"تذللوا كالكاذبين وأنتم صادقون”
التاريخ: 2014-10-10

“تذللوا كالكاذبين وأنتم صادقون”

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • الإيمان أخلاق فاضلة وصلاة والتزام
  • الحث على الفضائل وذكر بعض الرذائل وإصلاحها
  • الغضب وأثره على الإيمان
  • خُلق الصبر وأسوة حسنة
  • تعليم الرفق ووجه تماثل بين المسيح الناصري والمسيح الموعود عليهما السلام
  • غوث المظلوم من الإيمان

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

لقد وجّه الله تعالى المؤمنين بكثرة إلى العبادة والتحلي بالأخلاق الفاضلة لأن الذي يدّعي الإيمان بدونها لا يمكن أن يسمَّى مؤمنا حقيقيا. فمن علامات المؤمن أنه يعبد الله تعالى، وإلى جانب ذلك من واجبه أن يُعرض عن اللغو أيضا، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ثم تصدر منه أخلاق رذيلة. لا تصدر من الإنسان الأخلاق الرذيلة إلا حين يكون مستكبرا، لذلك يقول الله تعالى عن عباد الرحمن: يمشون على الأرض هونا أي متواضعين. ومن كان يتحلى بالتواضع فإنه لا يتحاشى الشجار والخصومة دائما فحسب، ولا يكون ميالا إلى الصلح والوئام فقط، بل يتحلى بالأخلاق الفاضلة الأخرى أيضا. وإذا كان منشأ الأخلاق الفاضلة هو الحصول على رضى الله تعالى، وكان المرء إلى جانب ذلك يسعى جاهدا لأداء حق عبادة الله تعالى، ففي هذه الحالة يُعَدّ مؤمنا حقيقيا.

الخلاصة أن المؤمن الحقيقي هو من كان عابدا ومتواضعا. صحيح تماما أن لكل إنسان مؤهلاتٍ مختلفة، ويتفاوتون في الحالة الجسدية أيضا. فقد تنشأ ظروف مؤقتة معرقلة، لذا لا يمكن لكل واحد وفي كل حال أن يبقى ثابتا على أخلاقه بمستوى واحد. كذلك لا يسعه أن يثبت على المستوى الذي يُتوقع من المؤمن في عباداته وصلواته. لذلك قد أتاح الله تعالى للمؤمن تسهيلات مختلفة بحسب ظروفه. والله تعالى لا يكلّف أحدا أكثر من قدرته ومؤهلاته. لذا ليس صحيحا قط القول بأن هناك بعض الأمور التي لا يمكن للإنسان أن يعمل بها فلا يمكنه إنجازها، وهو قول باطل فيما يتعلق بالإسلام على الأقل. فحين قال الله تعالى للمؤمنين أن الصلاة مكتوبة عليكم لذا يجب أن تصلوها فقد يسّر لهم أداءها كثيرا فقال مثلا بأن الذي لا يستطيع أن يصلي قائما يمكنه أن يصلي قاعدا، ومن لم يستطع ذلك بسبب مرض- لأنه قد يصعب على الإنسان الجلوس بسبب مرض ما- فسمح الله له أن يصلي مستلقيا. ثم لم يضع شرطا على أي جنب يجب أن يستلقي المرء لأداء الصلاة، بل سمح له أن يصلي أيا كانت كيفية استلقائه. كذلك إذا كان أحد مسافرا أو مريضا أو ضعيفا أو كانت لديه مشكلة أخرى مؤقتا فيمكن أن يقصر الصلاة. لذا لا يمكن لأحد أن يقدّم أيّ عذر لعدم أدائه الصلاة. بل إذا كان هناك مَن يشتغل في عمل تتسخ بسببه ثيابه ظاهريا فهو مأمور بأن يصلي في الثياب نفسها إن لم تتيسر له ثياب نظيفة، ولكن لا بد من أداء الصلاة على أية حال. باختصار، لا يمكن لعاقل أن يقبل عذر أحد أن أداء الصلاة ليس ممكنا له. إذًا، الصلاة واجبة على الإنسان ما دامت قواه العقلية سليمة. فالقول بأن أداء الصلاة مستحيل علينا قول خاطئ تماما. ولكن إذا سُئل الناس عن ذلك يقدّم كثير منهم أعذارا واهية، ولكنهم بتقديمهم مثل هذه الأعذار يبتعدون عن الإيمان. فيجب علينا جميعا أن ننتبه إلى هذا الأمر. عندما ألقيتُ خطبة حول هذا الموضوع بمناسبة افتتاح المسجد في أيرلندا ووجهت أنظار الإخوة إلى العبادات، كتب إليّ داعية الجماعة في أميركا، وكذلك وصلتني الرسائل من أماكن أخرى أن عدد الحضور في المساجد قد ازداد بشكل ملحوظ. فيتبين من هنا أن السبب وراء عدم الحضور في المساجد لم يكن ناتجا عن اضطرارهم ولم يكن مستحيلا عليهم بل كان سببه الكسلُ والتهاون، وعندما وُجِّهت الأنظار إلى ذلك تركت النصيحة تأثيرا إيجابيا، ولكن هناك حاجة للدوام تحت هذا الأثر. ومن صفات المؤمن أنه إذا وُجِّه إلى أمرٍ التزم به.

إذًا، يجب على مجلس خدام الأحمدية ولجنة إماء الله أن يعوِّدوا الجيل الناشئ على الالتزام بالصلوات. ففي هذه الفترة من العمر يتمتع الإنسان بصحة جيدة ويقدر على أداء حق العبادة. لقد وجّه المسيح الموعود أنظارنا بوجه خاص إلى أن الإنسان يستطيع أن يؤدي حق العبادة على أحسن ما يرام في فترة الصحة والشباب، أما في مرحلة متقدمة من السن فلا يستطيع أن يؤدي حقها كما يجب بسبب تعرّضه لأعراض مختلفة.

على أية حال، يجب على الإنسان أن يعلم أن من واجبه أن يؤدي ما فرض الله عليه بالضغط على طبيعته أيضا إذا اقتضى الأمر ذلك، فضلا عن عدم أدائها مع وجود التسهيلات كلها. فإذا رزقنا الله صحة جيدة فإن شكر الله على ذلك أيضا ضروري لنا لأداء حق الله، ويستطيع الإنسان أن يؤدي هذا الحق بواسطة عبادته. فهناك حاجة ماسة إلى عبادة الله والالتزام بالصلاة شكرا على أنه وهبنا صحة جيدة. فيجب على الجميع أن يتوجّهوا إلى هذا الأمر لأن الإيمان لا يكمل بغير ذلك.

ومن كان يتحلى بالتواضع فإنه لا يتحاشى الشجار والخصومة دائما فحسب، ولا يكون ميالا إلى الصلح والوئام فقط، بل يتحلى بالأخلاق الفاضلة الأخرى أيضا.

والآن آتي إلى أمر آخر أي أتناول الآن الأخلاق الفاضلة. فمن أعظم صفات ذوي الأخلاق الحسنة أنهم يصدقون القول ويثابرون ويثبتون عليه. فمن ميزات المؤمن أنه يثبت على الصدق دائما ولا يدعَ الكذب يقترب منه أبدا. وهذا لا يمكن إلا إذا كره المرء الكذبَ بشدة، ولكننا نرى على صعيد الواقع أن الناس يركنون إلى الكذب بمناسبات مختلفة ثم يقولون: ما كنتُ أنوي الكذب ولكنه خرج من لساني خطأ. يقدّم الناس هنا طلبات للجوء السياسي ويقولون أحيانا بأنه قد صدر مني هذا الكذب خطأ مع أنني ما كنت أنوي قوله. ولكني أقول: إن لم يكن المرء معتادا على الكذب فلا يخرج الكذب من لسانه حتى خطأً. إن الله غفور ويغفر لمثل هؤلاء الناس الذين يشعرون بخطئهم، ولكن لا بد لهم في هذه الحالة من إظهار الندم على ذلك عمليا. ولكن إذا كذب أحد ولم يشعر بالندامة عليه ولم يسع لإزالة الخسارة أو الضرر الذي لحق بأحد بسبب كذبه بل أصرّ عليه وحاول أن يُثبت أنّ كذبه صدق أو يقول بأنه لا مندوحة له من الكذب، فإن شخصا مثله ليس ثابتا على إيمانه ولا يمكن أن يُعَدّ متحليا بأخلاق فاضلة، ويجب أن يفهم جيدا أنه لا يسلك صراطا مستقيما.

