سر سعادة المرء "بر الوالدين"
  • والديك سبب وجودك فاحفظهما
  • الإحسان إلى الوالدين توحيد وجهاد
  • توصية الله الخاصة بالأم
  • دور تطبيق التعاليم الإسلامية في معاملة الوالدين في إلغاء فجوة العقوق

__

تحت أبصار معظمنا كنـز لا نضمن بقاءه أبد الدهر، قليل من يقدّره، ولا ينفع التحسر والندم بعد فقدانه وفوات الأوان. إنهما الوالدان اللذان ضحيا براحتهما أيّما تضحية ليريا أبناءهما من الناجحين. إنهما الوالدان اللذان نكسب برضاهما رضى الله .

يعدُّ الإسلام البرّ بالوالدين أفضل أنواع الطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، لأن الوالدين هما سبب وجود الأطفال في الحياة وهما سبب سعادتهم، فكم سهرت الأم على تربية أولادها، وكم قضت ليالي طوالاً تقوم على رعاية طفلها الصغير الذي لا يملك من أمره شيئاً. وقد شقي الأب في الحياة لكسب الرزق وجمع المال من أجل إطعام الأولاد وكسوتهم وتعليمهم ومساعدتهم على تحقيق طموحاتهم.

يحثنا الله سبحانه وتعالى في سور عديدة من القرآن الكريم على حسن معاملة آبائنا:

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (الإسراء: 24).

يوصينا سيدنا محمد بخدمة الوالدين كثيراً فيقول:

رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُل الْجَنَّةَ. (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب).

أي من أضاع مثل هذه الفرصة لفعل الخير الذي يكسبه غفران الله ورضوانه فلا سبيل لوصوله إلى الجنة. فالمؤمن الحقيقي لا يعدُّ والديه اللذين يسكنان في منـزله عبئاً عليه، بل على العكس تماماً، يرى الأمر من ناحية إيجابية بأن الله قد هيأ له فرصة لفعل الخير مع والديه لكسب غفران الله ورضوانه.

فلا يجوز أن نعبّر لوالدينا عن ضيقنا ولا أن نلومهما أبداً، بل علينا التحدث إليهما بأحسن القول، وعلينا معاملتهما بتواضع شديد نابع من رقة بالغة، كما علينا الإنفاق عليهما دون جرح مشاعرهما لا بالفعل ولا بالقول. ويبين سيدنا المسيح الموعود بأن حقوق الوالدين والأولاد والأقارب الآخرين والمساكين كما بيَّنها القرآن الكريم لم ترد في أي كتاب آخر بالشرح والتفصيل نفسه. (الخزائن الدفينة، ص: 388 ).

بعد توحيد الله تعالى، يجب على الإنسان بدافع من الحب والعطف أن يحسن إلى والديه ويعاملهما المعاملة اللائقة عندما يصلان إلى سن متقدم عسير. ذلك لأن العناية والعطف الذي يبديه الآباء نحو الأولاد إنما هو بمثابة الرعاية الإلهية. إن عطف الله تعالى هو العطف الحقيقي، أما عطف غيره فهو عطف ظلّي. ولما كان الآباء في معاملتهم لأولادهم مظهراً لصفات الله إلى حد ما، لذلك ذكر حسن معاملة الآباء بعد ذكر التوحيد. (التفسير الكبير، سورة البقرة، ص:6).

جعل الإسلام إكرام الوالدين ورعايتهما جهاداً يعادل الجهاد في سبيل الله، فلا يخرج أحد إلى القتال وأبوه أو أحدهما يحتاج عونه. جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ َ فَقَالَ جِئْتُ لِأُبَايِعَكَ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَهُ. (مسند أحمد، كتاب مسند المكثرين من الصحابة)

ولا يظنن المرء أن بإنفاقه على والديه وبمعاملتهما معاملة حسنة، يكون قد أدى واجبه تجاههما وأن ذلك يكفي لتعويضهما عن تضحياتهما. بل يعلمنا ربُنا الرحيم وسيلة لأن نتدارك تقصيرنا تجاههما ألا وهي الدعاء لهما، تقول الآية القرآنية الكريمة: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء: 25).

يخبرنا الله تعالى إذاً بأن الإنسان لن يخدم والديه تماماً كما خدماه هما في صغره، لذلك عليه أن يكمل واجبه تجاههما بالدعاء لهما دائماً بالرحمة، ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يحتاج الوالدان في الكبر إلى خدمة تشبه التي يحتاجها الطفل في صغره. فانظروا كيف يصبح الشخص المسن حساساً، رقيقاً يحتاج إلى معاملة خاصة وغذاء خاص. يقول الله :

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُون (يس: 69)

فإنه من النكران والجحود ألا يقابل المرء المعاملة الحسنة بمثلها وأحسن منها. فكيف نهجرهما عند كبرهما ولم يهجرنا في صغرنا؟

يوضح المصلح الموعود بأن الله سبحانه وتعالى علمنا الدعاء لهما بالرحمة لسبب آخر، هو أن الذي يستمر في الدعاء لوالديه لا بد أن يهتم بأداء واجب الخدمة تجاههما أيضاً. (التفسير الكبير، سورة الاسراء، ص: 484)

ولكن المؤسف أن كثيراً من الأبناء والبنات في هذا العصر لا يحترمون والديهم كما ينبغي، ولا يؤدون حقوقهم، خاصة عندما يمر الأبناء بمراحل عديدة من حياتهم مثل المراهقة، الزواج، أو حصولهم على مناصب وظيفية مرموقة. يظن بعض الأبناء أن ما حازوا عليه هو بكد ذراعهم متناسين تضحيات آبائهم واستجابة الله سبحانه وتعالى لأدعيتهم وحرقتهم بشأنهم. لكن لا يدركون خطأهم وتقصيرهم تجاه آبائهم إلا بعد أن يصبحوا بدورهم آباء ولربما وقتها يكون آباؤهم قد فارقوا الحياة، عندها تكون الخسارة مؤلمة.

يروي المسيح الموعود بهذا الخصوص أن هندوسيا علَّم ابنه رغم فقره الشديد، حتى حصل هذا الأخير على شهادة عليا وتقلد منصب حاكم محافظة. فرح أبوه وخرج يوماً لمقابلته في مكتبه. فلما وصل إلى المكتب وجد ابنه جالسا مع كبار الرجال، فدخل في مكتبه بثيابه الرثة البالية وجلس معهم. سُئل الابن عن هذا الشخص الغريب، فخجل ابنه وحاول إخفاء الحقيقة بالقول أنه من بعض الخدم. لكن رجال الأعمال لاموا الابن كثيراً عندما علموا أنه أبوه وأرادوا أن يبدوا للأب الاحترام الواجب. ومثل هذا ما حدث ويحدث كل يوم في العالم.

وهكذا يسيء هؤلاء إلى آبائهم بدلاً من أن يفخروا بهم. يقول المصلح الموعود : “يوجد بين أهل الدنيا عدد قليل جدا ممن يكرمون والديهم حق الإكرام. وهذا العيب موجود بين المثقفين وغير المثقفين على حد سواء”.(التفسير الكبير، سورة العنكبوت، ص:683). لقد ذكر القرآن الكريم الوالدين على وجه العموم، إلا أنه خص بالذكر الأم لأنه أنيطت بها مسئولية تنشئة الأطفال ورعايتهم. ذُكر ذلك على سبيل المثال في سورة لقمان:

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (لقمان: 15).

تبين الآية القرآنية معاناة الأمهات في فترات الحمل والوضع. فهن وحدهن يتمتعن بميزة تغذية جيل المستقبل لأكثر من تسعة شهور. كما أنهن من يرعين أطفالهن رعاية تامة، في المرحلة المبكرة من الطفولة. وهن أيضاً صاحبات الارتباط النفسي الأقوى بالطفولة نظراً لصلة الدم الطويلة والوثيقة بينهن وبين نسلهن.

يقول المسيح الموعود : “المرحلة الأولى من سعادة المرء أن يحترم والدته”. وينقل عن رسول الله بأنه كثيراً ما كان يتوجه ناحية اليمن ويقول في حق أويس القرني: “إني أشم رائحة الرحمن من قبل اليمن”. كما كان يقول: “إن هذا الإنسان مشغول بخدمة أمه فلا يستطيع الحضور إلي” (الخزائن الدفينة ص: 389).

في عصرنا الراهن أيضاً، هناك شباب يقصرون تجاه أمهاتهم، كثيراً ما نسمعهم يقولون: “إن أمي عصبية ولها عقلية قديمة فلا عجب ألا تتأقلم معها زوجتي العصرية المثقفة”. فسبحان الله كيف يحكمون؟ شتان بين الأم والزوجة! فما هي التضحية التي قدمتها زوجته من أجله؟ إنها تخدمه وهو شاب، ولكن أمه قد أرضعته من ثدييها وهو طفل صغير. فأمه التي أرضعته دمها لبنا وقامت بتربيته وتعليمه بمشقة وعناء يعرض عنها زاعماً أن زوجته لا ترتاح لها. هلموا ننهض جميعاً ونخدم أمهاتنا ونوجه أطفالنا وأزواجنا لخدمتهن حتى نتمتع بالجنة التي قد جعلت تحت أقدامهن. انظر كيف يكون حالك إن خاصمك صديقك المقرّب ولم يعد يكلّمك، فكيف إن خاصمك الله جل شأنه ورفض النظر إليك؟

قَالَ رَسُولُ الله : ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَنْظُرُ الله إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة. الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ الله إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ وَالْمُدْمِنُ الْخَمْرَ وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى. (مسند أحمد، كتاب مسند المكثرين من الصحابة).

إن الحالة الوحيدة التي أمرنا الله فيها عدم إطاعة الوالدين هي إذا أمرونا بالإشراك بالله تعالى أو بأي معصية، أما فيما سواها من معاملات الدنيا فينبغي أن نعاملهما بالحسنى ونطيعهما طاعة كاملة. يقول الله سبحانه وتعالى

: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَـبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (العنْكبوت: 9)

المراد من قوله تعالى “فلا تطعهما”: أي حيث أن الله تعالى هو الذي أمر المؤمن بالإحسان إلى والديه فكيف يمكن أن يسيء معاملته مع الله تعالى الذي هو أكثر إحسانا من والديه، فيطيعهما إذا أمراه بخلاف مشيئة الله تعالى؟ إذا فمن واجب الإنسان أن يعامل والديه بالحسنى دائماً ولا يعصيهما أبداً إلا في هذه الحالة الاستثنائية. (التفسير الكبير، سورة العنكبوت، ص: 683). ويأتي بهذا السياق الحديث الشريف التالي:

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ. (مسند أحمد,،كتاب باقي مسند الأنصار).

هكذا يوصّينا القرآن الكريم أن نحرص على اللطف والعطف مع والدينا. وبالتالي تُرسم أروع العلاقات بين جيل حالي وجيل يسبقه يقترب من النهاية.

لو تعلمت المجتمعات المعاصرة الدرس من هذه الوصايا لاختفت كثير من المشاكل والفجوات بين الأجيال التي تواجهها اليوم. ولما شعر الأشخاص، في المجتمعات الأجنبية، بالقلق إزاء تقدمهم في السن إلى درجة وضع لصاقات على الزجاج الخلفي لمركباتهم تقول: “كـن حليماً مع أولادك لأنهم هم الذين سيختارون لك بيت الشيخوخة”، ولما كانت هناك حاجة لبيوت المسنين إلا لمن حرموا لسوء الحظ من أهل يرعونهم.

وتكاد تخلو المجتمعات الإسلامية من دُور تُؤوي آباء وأمهات مهجورين على خلاف ما تشهده المجتمعات الأخرى. للمرأة المسلمة مساهمة كبيرة في ذلك، إذ أن دورها في بيتها وبيت أسرتها أبعد من أن ينتهي مع تقدم الأطفال في السّن. فهي محور أساسي يربط بين الماضي والمستقبل.

إن ما يميز المرأة والأم هو عطفها الدائم واهتمامها الإنساني وقدرتها الفطرية على رعاية من هم بحاجة إلى الرعاية. وعندما تكون تلك المرأة مسلمة وأحمدية أيضاً فهي تعي تماما حدود الله وتعي حجم مسئوليتها. كل ذلك يأتي إلى نجدة الكبار في السِّن من الأقارب. إنهم يظلّون أعزّة موقرين كما كانوا من قبل ولا ينفكون أعضاء كاملين من الأسرة. فتقوم الأم بالدور الأكبر في رعايتهم وتوفير الصحبة لهم. هكذا تطمئن الأم المسلمة إلى أن مجتمعاً كهذا لن ينبذها أو يتركها مهجورة عندما يتقدم بها العمر. يقول الحديث الشريف في هذا المجال:

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله فَقَالَ :يَا رَسُولَ الله مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ. (صحيح البخاري، كتاب الأدب).

هلموا الآن نقبل أيدي والدينا ونطلب منهما السماح على تقصيرنا معهما. هلموا نغيّر سلوكنا معهما، فلا تكون نظرتنا إليهما إلا بعين الرحمة والرأفة. هلموا نخفض لهما جناح الذل من الرحمة، هلموا نَسْعَ جاهدين لتحقيق أبسط أمنية لهما ونلبيهما قبل حتى أن يطلباها، هيّا نَفُضَّ الخلافات الدنيوية التي من شأنها أن تبعدنا عن فرصة البر بآبائنا وتبعدنا عن الثواب ونستقي من نبع الحنان ومن التجارب العميقة في الحياة التي كسبوها عبر الزمن لنكتسبها نحن وأطفالنا، فنكوِّن مجتمعاً واعياً مدركا لمسئولياته كما يريد لنا الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك