حرية تعبير أم فتنة في الأرض و فساد كبير

حرية تعبير أم فتنة في الأرض و فساد كبير

هاني طاهر

  • الحرية ما بين حرية التعبير وحرية العقيدة
  • ما يقتضي العقوبة المجتمعية أو الأخلاقية أو القانونية
  • فقه الجهاد العداوني ليس اجتهادًا بل جرم

__

ما هو الفاصل بين حرية التعبير والتحريض والدعوة للفتنة والتأصيل لها؟ ألا تتنافى حرية التعبير المطلقة مع حقوق عديدة للإنسان؟ هل يُسمح بها حتى لو أضرَّت بالآخرين وبحقوقهم وتعدَّت عليهم وملأت دنياهم فسادًا؟

حريةُ التعبير ليست مطلقة، وهي ليست مثل الحرية الدينية، فحرية التديّن واعتناق العقائد مطلقة لا حدَّ لها، أما حرية التعبير فمقيدة؛ فلا يحقّ للمرء أن ينشر أي كلام أو يبوح به، بل هنالك العديد من الكلام الممنوع والذي يجب أن يعاقَب من يتلفّظ به، سواء أكانت عقوبة مجتمعية أخلاقية أم قانونية، ومنه:

1: الغيبة، وهي ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، حتى لو كان هذا الذي يكرهه موجودا فيه.

2: البهتان: وهو ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، ولم يكن موجودا فيه، كأن تنسب له كذبا ما يسيء إليه ويضيق به. ومنه الاتهام والقذف وما شابه ذلك.

3: التزوير والكذب: ومنه أن تمدح فلانا أو فئة بما ليس فيهم.

4: النميمة: أن تنقل كلاما بين طرفين بنية إفساد العلاقات بينهما.

5: السبّ والشتم، سواء كان لمقدسات أم لأشخاص أم لهيئات ومؤسسات أم غير ذلك. ومثله السخرية والإهانة والتنابز بالألقاب وما شابهه.

6: الكلام الجنسي الهابط وكل كلام يرفض الناس سماعه ويتفقون عُرفا على كراهيته والنفور منه.

7: التحريض: وهو حثّ الناس بالكلام أو بما يشبه الكلام على الإفساد في الأرض، بما يؤدي إلى القتل أو إلى غيره من مفاسد.

8: نشر الأفكار التي تؤدي إلى قتلٍ للأبرياء مثل فكرة قتل المرتد لمجرد ردته.

9: نشر الأفكار التي تؤدي إلى فتنة بين الناس أو كراهية بينهم، مثل فكرة مقاطعة أصحاب الأفكار والأديان المختلفة، أو فكرة التمييز بين المواطنين على أيّ أساس، كما في مفهوم الجزية في تفسير المشايخ لها، أو إهانة أصحاب أي دين أو أي عرق أو لون أو جنس أو لغة أو لهجة، مثل القول بوجوب هدم معابد الآخرين.

10: نشر الأفكار التي تؤدي إلى حروب بين الأمم، وأهمها وأخطرها فكرة الجهاد العدواني.. والذي ملخصه أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يقاتلوا الكافرين لمجرد كفرهم. وهذه الفكرة من أكثر الأفكار نشرًا للفتنة والفساد والاقتتال والكراهية بين الأمم والأديان.

هذه الأقسام من أهم ما يمكن أن يخطر بالبال أوّل وهلة مما يجب أن يكون البوح به والتعبير عنه ممنوعًا؛ فحريةُ التعبير لا تشمل هذه الأنواع من التعابير. وواجب المجتمعات أن تحاربها وأهلَها، وواجب الدول أن تسنّ القوانين التي تعاقب من ينشر مثل هذه الأقوال أو يبوح بها.

حين يعترض الناسُ على خطيبٍ يصرخ بهذه الأفكار الدموية ويُنزلونه عن المنبر ويرفعون ضدّه قضية في المحكمة، وحين تكون هناك قوانين رادعة لأمثاله، عندها نكون قد صعدنا الدرجة الأولى في السلّم العملي لتصحيح الاعوجاج الشديد.

ولقد أخطأت الدولُ المعاصرة خطأ فادحًا حين أتاحت المجال للمشايخ أن يتحدثوا بالجهاد العدواني وبالمنع من الحرية الدينية وبأفكارهم العدوانية العديدة، حتى لو لم يمارسوها عمليًّا، فمجردُ الكلام في مثل هذه الأفكار الوحشية يؤسس لمجتمع يملؤه الفسادُ والتناقض والتناحر والكراهية.

لعلّ أكثر البلدان ارتكابا لهذا الخطأ هي بريطانيا؛ ففيها ترعرع الفكر الدموي الإجرامي، ولعل البعض يظنّ أن بعض ساسة بريطانيا كانوا فرحين لهذا الفكر لما له من تأثير كارثي على البلاد العربية والإسلامية. وسواء صحّ هذا الظن أم لم يصحّ فالقضية هي هي، وهي أنه كان لبريطانيا دور واضح في رعاية هذا الفكر، حيث كانت ملتقى لكبار قادة السلفية القتالية الذين ملأوا الدنيا فتنة وفسادًا. وقد ظللتُ أرى بوضوح أنّ مسلمي بريطانيا عمومًا أشدّ تطرفا من مشايخ بلادنا العربية، وقد يكون سبب هذا هو كثرة هؤلاء المشايخ فيها.

والأخطر من بريطانيا هي كليات الشريعة في البلاد العربية والإسلامية، والتي تساهم جدًّا في نشر الفتنة بتدريسها أفكارا فاسدة مفسِدة.

القولُ بأن الجهادَ العدواني وقتلَ المرتد وهدمَ معابد الآخرين والتحريضَ على الكراهية الدينية وإرغامَ كل من هو غير مسلم على دفع الجزية وتخييرَ كلِّ من هو غيرُ كتابيٍّ بين الإسلام والسيف.. القولُ بأنّ هذه الدعاوى كلها مجرد “اجتهاد خاطئ” خطأٌ قاتل؛ فالدعوة إلى العدوان ليس مجردَ خطأ اجتهادي، ولا ينطبق عليه “اجتهد فأخطأ فله أجر”، بل أجرم فأجرم فعليه عقوبة.

“داعش” لم تنشأ قبل أيام أو سنوات، بل لا تزال تعشِّش في عقول أبناء جلدتنا بسبب هذه الأفكار التي لا بدّ من معاقبة من يروّج لها لكونه يروّج للفتنة والفساد والدمار.

حين يعترض الناسُ على خطيبٍ يصرخ بهذه الأفكار الدموية ويُنزلونه عن المنبر ويرفعون ضدّه قضية في المحكمة، وحين تكون هناك قوانين رادعة لأمثاله، عندها نكون قد صعدنا الدرجة الأولى في السلّم العملي لتصحيح الاعوجاج الشديد.

Share via
تابعونا على الفايس بوك