حقيقة فتنة الإفك والسعي للنيل من مقام النبوة والخلافة

حقيقة فتنة الإفك والسعي للنيل من مقام النبوة والخلافة

الحافظ منور

كاتب وباحث إسلامي
  • ما تفاصيل تلك المقدمات وملابسات الحادث؟
  • ما الدروس التي نخرج من قراءة فتنة الإفك بها؟

 __

مرور الإنسانية، جماعات وأفراد، بالفتن الضارية أمر حتمي لا يختلف عليه عاقلان، وهذه السنَّة الجارية تتجلى بوضوح في تاريخ جماعات المؤمنين عبر العصور، ولعلنا نتذكر ما أصاب أمتنا الإسلامية في عصر جماعة المؤمنين الأولى من فتنة شديدة، والتي باتت تُدعى بـ «حادثة الإفك»، تلك الفتنة التي كانت وما تزال درسًا قائمًا مستفادًا، حتى لقد ورد ذكرها في التنزيل الحكيم، في قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1).

المنافقون وقُود الفتنة

كان ذلك في العام الخامس للهجرة حين كانت الأحوال في المدينة المنورة قد هدأت وساد الأمن في الظاهر، وكان خطر الهجوم الخارجي على المسلمين قد بدا أنه قد زال؛ لأن الكفار كانوا قد انهزموا في العام نفسه بعد محاصرتهم للمدينة مع أربعة وعشرين ألف مقاتل، وبشر النبي المؤمنين بأن الكفار لن يجرؤوا على مهاجمة المدينة بعد اليوم، بل سوف تكون الكرَّة للمسلمين فيخرجوا للدفاع عن أنفسهم. وبذلك كانت المدينة تنتظر بداية الفتوحات، ولكن المنافقين كانوا يحترقون حسدًا وكمدا على نجاحات المسلمين، وكانوا يريدون إحداث الفتن داخل مجتمع المسلمين.

ومن الثابت تاريخيا عن تلك الفترة أن أهل يثرب كانوا قبل قدوم النبي إلى المدينة يريدون أن يُنَصِّبوا عبد الله بن أبي بن سلول سيِّدًا عليهم، ولكن بعد الهجرة أجمع الأوس والخزرج واليهود على أن يكون النبي سيدهم، مما خيب آمال عبد الله بن أبي بن سلول.

ثم في العام الثاني الهجري حين انتصر المسلمون على الكفار في بدر أسلم عبد الله بن أبي بن سلول أيضًا في الظاهر، ولكنه ظل يتآمر على المسلمين والنبي سرًّا وجمعَ حوله فئة من المنافقين. وظهر نفاقهم للعيان في غزوة أُحد حين خذل عبد الله بن أبي بن سلول المسلمين ورجع مع سبعمائة من أصحابه قبل وقوع المعركة.

وفي الفترة ذاتها نُفيت من المدينة قبيلتا اليهود، أي بنو قينقاع وبنو النضير بسبب خيانتهم، وقد أشعل هذا الحادث أيضًا حنق اليهود على المسلمين، فكثُر بين اليهود أعوانُ عبد الله بن أبي بن سلول. ثم حين عُوقب يهود بني قريظة أيضًا بسبب خيانتهم في غزوة الأحزاب خابت آمال المنافقين كليا، وأدركوا بشدة أن الإسلام يتقدم يوما بعد يوم ولا يمكن إيقافه. ولقد رأوا أيضًا أن المسلمين لا ينتصرون بسبب كثرة العدد والعتاد، بل بسبب إيمانهم بالله وأخلاقهم الحسنة، وأن الذي علّمهم هذه الأشياء كلها هو النبي ، لذا حاكوا خطة الدعاية المزيفة ضد قائد المسلمين بالطعن في ذات النبي ونشطوا للهجوم المشين على عِرض النبي وعرض أقاربه وأحبابه. وهذا ما أشار الله تعالى إليه في القرآن الكريم قائلا:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (2)

ولقد وجدوا في العام الخامس الهجري فرصة الطعن حين تزوج النبي ابنة عمه السيدة زينبَ رضي الله عنها بعد طلاقها من زيد الذي كان النبي  قد اتخذه ابنًا. ولما تزوجها النبي بأمر من الله تعالى أثار المنافقون ضجة كبيرة وقالوا:كيف تزوج مُطَلَّقة متبناه؟ مع أن هذا الزواج كان بأمر الله تعالى للقضاء على عادة سيئة عند العرب حيث كانوا يظنون أن المتبنَّى مثل الابن الحقيقي.

