سيرة المهدي - الجزء 1 الحلقة 18

سيرة المهدي – الجزء 1 الحلقة 18

مرزا بشير أحمد

  • أصل عائلة المسيح الموعود
  • أصل قرية قاديان
  • ذكر أجداد المسيح الموعود ووالده
  • ولادة المسيح الموعود وتغير أحوال عائلته
  • وفاة والده
  • حياة المسيح الموعود عليه السلام

__

  1. بسم الله الرحمن الرحيم. أقول: لقد كتب المسيح الموعود في مواضع كثيرة من كتبه سوانحَ عائلته، ولكن أكثرها تفصيلا ما أدرجه في مؤلَّفه “كتاب البرية”. لا يمكن القول بأن هذا البيان قد احتوى كل الأمور الهامة ولا أنه يشمل جميع المعلومات التي ذكرها المسيح الموعود في أماكن أخرى ولكن بما أنه أكثر تفصيلا، كما كتبه حضرته بنفسه بإشارات خاصة من الله تعالى لذلك أقدّم للقراء الكرام بعض المقتبسات منه. يقول حضرته:

“الآن إن سوانحي كالتالي: اسمي غلام أحمد واسم والدي غلام مرتضى واسم جدي عطا محمد واسم جد والدي غل محمد، وكما قيل إن قومي برلاس من المغول*  ويتبين من وثائق آبائي القديمة التي ما زالت محفوظة إلى الآن أنهم أتوا إلى هذا البلد من “سمرقند” وكان معهم قرابة مائتي شخص من أتباعهم وأهليهم وخدَمِهم، وكانوا قد دخلوا هذه البلاد بصفة الزعماء المحترمين، وحطّوا رحالهم في هذه البلدة الواقعة على بُعد خمسين ميلا تقريبا من لاهور إلى جهةِ الشمال الشرقي، التي كانت يومذاك أرض قفر، فعمروها وسموها “إسلام بوره” فاشتهرت فيما بعد باسم “إسلام بور قاضي ماجهي”، ونسي الناس رويدا رويدا اسم “إسلام بور”، وبدلا من “قاضي ماجهي” بقي اسم “قاضي” ثم تحول أخيرًا إلى “قادي” ومنه تحول إلى قاديان. وسبب تسميتها بـ “قاضي ماجهي” أن هذه المنطقة – التي طولها ستون ميلا تقريبا – كانت تسمى في ذلك الزمن بـ”ماجْهـ”، ولعل السبب في ذلك أنها منطقة تكثر فيها الجواميس، و”ماجهـ” في اللغة الهندية هو الجاموس. فلما كان آبائي قد نالوا الحكم على هذه المنطقة بالإضافة إلى قرى العقار، فقد اشتهروا بلقب “القاضي”. لا أعرف لماذا ولأي سبب أتى آبائي من سمرقند إلى هذا البلد، إلا أن الوثائق القديمة تفيد بأنهم في ذلك البلد أيضا كانوا كِرام القوم ومن الزعماء ومن العائلات الحاكمة، ولعلهم قد اضطروا للهجرة من هناك لخصومة قومية أو تفرقة ما، وبعد الوصول إلى هنا قد أعطوا من قِبل المَلك كثيرا من القرى عقارا لهم، فقد تأسست لهم ولاية مستقلة في هذه المنطقة.

في أوائل عهد السيخ كان والد جدي “ميرزا غل محمد” زعيمًا مشهورا ذائع الصيت في هذه المنطقة، وكان عنده 85 قرية، وانفلت من سيطرته عدد لا بأس به من تلك القرى نتيجة الهجمات المتواترة للسيخ، مع ذلك كان كريمًا وجوّادا فوهب بعضًا من هذا القدر القليل من القرى لبعض الزعماء المسلمين المشتتين، وهي ما زالت تحت سيطرتهم. باختصار، كان زعيما مستقلا في منطقته في زمن التفرق وحكم الطوائف. وكان قرابة 500 شخص يأكل على مائدته دومًا، أي أحيانا أقل من هذا العدد وأحيانا أكثر، وكان يقيم عنده مئة من العلماء والصلحاء وحفاظ القرآن الكريم وكان قد حدد لهم منَحًا شهرية، وكان يكثر في مجلسه ذكرُ ما قال الله وقال الرسول… ومن العجيب أن عددا من كراماته قد اشتهرت لدرجة يشهد لها فوج كبير من أعداء الدين أيضا. باختصار، كان بالإضافة إلى الولاية والإمارة مشهورا جدا بأمانته وتقواه وهمته وعزمه القوي، وتأييده للدين، ومواساته للمسلمين وكان جميع الحاضرين في مجلسه أتقياء وصلحاء يكنّون الغيرة للإسلام ويجتنبون الفسق والفجور، وكانوا شجعان وذوي هيبة، فقد سمعت كثيرا من والدي المرحوم أن أحد وزراء الدولة المغولية اسمه “غياث الدولة” زار قاديان في تلك الأيام وحين لاحظ حسن إدارة المرحوم ميرزا غل محمد، وتيقظه وفطنته وعلو همته وعزيمته وثباته ورجاحة عقله وفهمه وحماسه لنصرة الإسلام وتقواه وطهارته والوقار الذي يتسم به مجلسه؛ ولما وجد مجلسه بلاطا صغيرا مليئا بأناس ثابتين ومتفرسين وعقلاء وصالحين وشجعان، اغرورقت عيناه وقال: لو كنت أعلم أن رجلاً من العائلة المغولية المتحلّي بهذه الصفات الضرورية لإدارة أمور السلطنة يسكن في هذه البرية لسعيتُ – إنقاذًا للمملكة الإسلامية-  أن يعتلي هو العرش في دلهي في أيام الكسل وعدم الجدارة وسوء الإدارة للملوك الجغتائيين.

لعله لا يخلو من الفائدة الذكر هنا بأن جد والدي أي “ميرزا غل محمد” توفي بمرض الحازوقة المصحوبة بأعراض أخرى، وكان الأطباء باتفاقهم قد وصفوا له عند غلبة المرض استخدام خمر لبضعة أيام علاجًا له من أجل شفائه من هذا المرض، إلا أنهم لم يكونوا يتجرأون على أن يقولوا ذلك أمامه، وأخيرا قال له أحدهم بكلمات لطيفة فردّ له: إذا كان الله قد قدر لي الشفاء فهناك أدوية أخرى كثيرة من خلقه ، أما هذا الشيء النجس فلا أريد استخدامه، وأرضى بما قدر الله لي وقضى، وأخيرا توفي بعد بضعة أيام بسبب هذا المرض. صحيح أن الموت كان قد قدّر له إلا أن طريقته المبنية على التقوى أصبحَ تذكارًا للأبد أنه فضَّل الموت على شرب الخمر…