يقول الله تعالى عن الأخلاق: “قولوا للناس حسنا” أي عامِلوهم بالرفق وحُسن الخُلق وكلِّموهم بكلام هيّن وليّن. معلوم أن بعض الناس يملكون طبيعة خشنة وقاسية ولكنهم لا يُظهرون الخشونة والقسوة في كل حين. فحين يقول الله تعالى بأن تقولوا للناس حسنا، فأمرُه هذا موجَّه إليهم أن يليِّنوا الخشونة والقسوة التي في طبائعهم. ويجب ألا يكون فيكم ما يؤذي الآخرين. ولا تستشيطوا غضبا لأتفه الأمور. ولكن هناك أناس كما قلت قبل قليل، يحتدمون ويغضبون سريعا بسبب طبيعتهم. وإذا تأمل هؤلاء الناس على قسوتهم بعد قولهم كلاما قاسيا وحاولوا تدارك ما أصاب الآخرين من الألم والإيذاء بسببهم وتابوا إلى الله واستغفروه فيقول الله تعالى بأن باب التوبة مفتوح وأن توبتهم ستُقبل عنده. ولكن الذين لا يعملون بحسب أمر الله ويعاملون الآخرين بقسوة باستمرار ولا يشعرون بأي ندم فإنّ مستواهم الأخلاقي ينحطّ شيئا فشيئا، بل يرتكبون ذنبا بعدم العمل بأمر الله تعالى. والذين يفعلون ذلك لا تنفعهم عباداتهم. فالله تعالى يُعطي أمل المغفرة والعفو للذين يصدر منهم فعلٌ تحت تأثير ثورة معينة أو بسبب الغضب ولكنهم يندمون ويخجلون على ما فعلوا بعد أن يعودوا إلى صوابهم ويسعون لتدارك ما بدر منهم. أما الذي لا يخجل ولا يندم ولا يتأسف على ما صدر منه فليس له عذر مقبول عند الله. فعلينا جميعا أن نحاسب أنفسنا. كثيرا ما تأتيني قضايا خصومات أزواج، وقضايا أمور مالية بين فريقين يتبين منها أن بعض الناس يستشيطون غضبا بسرعة ولا يدركون ماذا يقولون وماذا يفعلون. وهناك من يؤذي النساء إيذاء نفسيا ويرفع يده عليهن، وما إلى ذلك من المعاملة السيئة. والأدهى والأمرّ من ذلك أنهم لا يريدون أن يفهموا. وإذا حاولت لجنة الإصلاح أو “دار القضاء” الإصلاحَ بينهم يصرون على موقفهم. ثم عندما يعاقَب أحد الفريقين بتعزير يعودون إلى صوابهم إلى حد ما، ويكتبون إليّ طالبين العفوَ ويسعون لتدارك ما فات وما قاموا به من المعاملة السيئة تجاه الآخرين. صحيح أنه يُعفى عن مثل هؤلاء الناس بعد أن يتداركوا الوضع ويصلحوا أنفسهم بعد نيل عقوبة استحقوها ولكن تبقى عليهم وصمة التعزير على أية حال. ولو لم يدخلوا في دوامة أنانيتهم لكان بالإمكان أن تصلُح الأمور بالتعاون والتفاهم المتبادل قبل الوصول إلى هذه المرحلة. فعلى هؤلاء الناس أن يفكروا في حماية إيمانهم. وهناك بعض آخرون لا يكادون يفهمون بأي طريقة ويبقون مصرين على موقفهم ثم يبتعدون عن الجماعة كليا.