الحاصل أن فئة المنافقين كانوا يتحينون الفرص للطعن في رسول الله وأصحابه، وفي العام السادس للهجرة سنحت لهم فرصة الطعن في أم المؤمنين عائشة وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم إضافةً إلى رسول الله . وبيان ذلك أنه في غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) تنازعَ جهجاه مولى عمر مع بعض الأنصار في أخذ الماء من بئر في الطريق، وكاد النزاع أن يؤدي إلى قتال بين المهاجرين والأنصار. وفي تلك المناسبة قال اللعين عبدُ الله بن أُبي كلمات بذيئة ضد النبي قد سجلها الله عز وجل في سورة «المنافقون» في قوله تعالى:

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (3)

ومن الثابت تاريخيا عن تلك الفترة أن أهل يثرب كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يريدون أن يُنَصِّبوا عبد الله بن أبي بن سلول سيِّدًا عليهم، ولكن بعد الهجرة أجمع الأوس والخزرج واليهود على أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سيدهم، مما خيب آمال عبد الله بن أبي بن سلول.

سورة النور، وإعلان مبادئ المجتمع الإسلامي الطاهر

وفي الغزوة نفسها وقعت واقعة جعلت عبد الله بن أبي بن سلول وأعوانه يبسطون ألسنتَهم ويلصقون بأم المؤمنين عائشة من التهم القذرة ما انفطرت به قلوب المؤمنين ورسولهم وحدث اضطراب شديد في حياتهم. وبعد ثلاثين يوما من هذه الحادثة التي تسمى حادثة الإفك أنزل الله تعالى في سورة النور براءة عائشة رضي الله عنها. علمًا أن في السورة نفسها وعد الله المؤمنين بالخلافة في قوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (4) ،

وقد حقق الله وعده هذا أول مرة بخلافة أبي بكر بعد وفاة النبي . وفي هذه السورة وضع الله تعالى من خلال إعلان براءة ابنة أبي بكر مبادئ وقواعد للمجتمع الإسلامي الطاهر. باختصار، إن في ذكر براءة عائشة ووعد الخلافة في سورة النور معًا لإشارةً إلى أن مؤامرة الإفك كانت في الحقيقة هجومًا على القيادة الإسلامية ونظام الخلافة.

لقد قال حضرة المصلح الموعود : يكشف لنا أدنى التدبر أنه كان هناك شخصان كان بإمكان المنافقين والأعداء الانتقام منهما باتهامهم عائشة رضي الله عنها، وهما الرسول وأبو بكر ، إذ كانت زوجةَ الأولِ وابنةَ الثاني…. إنما الخطر الذي كانوا يستشعرونه أنهم ربما لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم حتى بعد وفاة الرسول أيضًا، إذ كانوا يرون في أبي بكر خطرًا يهددهم بعد الرسول ، فهو الشخص الوحيد الذي كان أهلاً لأن يخلف النبي . فاتهموا عائشة رضي الله عنها لتسقط هي في نظر الرسول وبالتالي يفقد أبو بكر مكانته المرموقة في نظر المسلمين، فيتبرؤون منه ولا يكنّون له الحب والاحترام اللذين يبدونهما نحوه، وبالتالي لا يبقى هناك أي إمكانية لأن يخلف هو الرسولَ بعد وفاته. ولهذا السبب قد ذكر القرآن الكريم موضوع الخلافة بعد الحديث عن واقعة الإفك(5).

وكتب حضرة مرزا بشير أحمد وهو يبين خلفية واقعة الإفك: لم تكن الغاية وراء هذا مجردَ الهجوم على شرف أكثر النساء ورعًا وصلاحًا فحسب، بل أيضًا ليقلّلوا من احترام النبي وليزعزعوا أساسات المجتمع المسلم. وقد قاموا بهذه الدعاية الشريرة بطريقة تمكنوا بها من اصطياد بعض المسلمين المخلصين البسطاء في شبكتها الكبيرة.(6)

قد نقل البخاري في صحيحه قصة الإفك المؤلمة على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (7)

دروس مستفادة من فتنة حادث الإفك

الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه، والإنسان المنصف إذ يقرأ تفاصيل حادثة الإفك كما أوردها البخاري في صحيحه على لسان حضرة أم المؤمنين عائشة الصديقة (رضي الله عنها) (7)، فإنه يخرج بمجموعة من العبر المستفادة التي من شأنها أن تعزز مناعة المجتمع المسلم ضد الفتن المماثلة في المستقبل، منها مثلا أن الله قال عن حدث الإفك الشرير هذا:

لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .

ولا شك أنه كان خيرا من حيث العاقبة والمآل، لكن يجب أن نتأمل الدروس التي استفادها المؤمنون.

الحق أن هذا الحادث يتضمن دروسًا اجتماعية وأخلاقية وقانونية عميقة للمؤمنين، وهذه الدروس جاء تفصيلها، في سورة النور عموما وفي الآيات عن الإفك خصوصا، كالآتي:

الدرس الأول في هذا الحدث الذي سمَّاه القرآن بالإفك، (أي الكذب والافتراء) أن القرآن الكريم وصف المتهِمين باطلًا بأنهم هم الكاذبون، وعدَّ شهادتهم غير مقبولة في المجتمع الإسلامي للأبد.

الدرس الثاني في حدث الإفك الذي كان ابتلاء قوميا قد هزَّ مسلمي المدينة هزًّا عنيفًا، هو أن المسلمين يجب ألا يعتبروا هذا الابتلاء شرًّا، بل هو خير لهم. وأيُّ شك في أنه كان خيرًا لهم من حيث العاقبة الحسنة، حيث نزلت المبادئ والقواعد لطهارة المجتمع الإسلامي والدفاع عن الأبرياء في المستقبل، ومن أجل ذلك تحملت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها كل هذا الأذى النفسي طويلًا وقدمت تضحية عاطفية جسيمة، وسجلت أروع نماذج الصبر والثبات في هذا الابتلاء، الأمر الذي لم يورثها أفضالَ الله فحسب، بل نزلت رحمة الله وفضله على عائلتها كلها أيضًا. فقد خلع الله على والدها الجليل سيدنا أبا بكر الصديق الأكبر قميص الخلافة على رغم أنف المنافقين.

الدرس الثالث في هذا الحدث هو أن اتهام امرأةٍ بريئة أو رجلٍ بريء بالفاحشة دون أي إثبات، جريمةٌ لها عقوبة. لا بد لإثبات التهمة من تقديم أربعة شهداء من المسلمين الأمناء، وإن لم يقدر المتَّهِمون على تقديم الشهداء، فيجب أن يُجلَدوا ثمانين جلدة. فقد تمّ تنفيذ عقوبة القذف بهؤلاء الصحابة والصحابيات وهم حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة، إلا رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي لم يتم تنفيذ العقوبة به لأسباب ومصالح، منها قول الله:

وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (8) ،

فأمرُه كان إلى الله تعالى.

الدرس الرابع  المستفاد من الحادثة هو أن الله تعالى أنزل حكم اللعان لحل معضلة تهمة الرجل امرأته بارتكاب الفاحشة، أي: إن لم يكن لأحد الزوجين المتّهِمين ما يثبت ادعاءه

فَشَهَادَةُ أَحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9).

وكلمة «لعنة الله على الكاذبين» إنما هي دعاء في الإسلام بأن يُحرَم الكاذبُ من رحمة الله ويحل عليه غضبه. لذلك فقد فرض القرآن الكريم على النساء والرجال -الذين يُتّهَمون في جريمة ولا يوجد شاهد على جريمتهم لإنزال العقوبة عليهم بناء على شهادته- أن يحلفوا يمينا مقرونا باللعنة لكي تكون نتيجة اليمين مثل نتيجة شهادة الشاهد، أي نزول العقوبة وغضب الله على الكاذب(10).

وكتب حضرة مرزا بشير أحمد رضي الله عنه وهو يبين خلفية واقعة الإفك: لم تكن الغاية وراء هذا مجردَ الهجوم على شرف أكثر النساء ورعًا وصلاحًا فحسب، بل أيضًا ليقلّلوا من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وليزعزعوا أساسات المجتمع المسلم. وقد قاموا بهذه الدعاية الشريرة بطريقة تمكنوا بها من اصطياد بعض المسلمين المخلصين البسطاء في شبكتها الكبيرة.

ولا بد من التوضيح هنا بخصوص تهمة الاغتصاب وهو أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المدة التي مضت على الحادث قبل توجيه الاتهام. لقد نوقشت هذه المسألة في مجلس الإفتاء، ثم قُدّم تقريرها إلى الخليفة الرابع رحمه الله في 23 أبريل 1998، وهو كما يلي:

«ينبغي على المرأة أن تُبلغ القضاء بأسرع ما يمكن بتعرضها للاغتصاب، وإذا أخرت الإبلاغ لاضطرار ما أو خوفًا من التشهير فلا يعني ذلك أنه لن يتم الاستماع إلى قضيتها. ولكنْ إنْ ضاعت بعض الشهادات خلال هذه المدة فإن المدعية نفسها تتحمل ضررها وتكون هي المسؤولة عنها. غير أن من واجب القضاء أن يصدر حكمه بعد استعراض أسباب هذا التأخير.»

فقال الخليفة الرابع رحمه الله معلّقًا على هذا التقرير:

«لماذا لا يكون الاستماع إلى قضيتها أمرًا مردودا إنْ هي أخّرتْ إبلاغ الحكام بالأمر؟ كان النبي يستعجل اتخاذ الخطوة المناسبة في مثل هذه القضايا… فإن هي قررت رفع الأمر متأخًا فينبغي ألا تُعطَى أي حق للإشارة إلى أي شيء حصل سابقًا في الماضي. إذا كان المعتدي قد كرر معها هذه الفعلة في وقت قريب أيضًا -رغم منعها له- فعليها أن ترفع الشكوى فورًا حول الحالة الأخيرة فحسب، لتُعتَبر تلك شكوى فورية، وإلا فمن يدري ما الذي كانا يفعلان طوال تلك المدة، وربما كانا يفعلانه بالتراضي بينهما.»(11)

الدرس الخامس في واقعة الإفك هو إحسان الظن بالمؤمنين واجتناب سوء الظن، وهو خُلق هام للحفاظ على طهارة المجتمع وعفته ولإرساء السلام فيه، كما ورد في سورة النور عن المؤمنين عند سماعهم هذا الاتهام:

لوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12).

أي كان ينبغي أن يرفضوه قائلين: هذا إفك مبين.

وورد في آية أخرى بعدها على نحو التأسف:

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ  (31)

والدرس السادس هو أنه ينبغي للمؤمن ألا يذكر للناس أمرًا ليس له علم كامل به، وذلك لقوله تعالى:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (14)

 

الدرس السابع الذي نتلقنه هو أن مثل هذه الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة تؤدي إلى إشاعة الفاحشة في المجتمع، وهي جريمة كبرى تقضي على مهابة الحسنة وتشجّع السيئة وتهدد أمن المجتمع وسلامه. لذلك فإن مثل هؤلاء المتهِمين يتلقون العقاب في الدنيا والآخرة، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

 

الدرس الثامن هو أن الله تعالى حفظَ المسلمين من النتائج السيئة لهذه الواقعة بفضل منه ورحمة، وبدّل هذا الشر خيرًا. لقد تاب المتهِمون بعد أن نالوا العقوبة وتقبل الله تعالى توبتهم بفضل منه ورحمة ورأفة بهم، وهو ما أشارت إليه آية (النور: 11)، وكانت نتيجة هذا الفضل والرحمة أنه تعالى أنزل الشرائع والأحكام لسد باب مثل هذه الأحداث، وهو ما أشارت إليه آية (النور: 20).

ثم كانت هناك نصيحة لأصحاب الفضل من أمثال أبي بكر بأن لا يكفّوا عن الإنفاق على المحتاجين والمعوزين مثل مسطح بن أثاثة بعد قبول توبتهم، وأن يواصلوا إسداء الإحسان إلى مثل هؤلاء الأقارب الجهلاء فليعفوا وليصفحوا عنهم.

يقول حضرة مرزا بشير أحمد عن القوانين المستنبطة من واقعة الإفك:

أولا: ينبغي أن يكون الظن الأساس بكل إنسان هو العفة والعصمة، أي يجب اعتبار كل إنسان عفيفًا ما لم يكن هناك دليل قاطع ضد عفته وعصمته.

ثانيًا: إن كرامة الإنسان وشرفه شيء ثمين جدًا، وأن حمايتهما أهم من كل الأشياء الأخرى في العالم.

ثالثًا: نشرُ الحديث عن الفحشاء يقلل الإحساس بشناعة السيئة ويدمر أخلاق المجتمع، لذلك لا بد من سد بابه.

رابعا: كما أن الواجب أن يعاقَب مرتكب جريمة الزنا بعقوبة رادعة، كذلك من المهم أيضًا أن لا ينجو من العقاب الشديد مَن يتّهم الآخرين كذبًا وزورًا.

قد تكون مسألة عقوبة مَن يتهم الآخرين كذبا وزورا موضعَ تساؤل عند بعض البسطاء فيقال: لماذا يتعرض هذا الشخص لمثل هذه العقوبة الشديدة؟

ولكن الحق أن إلصاق هذه التهمة بأحد كذبا وزورا لفعلةٌ خطيرة وشنيعة وضارة، لأن ذلك يعرّض أثمنَ وأغلى شيء عند هذا البريء لهجومٍ ظالم غير مبرر، كما أن لهذا الاتهام تأثيرًا سيئًا للغاية على أخلاق المجتمع. ذلك لأن مثل هذه الأمور لو نوقشت في المجتمع نقاشا حرا، فإن شناعة سيئة الزنا سوف تتضاءل عند الناس حتمًا، وستميل الطبائع الضعيفة نحو الأفكار القذرة، وسيسمَّم الجو الأخلاقي للمجتمع والأمة. لذلك فكان من الضروري فرض عقوبة رادعة على من يوجهون هذه التهمة لأحد كذبا وزورا، حتى لا يجرؤ على توجيه مثل هذه التهمة إلا الصادق الذي كانت لديه أدلة مقنعة حقًا.

وقد ينتاب أحدًا شبهةٌ بأن الإسلام قد شدّد أكثر من اللازم فيما يتعلق بالشهود على هذه الجريمة، أي أنه فرض أن يؤتى بأربعة شهود عيان عليها، وهكذا جعل إثبات القضية صعبا للغاية.

فليعلم صاحب هذه الشبهة أنها تنم عن جهله. فما دام تحديدُ طريقة مرضية لإثبات كل جريمة ضروريا، فكم بالحري أن توضع طريقة قوية قطعية يقينية محددة لإثبات هذه التهمة الخطيرة الموجهة إلى عرض الإنسان الذي هو أغلى وأثمن ما عنده، خاصة لأنها إذا كانت التهمة باطلة فإنها تترك أثرًا خطيرًا وضارًّا للغاية على سلام المجتمع وأخلاق الأمة وعاداتها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المبدأ السائد لتشريع القوانين في جميع أنحاء العالم هو: أنْ لا يدان المجرم خيرٌ مِن أن يدان البريء .” (15).

الهوامش:

  1. (النور: 12)
  2. (الأحزاب: 61)
  3. (المنافقون:9)
  4. (النور 56)
  5. (التفسير الكبير ج 6)
  6. (سيرة خاتم النبيين ص567)
  7. راجع: (البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك) “نص الحديث منشور كاملا في خطبة الجمعة لهذا العدد
  8. (النور 12)
  9. (النور 7-10)
  10. (نزول المسيح، الخزائن الروحانية ج18 ص 75 الهامش)
  11. (قول الخليفة الرابع رحمه الله في 7 مايو 1998)
  12. (النور 13)
  13. (النور 17)
  14. (النور 16)
  15. (سيرة خاتم النبيين لمرزا بشير أحمد ص 568- 570)
Share via
تابعونا على الفايس بوك