وملخص القول، لما توفي والد جدي خلَفَه نجلُه الرشيد أي جدي مرزا عطاء محمد… وفي زمنه غلب السيخ بحكمة الله ومصلحته في القتال. لقد سعى جدي سعيه لحماية ولايته إلا أنه خاب وأخفق إذ لم يكن قضاء الله وقدره يوافق مشيئته فلم يتكلل أي سعي له بالنجاح، وظل السيخ يبسطون سيطرتهم يوما بعد يوم على قرى ولايتنا حتى ما بقي عند جدي إلا قرية قاديان، وكانت قاديان في ذلك اليوم على شاكلة حصن إذ كان فيها أربعة أبراجٍ كبيرة يسكنها أفراد الجيش وفيها عدد من المدافع، وكان السور الخارجي يبلغ ارتفاعه إلى ما يقارب عشرين قدما، وعرضه يتسع لجريِ ثلاث عربات بحذاء بعضها. واتفق أن دخل قاديانَ حزبٌ من فرع السيخ “رام غرهي” ثم استولوا عليها، فأصيب أجدادي بدمار كبير حيث أُسِروا على شاكلة بني إسرائيل ونهبت أموالهم وأمتعتهم كلها، وهُدم عدد من مساجدهم وبيوتهم الفارهة، وقُطعت بساتينهم بدافع الجهل والتعصب، وحولت بعض مساجدهم إلى “دهرم ساله” أي معبدًا للسيخ، ولا زال أحد هذه المساجد تحت سيطرة السيخ إلى الآن. في ذلك اليوم أحرقت لأجدادي مكتبة أيضا تضم خمسمائة مخطوطة قديمة للقرآن الكريم وأشعلت فيها النار بمنتهى الإساءة. وأخيرا أمر السيخ أجدادي بالخروج منها لغايةٍ ما، فنُفي جميع الرجال والنساء في العربات فلجأوا إلى إحدى الولايات في البنجاب، وبعد مدة قصيرة سُمّم جدي بمكيدة أولئك الأعداء، ثم في أواخر عهد سلطة “رنجيت سنغ” عاد والدي المحترم مرزا غلام مرتضى إلى قاديان فأعيدت إليه خمس قرى من قرى والده لأن رنجيت سنغ كان قد شكل حكومة قوية بعد سيطرته على معظم الولايات الصغيرة، فبذلك صارت جميع قُرانا أيضا تحت سيطرة رنجيت سنغ الذي امتدت سلطته من لاهور إلى بيشاور من جهة ومن الجهة الأخرى إلى لدهيانة. باختصار قد تم القضاء على ولايتنا القديمة وبقيت بحوزتنا خمس قرى فقط في نهاية المطاف، ومع ذلك كان والدي المحترم مرزا غلام مرتضى زعيما مشهورا في تلك المنطقة نظرا لانتمائه للعائلة العريقة، وكان يدعى دومًا في بلاط الحاكم العام ضمن الزعماء الحائزين على الكرسي. لقد اشترى من جيبه الخاص خمسين فرسا ووهبها مع فرسانها للحكومة الإنجليزية في عام 1857م، كما وعد الحكومة بتقديم مثل هذه المساعدة في المستقبل أيضا كلما اقتضت الحاجة إليها، وكان قد تلقى رسائل الإعجاب الرائعة من حكام الحكومة الإنجليزية في عصره. ولقد ذكره السير ليبل غريفن في كتابه “تاريخ أمراء البنجاب”. باختصار، كان حائزًا على إعجاب كبير لدى الحكام، وكان بعض الحكام مثل المفوض ونائب المفوض يأتون إلى بيته بين فينة وأخرى ويلتقون به تقديرًا له.

هذا هو بيان أحوال عائلتي بإيجاز، ولا أرى أي سبب للإطالة أكثر…

لقد واجه والدي قبل ولادتي مصائب كبيرة، وذات مرة اضطر لقطع مسافات شاسعة في الهند مشيا على الأقدام، أما في أيام ولادتي فقد تبدل زمن ضيقه بالفرج والسعة، فمن رحمة الله أني لم ألق نصيبا من زمن مصائبه، كما لم أنلْ شيئًا من ولاية وسلطة أجدادي…