فليكن معلوما أن الدنيا ومنافعها وملذاتها كلها فانية، لذا علينا أن نفكّر في عاقبتنا دائما، وكيف نقدر على نيل أفضال الله ، إنني ألفت انتباه أبناء الجماعة دوما إلى رفع معايير أخلاقنا، وأنه ينبغي أن لا يقعوا في فخ الأنانية لأتفه الأمور. يجب على كل فرد من أبناء الجماعة أن يكون قدوة في الأخلاق والإنسانية. صحيح أننا نبدي الثوائر أحيانا ونغضب، فهو من طبع الإنسان. لكن الله قد أعطى المؤمن بعض الأوامر أيضا. فعلينا أن نكبح ثوائرنا، ونوظفها بحسب مرضاة الله. لقد قدمتُ مثال القضايا العائلية، فانظروا كيف أمرنا الله بالتحلي بالتقوى في الآيات التي تُتلى بمناسبة عقد القران. وأعطى الأحكام المختلفة، التي يجب على الزوجين العمل بها. لكن معظم الناس لا يضعون هذه الأمور في الحسبان، ويظنون أنه قد عقد القران وحصل الزواج وانتهى الأمر. فالذين يتعصبون لموقفهم ويفتخرون به، حين تظهر المشاكل والمسائل يتمسكون بآرائهم بشدة ويصرحون فيما بعد كيف أنهم تمسكوا برأيهم وبذلك هزموا خصمهم. فهم يعدّون عواطفهم ومشاعرهم صحيحة ولا يحترمون عواطف الآخرين. ويقولون إن ما فعلناه هو الصحيح لأنهم يزعمون أن القرار الذي اتخذوه بعد التفكير هو العلاج لخصمهم. ولم يكن لهم سبيل غير ذلك. إذا سلَّمنا بقولهم فهذا يعني أن الدين الذي اعتنقوه كاذب، لأن ما يقوله الدين يخالف كلامهم. يحق لهم القول إن العمل بأمر كذا من الأوامر الدينية يصعب علينا، لكن القول بأنه لا تستقيم الحياة دون مخالفته وأنه لم يكن بد من فعل ما قاموا به، بمنزلة تكذيب الدين. فالله يأمرنا أن اكظموا الغيظ، وعامِلوا الناس بحسن الخلق ولا تصروا على أخطائكم واسعَوا لتأدية حقوق الناس. بل قد قال سيدنا المسيح الموعود إن الذي لا يؤدي حقوق العباد ولا يتحلى بالأخلاق التي علمَناها الله وفرضها على المؤمن فلا يستطيع تأدية حقوق الله أيضا. فإن صلاتهم وعبادتهم للرياء فقط. لأن عباداتهم لم تخلق فيهم التغير الذي هو من خصائص المؤمن. فلم يحدث فيهم التواضع الذي يقربهم إلى الله.

إذا سجل الإنسان حالته أثناء الغضب في الفيديو، وهو سهل في هذه الأيام في كل مكان، وشاهده بعد ذلك فسيخجل من نفسه، كم كانت تصرفاته مخجلة.

الآن أقدم لكم بعض نصائح المسيح الموعود في هذا الخصوص، كيف تكون حالة الذين يستولي عليهم الغضب، حيث يخلو دماغهم من الفهم والحكمة، وأحيانا يصابون بالجنون. وقال أن الثورة والغضب حين يشتد يفقد الإنسان الصواب، ومن ثم لفت انتباهنا إلى الصبر، لأن الصبر يزيد قوى العقل والفكر. قال : اعلموا أن هناك عداوة شديدة بين العقل والهياج، عندما يغضب الإنسان وتثور ثورته لا يستقيم العقل. ولكن الذي يصبر ويُري نموذج الحِلم فيُعطى نورا يخلق نورا جديدا في قوى العقل والفكر ويظل النور يتولد من النور. أما في حالة الغضب والهياج فيُظلِم القلب والذهن فيؤدي هذا الظلام إلى ظلام آخر.” (الحكم، مجلد6، رقم17، عدد10/5/1902م، ص5-6)

ثم قال بحق الذين يغضبون لأبسط الأمور أن قلوبهم تخلو من الحكمة: “اعلموا أن الذي يقسو ويغضب لا يخرج من لسانه كلام الحكمة والمعرفة قط. القلب الذي يستشيط غضبا بسرعة مقابل خصمه يُحرم من كلام الحكمة. إن شفتَي بذيء اللسان وخليع الرسن تُحرم من ينبوع اللطائف. الغضب والحكمة لا يجتمعان في مكان واحد. إن عقل شخص سريع الغضب يكون سطحيا وفهمه غير حديد. ولا يُعطى الغلبة والنصرة في أي مجال. الغضب نصف الجنون وعندما يثور أكثر يمكن أن يصبح الجنون كله.” (الحكم، مجلد7، رقم9، عدد10/3/1903م، ص8)

هناك قوتان -إحداهما سوء الظن والثانية هي الغضب إذا وصلتا حد الإفراط- تجرّان الإنسان إلى الجنون. (فحين يفكر الإنسان كل حين وآن في هذه الأمور التي تؤدي إلى الغضب وسوء الظن يصاب بحالة من الجنون). فمن الضروري أن يجتنب الإنسان كثيرا من سوء الظن والغضب.

يجب ألا يكون فيكم ما يؤذي الآخرين. ولا تستشيطوا غضبا لأتفه الأمور. ولكن هناك أناس … يغضبون سريعا بسبب طبيعتهم. وإذا تأمل هؤلاء الناس على قسوتهم بعد قولهم كلاما قاسيا وحاولوا تدارك ما أصاب الآخرين من الألم والإيذاء بسببهم وتابوا إلى الله واستغفروه فيقول الله تعالى بأن باب التوبة مفتوح وأن توبتهم ستُقبل عنده.

ثم بيَّن علامة المؤمن وهي السيطرة على الغضب، بحيث يجب أن لا ينبذ العقل والفطنة من يده في أي حال، وإلا سيصاب بحالة من الجنون كما سبق ذكره. يقول حضرته: على الإنسان أن يستخدم قواه في محلها المناسب وفي الحلال. ومثال ذلك قوة الغضب، التي عندما تتعدى حدود الاعتدال فإنها تصبح بادرة للجنون، والفرق بينها وبين الجنون بسيط جدا. الذي يستشيط غضبا سريعا يُنـزَع منه ينبوع الحكمة. فعلى الإنسان ألا يتحدث مع أحد مستشيطا غضبا وإن كان من المعارضين. (البدر، مجلد2، رقم10، عدد27/3/1903م، ص73) ثم بين حضرته أنه يجب على المؤمن أن يكظم غيظه، إنما المؤمن الحقيقي من يملك نفسه عند الغضب. فقد قال والكاظمين الغيظ . صحيح أن الإنجيل أيضا يعلّم الصفح والعفو كما قلتُ من قبل ولكنه يقتصر على اليهود فقط، ولم يوسِّع عيسى دائرة مواساته إلى غيرهم وقال بكل صراحة بأنه لا علاقة لي بغير بني إسرائيل سواء أهلكوا أم نجوا. (محاضرة ملحقة بـ“ينبوع المعرفة”، ص24)

فكان عفو المسيح وصفحه منحصرا في بني إسرائيل فقط، أما سيدنا المسيح الموعود الذي بعث مسيحا محمديا فكان نطاق عفوه وصفحه يحيط بالعالم كله. لذا يجب علينا نحن أيضا أن نتوسع في العفو والصفح. فهذه هي المعايير التي يجب أن نسعى لنيلها. إذا كنتم تريدون نيل الفيض من نور الله فثمة حاجة ماسة للتحلي بالصبر والحلم ورحابة الصدر. إذا كنا نريد أن تخرج من أفواهنا المعارف والحِكم ويلتفت الناس إلينا، ونكون مساهمين في مواصلة مهمة المسيح الموعود فعلينا أن نحمي أنفسنا من التشدد والغيظ في الأمور العائلية والشئون اليومية. إذا كنا نريد أن نكون مؤمنين حقيقيين فلا بد من توظيف كفاءاتنا ومواهبنا في محلها على خير ما يرام. فإذا غضِبْنا يوما فيجب أن لا يبلغ غضبنا درجة الجنون بل ينبغي أن يكون بقصد الإصلاح. فثوائر الغضب الطليقة التي لا يسيطر عليها الإنسان تجعله مجنونا، فهناك حاجة للاعتدال فيها. إذا كان يصيبنا الغضب فينبغي أن يكون محدودا بما يتطلبه الإصلاح، ويجب أن لا يكون بدافع إظهار العظمة وإشباع الأنانية. فقد قال حضرته إن الذي يغضب أكثر من هذه الحدود فهو يضيِّع إيمانه. وقد ذكر حضرته أن جمال الإسلام ينحصر في هدايته إلى الأخلاق السامية والنصح بكظم الغيظ غير اللازم والعفو.

فكل واحد بحاجة ماسة إلى التحلي بهذا الخلق، لأنه بدون ذلك يصعب أن يكون مؤمنا صادقا. لقد قال المسيح الموعود مرارا وتكرارا في شتى الكتابات والخطب أنه يجب السيطرة على الثوائر. لكن مِن ضعفنا أنا لا نعمل بهذه النصيحة كما يجب، سواءً في ذلك عامةُ الأحمديين والمسئولون. فالذين يُسمعون الآخرين كلام حضرته وينصحونهم بكبح الثوائر، وينسون أن حضرته قد قال: “تذلّلوا كالكاذبين وأنتم صادقون”، بل من الملاحظ أن البعض يسعون ليُثبتوا أنهم صادقون ومظلومون على كونهم كاذبين وظالمين، فكيف نقبل بحق هؤلاء أن فيهم ذرة من الإيمان. لأن من مقتضى الإيمان أن يزيل الإنسان الضرر الذي أصاب أحدا منه في حالة الغضب، بدلا من أن يتمسك به. فالمؤمنون يحاولون تدارك الجرح الذي يصيب منهم عواطف الآخرين، ويشعرون بالندم والخجل على الأقل، على ما صدر منهم.

