- كيف بدأت سلسلة العلوم والمعارف الإنسانية؟
- كيف شكلت المكتشفات العلمية الحديثة عثارا للبعض؟
- ما الفرق بين أثر كل من انتشار المسيحية وانتشار الإسلام على العلم؟
__
منذ أن برأ الباري الإنسانية، وهي ماضية قُدمًا في سبيلها نحو التَعَلُّم والتَّرقِّي. وكما هي حال الوليد الرضيع، لا يناسبه سوى طعام واحد مُتمثل في لبن الأم، كذلك في المراحل المبكرة من عمر الإنسانية لم يكن ثمة فرق أو تمييز بين المعارف الدينية ومتطلباتها من جانب، والعلوم الدنيوية ونواتجها من جانب آخر، إذ كان المحتوى الـمَعرفي برمته في تلك العصور ضئيلًا جدًّا نظرًا إلى عمر الإنسانية الـمُبكر في ذلك الوقت.. كانت المعرفة كلًّا واحدًا لا يتجزأ، تمامًا كلبن الأم بالنسبة للرضيع. لقد كان الدين “مُتمثلًا في الوحي الإلهي والرسالات السماوية” بمثابة ذلك اللبن السائغ، وهو ما عَوَّلت عليه البشرية المبكرة في فكِّ شَفرة الكون لـِحلِّ ألغاز البيئة المحيطة بها بما يناسب عقلية القوم آنذاك، فقدم الدين للإنسان تفسيرات مُرضِيَة للظواهر الكونية المحيطة، كالبرق والرعد، والزلازل، والبراكين، والأعاصير والخسوف والكسوف، والأوبئة، والموت، والولادة، وغيرها من الظواهر الأخرى.
ثم أتى العلم الحديث بعد ذلك ليثبت أنها أمورٌ طبيعية.. مثل الرعد والبرق، هي مجرد شحنات كهربائية، اتخذت صورة ضوئية وصوتية. لقد كانت مثل تلك التفسيرات العلمية الحقيقية ما دفع عددًا كبيرًا من مشاهير العلم الحديث إلى عدم إرجاع أصل الكون إلى الله، ذلك لأنهم باتوا على قناعة بأن العلم سيعطيهم يومًا ما جوابًا شافيًا عمَّا لا يمكن إدراكه الآن، بغض النظر عن فكرة إيمانهم بوجود الله من عدمه، فكانت هذه بؤرة الكارثة..
إن الإنسان في كل عصر يسعى لإيجاد هدف ومعنى لحياته، وقد رأى الفيلسوف الإغريقي “أناكساجوراس” أن الإنسان مشغوف بالتطلع نحو الكون من حوله، وظل رأيه هذا قائمًا قرونًا بعد عصر «أرسطو»، ثم أخذ في التلاشي تمامًا بعد انتشار المسيحية، حيث شاعت النظرة إلى العلم كأمر عبثي زائل، فالتركيز في تلك الحقبة كان على كل ما يخص الأمور الروحية فقط، وهذا القول ليس بدافع التعصب ضد المسيحية، لا سمح الله، فهو ليس قولنا أو قول أي من المسلمين، بل هو شهادة أوروبية على لسان أستاذ الفلسفة الطبيعية «برنولف كانيتشايدر»، وهو لم يقل هذا بدافع التعصب قطعًا.. لقد كانت وجهة النظر تلك التي أصلها انتشار المسيحية في العالم القديم مُؤذنة ببداية حقبة العصور المظلمة في العالم المسيحي – مع تحفظنا على تسميتها بالعصور المظلمة – فقد كانت عصورًا ذهبية في مشرق العالم، حيث سطعت شمس الحضارة الإسلامية بمكتشفاتها ومخترعاتها وإرثها المادي والفكري الذي ظلت أوروبا تنهل منه قرونًا حتى استوت على ساقيها مع بداية عصر النهضة الأوروبية.
ومقارنة بما أحدثه الانتشار المسيحي في العالم القديم، ندهش من أثر انتشار الإسلام، وما ترتب على هذا الانتشار من تغير تام من النقيض إلى النقيض، تَغير كان مِن مظاهره أن تحولت بيئة الصحراء إلى جنة علم وروحانية كفت العالم القديم مؤونته من الزاد العلمي والفكري والحضاري قرابة تسعة قرون أو أكثر. لقد بدأ غرس هذه الجنة الوارف ببذور الصحابة الأوائل، والتي بذرتها يد النبوة، ثم رعتها يد الخلافة بعد ذلك. وقد ذكر بعض المحققين أن عدد صحابة رسول الله بلغ 114000، ولا نشك في أنهم جميعًا قد اقتبسوا من علم النبوة، غير أن بعضهم قد تفرغ للعلم فعرفوا بعلماء الصحابة، وهم كُثر إذا ما قُورن عددهم بعدد نظرائهم من أصحاب وحواريي من خلوا من النبيين. فأما عن الصحابة العلماء من أمة سيد الخلق محمد المصطفى فقد ذكرت الروايات أسماء طائفة منهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله :
أمور كثيرة تدعونا إلى الزعم بفكرة أن الإسلام كان بوابة العالم إلى عصر العلم الحديث، هذا العصر الذي تميز في رأي مؤرخي العلم قاطبة بإجراء التوثيق العلمي وتحقيق نسبة النصوص إلى أصحابها، والقراءة النقدية للمصادر والمتون، ستغمرنا الدهشة إذا ما عرفنا أن أول من سلك مسلك التوثيق العلمي كان واحدًا من صحابة النبي ، إنه الصحابي أُبي بن كعب والذي كان أول من كتب الوحي لرسول الله بعد قدومه إلى المدينة، وفي ذلك الوقت لم تكن فكرة التوثيق لتخطر على بال أحد، وما كان يُكتب اسم الكاتب في آخر الكتاب في ذلك الزمن، اللّهم إلا ما كان يُختم به رسائل الملوك والولاة، فأول من كتب في آخر الكتاب «وكتب فلان» هو أُبي بن كعب، وبعده بدأ الآخرون أيضًا يقلدونه، فراج هذا الفعل المحمود، الذي نرى أنه بداية إجراء التوثيق العلمي الذي تسير عليه كبرى المؤسسات العلمية في عصرنا الراهن، حتى وإن كان لمفكري الغرب ومقلديهم من المشارقة رأي مختلف.
قارئ التقوى العزيز، نهدي إليك هذا العدد، أغسطس/ آب 2021 حفيًّا بأمجاد الحضارة الإسلامية، بدءًا من عصر نبوة النبي الخاتم وصحبه الكرام، الذين احتفى بهم حضرة خليفة المسيح الخامس (أيده الله تعالى بنصره العزيز) في سلسلة خطبه عن الصحابة البدريين، ونخص بالذكر ها هنا حضرة أُبي بن كعب ، الذي أسلفنا الحديث عنه كونه رائد إجراء التوثيق العلمي في التاريخ الإسلامي، بل والإنساني. يلي ذلك باقة من المقالات بأقلام نخبة من الكتاب تناولوا فيها فكرة العلاقة بين العلم والدين، والمنجز الحضاري الذي خلفه المسلمون.
ندعو الله تعالى أن يجعل كل كلمة سُطرت في هذا العدد وكل عدد خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا ثمارها اليانعة بفضله وجُوده، آمين.
—-
- الذهبي، ميزان الاعتدال.