بدأت دراستي في الطفولة على هذا النحو أني عندما بلغت السادسة أو السابعة من عمري وُظِّف معلمٌ فارسي لتعليمي فعلمني قراءة القرآن الكريم وعددا من الكتب الفارسية وكان اسم ذلك الصالح فضل إلهي. فلما أصبحتُ ابن عشر سنين تقريبا عُين لتربيتي أستاذ في اللغة العربية واسمه فضل أحمد، وأعتقد أن دراستي هذه لما كانت بذرة ابتدائية لفضل الله لذلك كان “فضل” هو الاسم الأول للأستاذَين المذكورَين. فالمولوي فضل أحمد الذي كان متدينا وشيخا جليلا، ظل يدرسني بجهد واهتمام كبيرَين، ودرست على يده بعض كتب الصرف وبعض قواعد النحو. وبعد ذلك حين بلغ عمري 17 أو 18 عاما تعلمت بضع سنين على يد شيخ آخر يدعى “غل علي شاه”، كان والدي قد وظفه وعيّنه لتدريسي في قاديان. ولقد تلقيت منه العلوم المتداولة آنذاك من النحو والمنطق والطب قدرَ ما أراد الله ، كما درست بعض كتب الطب من والدي أيضا إذ كان خبيرا في الطب وكان طبيبا حاذقا. وكنت يومذاك منكبًّا على قراءة الكتب وكأنني لم أكن في هذا العالم. كان والدي يوصيني مرة بعد أخرى بالتقليل من مطالعة الكتب، لأنه كان يخشى بدافع اللطف المتناهي أن تختل صحتي، كما كان يقصد من ذلك أن أبتعد عن هذا الأمر وأشاركه في همومه وغمومه. وهذا ما حدث أخيرا، لأن والدي كان يرفع القضايا في المحاكم الإنجليزية لاستعادة بعض القرى لآبائه، وجعلني أنا أيضا أشترك في هذه القضايا، وظللت لمدة طويلة مشغولا في هذه الأعمال، ويؤسفني جدًّا أن كثيرا من وقتي الغالي ضاع في هذه النزاعات السخيفة. وبالإضافة إلى ذلك شغَّلني والدي في الإشراف على أمور الأراضي الزراعية في حين أنه لم يكن يلائم طبعي مما كان يعرضني دوما لسخط والدي. صحيح أن مواساته ولطفه كان علي كبيرًا، لكنه كان يريد أن يجعلني مهتما بالدنيا كسائر أهل الدنيا، بينما كان طبعي ينفر من ذلك نفورا كبيرًا.

ذات مرة كان المفوض قادما إلى قاديان في زيارة فطلب مني والدي مرارا بأنه يجب أن أخرج لاستقباله إلى مسافة ميلين أو ثلاثة أميال، لكن طبعي كره ذلك، كما كنت مريضًا أيضا فلم أقدر على الخروج معه، فهذا الأمر أيضا جلب علي سخطه. كان والدي يريد أن أنهمك في الأمور المادية كل حين وآن، الأمر الذي لم يكن يتأتى مني بحال من الأحوال؛ ومع ذلك أعتقد أنني لحسن النية ولنيل ثواب الطاعة فقط لا لكسب الدنيا أبدًا قد محوت نفسي في الامتثال لأوامر والدي، وكنت أنصرف إلى الدعاء له أيضا، وكان يراني بيقين مطلق أني برّ بالوالدين، وكان أحيانا يقول:

“إني لمجرد الرأفة ألفِتُ انتباه ابني هذا إلى الأمور الدنيوية وإلا فأنا أعلم بأن ما يشغل باله – أي الدين-  هو الطريق الصحيح وهو الحق، أما نحن فنضيع أعمارنا عبثا.”

كذلك قضيت -أثناء أيام تربيته لي- بضعةَ أعوام من عمري في الوظيفة الإنجليزية مع كراهتي الطبعية لها، وأخيرا لما كان يشق عليه بعدي عنه قدمت الاستقالة بأمر منه وكان ذلك عين مرادي، وتخليت عن هذه الوظيفة المنافية لطبعي، وحضرت إلى والدي المحترم. ولقد علمت من خلال هذه التجربة أن معظم الموظفين يعيشون حياة قذرة.