يجب أن نفحص كم منا يفكرون على هذا النحو، فإذا كان قد صدر منهم الظلم بدافع الثورة المؤقتة، فعلى المؤمن أن يتداركه بعد زوال حالة الغضب. أما الذين لا يزيلون ولا يندمون بل لا يؤثر فيهم شيء حتى بعد مرور كل الأحوال، فليس فيهم إيمان حقيقي كما قال سيدنا المسيح الموعود . وإنما آمَنوا رياءً، فمثَل إيمانهم كمثل فقاعة مليئة بالهواء وإنما غلافها فقط من الماء، أما إذا كانت كلها ماء فلا يكون فيها هواء ولا يقال لها فقاعة بل قطرة ماء.

فثمة حاجة ماسة كما قلت لاستعراض أوضاعنا، لنرى كم مرة صبرنا على الاعتداء علينا، ولم نردّ عليه مغلوبين بالغضب. وليفحص المسئولون كم مرة سنحت الفرصة أن اعتدى عليهم طرف ما لكنهم حكموا بإنصاف مؤدين مقتضيات العدل، دون أن يبالوا بذلك الاعتداء. إذا لم يقاوم المرء خصما قويا وقال إني أصبر على ذلك فأنا صبور فليس من الصبر في شيء. كلا بل الصبر أن لا يعاقب المرءُ مع أنه قادر. هنا أوضِّح أمرا أن نظام الجماعة إذا كان يوصي بمعاقبة أحد بمقتضى العدل والإنصاف، فهذا العقاب لا يندرج تحت هذا. لأنه إذا كان أحد يستحق العقاب على خطيئته فالعفو عنه يصبح إثما. إذا كان أحد يتجاوز حدوده في شئونه ويرتكب الظلم فمَثل معاقبة القاضي أو الحاكم له كمثل معاقبة الأساتذة والوالدين للأولاد. فهذه العقوبة تصدر نتيجة جريمته أو مخالفته للحكم الشرعي أو هضمه حقوقَ الآخرين. كان هذا التوضيح ضروريا لأن بعض الناس يعتدون ويخالفون قوانين الشريعة، ويغصبون حقوق الآخرين أيضا وعندما يعاقبهم نظام الجماعة يكتبون إلي بعد سماع كلامي -كما أخبرتكم في السابق مرارا أيضا، وربما سيكتبون الآن أيضا بعد سماع خطبتي هذه أنك ألقيت الخطبة على موضوع العفو والصفح- فنرجو أن تعفو عنا أيضا. ففي هذا المجال قد قلت مرارا في الماضي أيضا إني لا أعادي أحدا شخصيا. بعضهم يرسلون إلي رسائل مليئة بالشتائم فلم أغضب عليهم أيضا ولم تنشأ في قلبي قط ثوائر الغضب عليهم. فهم عادة لا يكتبون أسماءهم، أو يكتبون أسماء مستعارة، لكنني أؤكد لهم بأنهم لن يتعرضوا لأي إجراء ضدهم حتى لو كتبوا أسماءهم أيضا، بل أشفق عليهم وتكون لي مناسبة لإكثار الاستغفار، فإن هذا الموقف مفيد لي دومًا. لا يعاقَب أحدٌ إلا عند اغتصابه حقوق الآخرين أو عند مخالفته لأوامر الشريعة. ولا تصدر مثل هذه العقوبة بطيب الخاطر وإنما تصدر بكل ألم وأسى. واليوم الذي أتلقى فيه – من نظارة الأمور العامة أو من بريد أمراء البلاد – شفاعةً للعفو عن أحد لأنه أصلح خطأه الذي ارتكبه، يكون أكثر الأيام فرحة لي. ولكن لا تضطروني فيما تفرض عليّ واجباتي القيام به.

«إن الذي لا يؤدي حقوق العباد ولا يتحلى بالأخلاق التي علمَناها الله وفرضها على المؤمن فلا يستطيع تأدية حقوق الله أيضا. فإن صلاتهم وعبادتهم للرياء فقط. لأن عباداتهم لم تخلق فيهم التغير الذي هو من خصائص المؤمن. فلم يحدث فيهم التواضع الذي يقربهم إلى الله.»

كما لا بد أن أقول هنا بأنه عندما يرضى فريقان رفع قضيتهما في “القضاء” ويبتّ فيها “القضاء” أو “نظام الجماعة” على ضوء الأحداث والوقائع فيلقي على أحد الفريقين مسئولية أداء الحقوق – أو يحمّله بدفع المبالغ المالية إذا كانت القضية تتعلق بالمال أو بأداء مسئوليات أخرى – فعلى الفريق الثاني الذي ينال حقَّه أن لا يتعنّد ويتشدد، بل إذا كان الفريق الأول ذا عسرة فيجب أن ينظره إلى ميسرته، هذا هو حكم الله ورسوله بألا يندفع الإنسان بأنانيته فيمارس الظلم على الآخرين.

على أية حال، ينبغي أن نشكر الله تعالى دومًا ونتدبر في أننا أتباع ذلك الشخص الذي سُمّي مسيحًا. ومما يدعو إلى التفكير هو: لماذا سُمّي المسيح الموعود مسيحًا؟ فما الذي يميز المسيح عن الأنبياء الآخرين؟ لا شك أن النبي كان يتحلى بميزات وصفات أعلى وأعظم من جميع الأنبياء الآخرين لأنه كان قد وصل ذروتها لأنه الإنسان الكامل، وشريعته أكمل الشرائع. ولكن عندما نلقي نظرة على الأنبياء نجد كل واحد منهم يتحلى بميزة تميّزه عن بقية الأنبياء. وعليه فيمكن أن يكون ما يميز المسيح الناصري عن الأنبياء الآخرين هو وجهَ شبهٍ بينه وبين المسيح الموعود . لقد وضح المصلح الموعود رضي الله عنه هذه النقطة توضيحًا يأخذ بمجامع الفؤاد، وهو أن ميزة المسيح الناصري تمثّلت في تعليم الرفق واللين الذي قدمه في الأناجيل حيث قال:

“لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. * وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. * وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ.” (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 39-41).

فلا شك أن جميع الأنبياء قد أتوا بتعليم الرفق واللين ولكن المسيح قد ركّز عليه كثيرًا نظرًا إلى ظروف زمنه.فهذا هو التعليم الخاص الذي جاء به المسيح ، فلما سمى الله تعالى المسيح الموعود مسيحًا وشبّهه بالمسيح الناصري فهذا يعني أنه أيضا أُمر بتعليم الرفق خاصة، وإن كان قد سُمّي بالمسيح لسبب آخر أيضا وهو أنه بُعث لهداية النصارى أيضا، كما كان مبعوثًا إلى الأديان الأخرى؛ فقد سمّي بـ “كرشنا” لكونه مبعوثا إلى الهندوس، وبُعث إلى جميع المسلمين وإلى جميع أقوام العالم كنائب وتابع للنبي .

باختصار، هناك تركيز على اسم المسيح ولأجل ذلك قدَّم المسيح الموعود تعليم الرفق واللين ونصح بترك القسوة والشدة. يقول : “يريد الله أن يحدُث في أنفسكم تغيّرٌ تام، ويريد منكم موتًا يحييكم بعده. سارِعوا إلى التصالح فيما بينكم، وأقيلوا عثراتِ إخوانكم. شرير ذلك الإنسان الذي لا يرضى بمصالحة أخيه، ولسوف يُقطَع لأنه يُحدث الفُرقة. تَخلَّوا عن أنانيتكم من كل وجه، ولا تباغضوا، وتذلّلوا ذلةَ الكاذب وأنتم صادقون لكي يُغفر لكم، واتركوا تسمين النفس لأنّ الباب الذي نوديتم إليه لا يقدر الإنسان السمين على الدخول منه.” (سفينة نوح)

فلو لم نضع نصب أعيننا هذه الميزة لكان معناه أننا نخادع العالم، إذ كيف يحق لنا دعوة الآخرين بهذه التعاليم إن لم نعمل بها. فهناك حاجة ماسة لإصلاح أنفسنا. ولا بد أن نقدّم ذلك النموذج الذي يكشف للعالم بأننا قد غلبْنا ثوائرنا وحققنا السيطرة الكاملة عليها.

“… تَخلَّوا عن أنانيتكم من كل وجه، ولا تباغضوا، وتذلّلوا ذلةَ الكاذب وأنتم صادقون لكي يُغفر لكم، واتركوا تسمين النفس لأنّ الباب الذي نوديتم إليه لا يقدر الإنسان السمين على الدخول منه.”

