.

ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. لا أراك بعد اليوم رحمك الله. فإني أكره الشهرة، والوحدة أحب إلي. إني كثير الهم، شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حيًّا. فلا تسأل عني، ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك أو ترني. فاذكرني وادع لي، فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله. انطلق أنت من ههنا حتى أنطلق أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة، فأبى على وفارقته. فبكى وأبكاني. وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك. ثم سألت عنه بعد ذلك فما وجدت أحدًا يخبرني عنه بشي. رحمه الله وغفر له. (مأخوذ من البشرى)

Share via
تابعونا على الفايس بوك