على أية حال، لما حضرت مرة أخرى إلى والدي انشغلت من جديد في أمور الزراعة والاعتناء بالأرض، إلا أني كنت أقضي معظم أوقاتي في تدبر القرآن وقراءة التفاسير والأحاديث، وكنت أحيانا أقرأ تلك الكتب على مسامع والدي أيضا، وكان والدي بسبب فشله وعدم تحقق آماله يبقى حزينا ومهموما في أغلب الأحيان، كان قد أنفق قرابة سبعين ألف روبية على متابعة القضايا وكانت الحصيلة الإخفاق والفشل فقط، لأن قرى آبائنا كانت قد انفلتت من أيدينا منذ مدة، وكانت استعادتها أُمنية زائفة، وبسبب فشله هذا كان والدي المرحوم يقضي حياته في دوامة عميقة للهمّ والحزن والاضطراب. أما أنا فباطِّلاعي على هذه الأوضاع وجدت فرصة لإحداث تغير طاهر، لأن الحياة المريرة لوالدي كانت تعلِّمني درسا في الحياة العفيفة الخالية من الشوائب المادية. وصحيح أن بعض القرى من ملك والدي المحترم كانت ما زالت في قبضته وكان يتلقى من الحكومة الإنجليزية منحة سنوية أيضا، كما كان له راتب تقاعدي من أيام الوظيفة الحكومية، إلا أن ذلك كله لم يكن يساوي شيئا يذكر بالمقارنة مع ما قد تمتع به في السابق، ولذلك كان عرضة للهمّ والحزن دومًا، وكان يقول لي مرارا إنه لو بذل من أجل الدين الجهود التي بذلها لكسب الدنيا الدنية لعدّ اليوم قطب العصر أو غوثه، وكان كثيرا ما يردد بيتًا من الشعر ما معناه:

لقد مضى عمري كله ولم يبق منه إلا أيام قليلة، فالأفضل لي أن أقضيها متذكرًا أحدًا (أي الله تعالى) صباح مساء.

ولاحظت كثيرا أنه كان يقرأ بخشوع شعرًا من نظمه هو ومعناه:

يا  من هو سند كل عديم الحيلة آمل أنني لن أعود من عتباتك خالي اليدين.

وأحيانا كان يردد بخشوع بيته التالي ومعناه:

أقول قسمًا بدموع العاشقين وبغبار أقدام بعضهم أن قلبي يتمرغ في الدماء من أجل أحد (أي الله تعالى).

لقد ازداد تحسره – يوما بعد يوم في أواخر عمره – على الذهاب إلى الله صفر اليدين، فكان كثيرا ما يقول بأسف شديد بأنه قد أضاع عمره عبثًا من أجل أعمال الدنيا التافهة. وذات مرة قص علي والدي رؤياه أنه رأى النبي قادما إلى بيته بمنتهى الجلال والهيبة على شاكلة ملك عظيم فأسرَع والدي إلى استقباله وعندما اقترب منه خطر بباله أن يقدم له هدية وعندما أدخل يده في جيبه وجد فيه روبية واحدة فقط ولما أمعن فيها النظر وجدها زائفة فاغرورقت عيناه من ذلك ثم استيقظ، فأولها أن مَثَل حُب الله ورسوله مع حب الدنيا كمثل العملة الزائفة، وكان يقول بأن والده أيضا قضى أواخر حياته ببؤس إذ مضت الفترة الأخيرة من عمره في مصيبة وحزن وهمّ، لأنه أخفق حيثما توجه وفشل في أي عمل بدأ به، وكان يردد شعرًا من نظم والده أي والد جدي، الذي نسيت شطرا منه، ومعنى الشطر الثاني:

كلما قمتُ بتدبير

ضحك عليّ القدر.

وقد ازدادت كثيرا همومه هذه وآلامه في الشيخوخة، وبهذه الفكرة كان والدي قبل ستة أشهر تقريبا قد بنى مسجدا وسط هذه البلدة وهو مسجد جامع هنا، وأوصى أن يكون قبره في زاوية من المسجد لكي يسمع اسم الله عز وجل ولعل ذلك يتسبب في المغفرة. وفي اليوم الذي اكتمل فيه بناء المسجد من كل وجه –ولعله لم تبق إلا بضع بلاطات كانت ستوضع على الأرضية لإكماله – توفي والدي بعد أن تعرض لمرض الزحار الدامي لبضعة أيام ودفن في الزاوية نفسها من المسجد التي كان قد حددها واقفا فيها أيام صحته، اللهم ارحمه وأدخله الجنة، آمين. وكان عمره 80 أو 85 عاما تقريبا.

إن تحسّره على ما أضاعه من وقت ثمين من أجل الدنيا ما زال يؤثر في قلبي تأثيرا مؤلمًا، وإنني أعلم أن هذه الحسرة نفسها سيأخذها معه كل طالب للدنيا؛ فليفهم كل فهيم…

وقد كشف الله علي في الرؤيا أن وفاة والدي وشيكة، وكنت يومذاك في لاهور، فهرعت إلى قاديان فورا، فوجدته مصابا بمرض الزحار، إلا أنه لم يخطر ببالي أنه سيموت في اليوم التالي من وصولي إليه ولاسيما لأن المرض كان قد خف، وكان يجلس بمنتهى الصبر والثبات. في اليوم التالي كنا جميع الأقارب عنده ظهرا وكان الحر شديدًا إذ طلب مني والدي المحترم لطفا منه أن أستريح وذلك لأننا كنا في شهر حزيران وكان الحر شديدا فصعدت للاستراحة إلى غرفة في الطابق العلوي وبدأ أحد الخدام يمسد قدمي، فأصابني نعاس، وتلقيت وحيًا من الله: “والسماء والطارق” أي أقسم بالسماء مبدأ القضاء والقدر، وأقسم بالحادث الذي سيظهر هذا المساء بعد غروب الشمس، وفهمت أن هذا الوحي بمنزلة التعزية من الله، والحادث هو أن والدي سيتوفى اليوم حصرا بعد غروب الشمس. فسبحان الله ما أعظم شأنه إذ قدم التعازي على وفاة من توفي متحسرا على ضياع عمره، وسيستغرب أغلبية الناس ما معنى تعزية الله، وليكن معلوما أن الله جل شأنه حين ينظر إلى أحد برحمة فيتصرف معه كالصديق، فبهذا المعنى حصرا ورد في الحديث أن الله يضحك.

ملخص القول الآن، أني حين تلقيت الوحي المذكور من الله جل شأنه عن وفاة والدي المرحوم، خطر ببالي بمقتضى البشرية أن بعض موارد الدخل ترتبط بحياة والدي  ولا نعرف لأية ابتلاءات سنتعرض بعد وفاته، وبينما أفكر في هذا إذ تلقيت فورا هذا الوحي الثاني: “أليس الله بكاف عبده”؟ فأكسبني هذا الوحي سكينة وطمأنينة غريبة، وانغرز في قلبي كالوتد الحديدي، فوالله الذي نفسي بيده أنه قد حقق وحيه المبشر هذا بطريقة لم أكن حتى أتصورها، فقد كفلني بطريقة لم يتكفل بها أحدًا أبوه، وقد نزلت علي مننه المتواترة التي يتعذر علي إحصاؤها. لقد توفي والدي في اليوم نفسه بعد غروب الشمس، فكان أول يوم رأيت فيه من خلال الوحي الإلهي آية رحمة لا أظنها تنقطع يوما في حياتي، لقد طلبت حفر كلمات هذا الوحي في الأيام نفسها على فص خاتم ما زلت أحتفظ به عندي باهتمام بالغ، باختصار قضيت قرابة أربعين عاما من حياتي بكنف والدي العطوف. رحل والدي من هذا العالم من ناحية ومن ناحية أخرى بدأت سلسلة المكالمات الإلهية معي بكل قوة. لا أستطيع أن أذكر عملاً لي كان جديرًا بأن تتوجه إلي هذه العناية الإلهية، وإنما أشعر في نفسي أن قلبي منجذب بطبعه إلى الله بوفاء جذبًا لا يمكن لأي حائل أن يحول دونه، فهي عنايته وحده، أما أنا فلم أقم بالرياضات الشاقة قط، كما لم أخض في المجاهدات الشاقة على شاكلة بعض الصوفية المعاصرين، ولم أنعزل في إحدى الزوايا مدةً، ولم أرتكب بخلاف السنة أي عمل يدل على الرهبانية ويعارض كلام الله ؛ بل ظللت على الدوام متبرئا من هؤلاء الزهاد المعروفين والمبتدعة الذين يغرقون في أنواع البدع، إلا أنه في أيام حياة والدي بل حين اقتربت وفاته اتفق لي أن رأيت مرة في المنام شخصا من أهل الله متقدما في السنّ، جميل المظهر، فقال لي ما مفاده: إن من سنة أهل بيت النبوة الصيامَ لبعض الأيام من أجل الأنوار السماوية، وأشار إلى أن أتأسى بسنة أهل البيت هذه. فرأيت من المناسب أن ألتزم بالصيام لفترة من الزمان. وللتو خطر ببالي أن الأفضل أن أقوم بذلك سرًّا. فكنت أطلب طعامي من البيت إلى غرفة الضيوف وأوزعه سرًّا على الأيتام الذين كنت قد أكدت عليهم سلفا ليحضروا في الوقت المحدد. وهكذا كنت أصوم طول النهار، ولم يعرف عن هذا الصيام إلا الله. وبعد أسبوعين أو ثلاثة رأيت أنني لم أتعرض لأي نوع من الأذى بسبب الصيام الذي آكل فيه مرة واحدة فحسب لذلك يجب أن أقلل من قدر هذه الوجبة الوحيدة أيضا، فطفقت أقلل من طعامي منذ ذلك اليوم حتى كنت أكتفي برغيف واحد فحسب في اليوم والليلة، وبقيت أقلله حتى صار طعامي يعادل بضعة مثاقيل خلال اليوم والليلة. لقد استمر بي الحال على هذا المنوال لمدة ثمانية أو تسعة شهور، وعلى ضآلة الطعام الذي كنت أتناوله الذي لم يكن ليصبر عليه ابن الشهرين أو الثلاثة أيضا إلا أن الله تعالى قد حفظني من كل سوء ومكروه. ومن العجائب التي حظيت بها من خلال هذا النوع من الصيام تلك المكاشفات اللطيفة التي كُشفت علي؛ فقد قابلت العديد من الأنبياء الكرام، وكذلك بعض كبار الأولياء والصلحاء المسلمين الذين خلوا من قبل. وقد رأيت رسول الله بحالة اليقظة التامة وهو في رفقة الحسنَين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم…

ومن العجائب التي ظهرت علي في فترة الصيام تلك ضروب من المكاشفات. واستفدت من خلال هذه التجربة أيضا أنني تبينت أني أقدر، إذا اقتضى الحال، على تحمل الجوع لفترة طويلة من الزمن. وخطر ببالي أكثر من مرة بأنه إذا أُجبر شخصٌ ضخمٌ مصارعٌ قويٌ ليتحمل الجوع معي، فإنه سوف يموت قبل أن أضطر لتناول شيءٍ من الطعام. وتأكد لي من خلال هذه التجربة أن الإنسان يستطيع أن يتقدم في تحمل الجوع إلى حدّ بعيد، وإنني على يقين أن الذي جسمه لا يتحمل المشقة والشدة بل يخلد إلى حياة التنعم والراحة فلا يسمو إلى المراتب الروحانية. ولكني لا أنصح كل واحد أن يقوم بمثل هذا الصيام كما لم أقم به أنا أيضا بناء على اختياري… وخير للإنسان ألا يوقع نفسه في المجاهدات الشديدة باختيار نفسه بل ينبغي أن يظل متمسكًا بدين العجائز. وإن المجاهدات التي يقوم بها معظم الزهاد الجهلة في هذه الأيام ليست عاقبتها محمودة لذلك ينبغي اجتنابها.”  (كتاب البرية، الخزائن الروحانية مجلد 13 ص 189-200)

أقول: لقد ذكر المسيح الموعود سوانح عائلته في مؤلفات كثيرة إضافة إلى كتاب البرية وإليكم قائمتها: إزالة الأوهام، التبليغ، الاستفتاء، لجة النور، ترياق القلوب، كشف الغطاء، شهادة القرآن، التحفة القيصرية، النجمة القيصرية، نجم الهدى، والإعلان في عام 1894م.

Share via
تابعونا على الفايس بوك