لقد قلت عند افتتاح مسجد أيرلندا: عندما نبلّغ الدعوة هناك فسيسألنا الناس قائلين: تقولون عن المسلمين الآخرين أنهم لم يؤمنوا بالمسيح الموعود لذلك فإنهم متجرّدون من الهداية، أما أنتم فقد آمنتم بالمسيح الموعود ، فما هو التغيير الذي أحدثتموه في أنفسكم بعد هذا الإيمان؟ فلا بد أن تكون نماذجنا العملية متوافقة مع تعاليمنا.

ليس جميع أتباع الأديان الأخرى يرتكبون أعمالا غير أخلاقية. ينبغي أن نفكر في هذا الأمر، هل جميع النصارى وجميع الهندوس أو جميع أتباع الأديان الأخرى أو حتى الذين لا يدينون بأي دين في شجار دائم فيما بينهم؟ كلا، فكثيرون منهم يحبون الصلح والسلام والعدل. فلو كان بعضنا يحبون السلام والبعض الآخرون الخصامَ أو يرتكبون أفعالا منافية للأخلاق فما الذي يميزنا عن غيرنا؟ لن نمتاز عن الآخرين ما لم تنمحِ منا عادة المخاصمة والفساد عملاً بهذا التعليم أو تخف درجتها كثيرا حتى لا يراها أحد. وإذا بقي عدد ضئيل جدًّا للمفسدين فسنكون لأعمالهم من الكارهين.

وهناك أمر للنبي للحد من المنكر حيث قال:

مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا وكان يتمتع بالقدرة فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَليكرهه في قَلْبِهِ.

فينبغي أن ينشأ في المجتمع الأحمدي الشعور بمنع المنكر واللاأخلاقية وكراهتها في القلب أيضا، أو وفق الترتيب المذكور في الحديث ينبغي أن يتولد شعور بالمنع عن هذه الأعمال وبإفهام الناس ونصحهم وبالقضاء عليها أو على الأقل بكراهتها في القلب. فلو نشأ هذا الشعور عند الجميع فلن ينـزل هذا العدد القليل من الناس أيضا من حد الأخلاق، بل كل واحد سيسعى لرفع مستويات أخلاقه. ينبغي ألا نقف إلى جانب الظالمين بل ينبغي أن نسلك طريقًا أمرنا الله تعالى ورسوله به، وهو الطريق الذي ركّز عليه المسيح الموعود في هذا العصر. ينبغي أن نلتزم بالعفو والرفق والصفح والمحبة، وإذا رأينا أحدًا يمارس الظلم على غيره فينبغي أن نحسبه يهاجمنا، بل إنه يهاجم المسيح الموعود لأنه قد احتقر بفعله تلك المهمة التي بُعث لأجلها، فعلينا كفّ هؤلاء المهاجمين، فإن لم نستطع كفّهم باليد فباللسان فإن لم نستطع بذلك فبالقلب، وينبغي أن نكثر من الدعاء لنجاة المظلوم من الظالم. فلو كرهنا الأعمال اللاأخلاقية، وكرهها مجتمعنا لتلاشى من بيننا الظلم وتلاشت هذه الأفاعيل.

لن نمتاز عن الآخرين ما لم تنمحِ منا عادة المخاصمة والفساد عملاً بهذا التعليم أو تخف درجتها كثيرا حتى لا يراها أحد. وإذا بقي عدد ضئيل جدًّا للمفسدين فسنكون لأعمالهم من الكارهين.

ولكن لوحظ أن الآباء والإخوة أيضا يشتركون أحيانا في أعمال الظلم، ولا سيما في الأمور العائلية، ولا يقتصر الأمر على هذا بل – بدلا من إسداء النصح – يشترك في هذا الظلم آخرون أيضا بحجة الصداقة مع صاحب القضية. فبدلا من أن نشترك معهم في الظلم ينبغي علينا – من أجل إصلاح المجتمع – أن نَعُدّ الهجمة على المظلوم هجمةً على المسيح الموعود ، فلو فعلنا ذلك لرأينا كيف ينصلح مجتمعنا بسرعة فائقة، وفي هذه الحالة ستصبح تصرفاتنا وأعمالنا أيضا مُسهمة في تحقيق أهداف المسيح الموعود . وفقنا الله تعالى لتحقيق نماذج الأخلاق العليا في أنفسنا وفي الآخرين أيضا، وألا نكون من الذين يشتركون في الخصومات وأعمال الفساد فيسيئون إلى المسيح الموعود . جنّبنا الله تعالى كل أنواع النفسانية. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك