ألم يأن لنار الإفك أن تخمد؟!

ألم يأن لنار الإفك أن تخمد؟!

التحرير

  • فما هي الأنواع الثلاثة للفتن؟
  • وما هو أخطرها على الفرد والجماعة؟
  • وكيف لنا أن نتصرف حيال ذلك النوع الأخطر من أنواع الفتن؟

___

وَاهِمٌ من يظن أن المشاريع العظيمة تُقام هكذا بمنتهى البساطةِ دون مُعوقات، فما من قصة نجاح إلا وفي سبيل تحققها مُنِيَ صاحبها بإخفاقات ومثبِّطات، وكلما عظمت تطلعات المرء، كانت الحرب عليه أعتى وأشد، فسموُّ الغاية وضراوة الصعوبات ضدان لا يفترقان، كوجهي العملة الواحدة، ووراء الأمر مظهر روحاني لحقيقة فيزيائية نعاينها من حولنا باستمرار في القانون السائد في الطبيعة، ألا نرى أن حال اتزان الأجسام على إطلاقها، من الذرة إلى المجرة، تقتضي وقوعها تحت تأثير قوتين اثنتين متساويتين في المقدار ومتضادتين في الاتجاه؟! فكذلك كلما كانت الغاية الروحانية سامية، كانت محاولات عرقلة بلوغها عاتية بنفس قدر سمو تلك الغاية، وبهذا يتأتى للكون من حولنا أن يتزن وتتجلى فيه آيات الجمال والجلال والكمال، وذلك الأمر بحد ذاته سُنة كونية أجرى الله تعالى عليها كلا العالمين، الروحاني والمادي على حد سواء، ليكون أحدهما على الآخر شاهدًا ودليلًا، فسبحان الله العليم الحكيم!

فلا يخلو يوم المخلوق إذن من فتنة، ولولا تعرضنا للفتن والابتلاءات لما تأتَّى لنا تحصيل الأفضال والإنعامات، يقول تعالى:

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (1)

هناك إذن شبه إجماع عقلي ونقلي على قضية حتمية الفتنة وضرورتها، وهي قضية محل طرح ونقاش على صفحات «التقوى» منذ قرابة عامين، فمن الآن فصاعدًا سنناقش الكيفية المثلى للتعايش مع هذا الواقع، وإن كان مُرًّا، ذلك لأنه حتميُّ الوقوع كما أسلفنا، فمن العبث إذن الحديث عن الحيلولة دون وقوعه، بل إن الإفراط في تصور فكرة الحيلولة دون وقوع الفتن، هو مثل تصور مجتمع «اليوتوبيا» الخيالي، والذي نفت إمكانية تحققه البصيرة النبوية أيضًا، وذلك حين قال النبي :

«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»(2)..

إذن فكيف لنا التعامل مع الفتن والتعايش معها؟!

قبل الشروع في وضع خريطة طريق للعيش في ظروف الفتن، علينا أولًا تحليل أنواع الفتن الثلاث، إذ ثمة فتن من قبيل الصعوبات التي ينبغي على المرء اجتيازها لبلوغ مراداته وتحقيق أمنياته، وهذا هو النوع الأول، أما النوع الثاني من أنواع الفتن فهو المجاهدات، حين يتعرض المرء لإغراءات توقظ غرائزه وثوائره النفسية، فإذا قُدر له الانتصار، بمعونة الله تعالى، على تلك الإغراءات سمت روحه، وكان خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين! وثمة نوع ثالث، وهو موضع اهتمام عدد هذا الشهر، وهذا النوع الثالث من الفتن هو ما ندعوه بالإفك، وهو شروع فرد ما أو فئة ما في قلب الحقائق وتشويهها عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، إضلالاً لفرد آخر أو لفئة أخرى.. فإذا ما ضربنا صفحًا عن النوعين، الأول والثاني للفتن، ووقفنا على النوع الثالث، بوصفه الأخطر، ومع هذا فإنه محكوم عليه قدرًا بالفشل الحتمي وفقًا للسنة الربانية المتضمنة في قوله تعالى:

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (3)،

سنجد أنه أسلوب شيطاني عبثي قديم لمجابهة المشروع الإلهي العظيم، أي الخلافة وفق التفهيم القرآني الصحيح، لا الفهم المشيخي العجائبي ولا نقل الرواة وتصور المؤرخين. والإفك الشيطاني هذا يتكرر في حياة كل أمة ونبيها وصلحائها، لأن هدف الشيطان التخلص من حياة آدم وقتله، فإن لم يتأت له إزهاق روحه كما حدث بين ابني آدم، أنفد جهده في تشويه سمعته، وهذان هما وجها التصرف الشيطاني حصرًا إزاء خليفة الله، وقد أخبرنا القرآن بوجهي التصرف الشيطانيين هذين من خلال قصة يوسف مع إخوته إذ كادوا له، فحكى عنهم القرآن قولهم:

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا (4)..

إذن فهكذا يتصرف الشيطان، وهكذا يأمر أولياءه، أن تتخلّصوا من الخلافة، إما بقتلكم خليفة كعثمان ذي النورين، أو بمحاولاتكم البائسة اليائسة لتشويه سمعتهم، كم حاولتم وما تزالون مع غيره!

كلما كانت الغاية الروحانية سامية، كانت محاولات عرقلة بلوغها عاتية بنفس قدر سمو تلك الغاية، وبهذا يتأتى للكون من حولنا أن يتزن وتتجلى فيه آيات الجمال والجلال والكمال، وذلك الأمر بحد ذاته سُنة كونية أجرى الله تعالى عليها كلا العالمين، الروحاني والمادي على حد سواء، ليكون أحدهما على الآخر شاهدًا ودليلًا، فسبحان الله العليم الحكيم!

قراء «التقوى» الأفاضل، يأتيكم عدد هذا الشهر محملًا بجرعة معرفية عن فتنة الإفك، والتي يمتد تاريخها إلى عصور الإنسانية المبكرة، منذ تمثلت أول مرة في الكيد الشيطاني ضد المشروع الإلهي الهادف إلى ارتقاء نوع الإنسان. وبما أن أحد أبرز العلاجات هو مواجهة الداء بنقيضه، وبما أن الإفك كذب محض، فاجتثاثه من لا يكون إلا بالصدق المحض، لذا نتخير من كلام حضرة خليفة الوقت (أيده الله تعالى بنصره العزيز) خطبة يتحدث فيها عن نموذج مثالي للصدق، حتى صارت الصديقية علمًا عليه، إنه حضرة أبي بكر الصديق ،  بمواقفه المشهودة بجانب النبي في الأوقات العصيبة، وبمقاساته شيئًا غير قليل من إفك المؤتفكة، بصفته والد أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها.

لقد كانت هذه الافتتاحية وسائر مواد عدد هذا الشهر حثًّا على البقاء في ظل الخلافة الذي يسعى الشيطان لإخراجنا منه وإبعادنا عنه، وقد أقسم على ذلك متجاسرًا بين يدي الحضرة، فسجل القرآن تجاسره هذا لنتعلم نحن، يقول تعالى حكاية عن الشيطان الرجيم:

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (5)،

لم يكن قسم الشيطان إلا على احتناك ذرية آدم وإضلالها، كي تبدو في نظر الله غير مستأهلة لوراثة الملك الروحاني، الذي يراه الشيطان وأتباعه ملكًا ماديًّا.. ندعو الله تعالى ألا نكون من تلك الذرية التي يتمكن الشيطان من احتناكها..

قراؤنا الأعزاء، التمسك برداء التقوى لا يكون إلا ببقائنا في ظل الخلافة، وبركة هذا البقاء لا تحصل لنا إلا بالصدق والصديقية، نسأل الله تعالى أن يسهم هذا العدد في شحذ قوة صدقنا وصديقيتنا، لنستحق في نظره عز وجل شرف خدمة نظام الخلافة، آمين.

الهوامش:

  1. (الإِنْسان: 3)
  2. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)
  3. (النجم: 54-55)
  4. (يوسف: 10) (ص: 83-84)
Share via
تابعونا على الفايس بوك