العفو طريق الإصلاح
  • ما هو خُلُق العفو؟
  • متى يكون العفو خلقا محمودا؟ ومتى يكون مذموما؟

___

الثواب والعقاب أسلوبان متعاضدان من أساليب التربية، وفيما يخص العقاب، فهو أمر ضروري في أحيان كثيرة، ولكن، دعونا نتخيل، ماذا لو أن كل من يسيء ينال العقاب بشكل فوري؟! لا شك أن كثيرا منا يتبادر إلى ذهنه قول الله تعالى:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (1)..

إذن نستنبط من قول الله تعالى في آية سورة فاطر أنه عز وجل يؤخر إنزال العقاب بالمسيء في بعض الأحيان، وإلا ما ترك على ظهر الأرض إنسانا، إذ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»(2). يتضح لنا إذن أن العفو صفة إلهية، وهو اسم سمى به الله نفسه، ولا يتصور عاقل أن يدعونا الله تعالى للتخلق بخلق لا يتصف هو به، ألا نقرأ قوله تعالى:

….وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).

ما العفو؟

ويمكن تعريف العفو اختصارا بأنه خلق رفيع، يتمثل بأجمل صوره في المبادرة  بالصفح عن المسيء عند المقدرة  على العقاب. وهذا الخلقُ السامي يلعبُ دوراً مهماً في خضوع المسلم واستسلامه لله .

عمن نعفو؟!

حين يُطرح الحديث على مائدة الأخلاق عن خُلق العفو، لا شك أن تساؤلا ما يفرض نفسه، وهو: هل يشمل العفو فقط من نحب؟! أم ترى علينا أن نعفو أيضا عمن نكره؟!

إن العفو إذا كان فقط عمن نحب، فلا شك أنه يخرج من دائرة الأخلاق بعض الشيء، ليصير فعلا طبعيا، فمن منا لا ينساق أحيانا إلى العفو عن ولده المخطئ فقط بدافع غريزة الأبوة أو الأمومة؟! لا شك أن هذا الفعل لا يكون خلقا في هذه الحال. إننا نتحدث هنا عن أوضح مظاهر العفو، وهو أن نعفو حتى عن من نكره. والحق أن استخدامنا تعبير «من نكرهه» هنا فيه شيء غير قليل من عدم الدقة، لأن الرغبة في العفو أصلا تتولد في قلب صاحبها بدافع الرغبة في إصلاح المسيء، وهذه الرغبة في الإصلاح تنبع من حب كامن، قد لا ينتبه إليه الشخص نفسه الذي يبغي ذلك الإصلاح، فالعفو بغية الإصلاح هو صورة عميقة من صور المواساة العامة للخلق.

وفي خضم حادث الإفك دروس مستفادة علمناها القرآن الكريم وتطبيقه الأجمل المتمثل في السنة النبوية المباركة، حين حثنا الله تعالى على ممارسة خلق العفو حتى تجاه المسيئين لنا والذين قد تتولد الكراهية في قلوبنا تجاههم، فيقول تعالى:

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (4).

والآية الكريمة من سورة النور تتضمن درساً عميقا حيث يبين الله تعالى أن ما أمرنا به القرآن الكريم من مساعدة الأقارب والمساكين والمهاجرين ليس أمراً مشروطاً بأن ننفق عليهم إذا رضينا بهم وإلّا فلا، بل علينا أن ننفق عليهم دائماً. وإذا فعلوا ما لا يعجبنا فلا يجوز لنا أن نحلف بأننا لن ننفق عليهم بعد ذلك، بل علينا أن نعفو ونصفح عنهم»(5).

الفرق الدقيق بين التسامح والعفو

قد يظن البعض أن التسامح والعفو لفظان مترادفان لمفهوم واحد، وكأن المسألة مجرد تنوع لفظي جمالي لا قيمة أخرى وراءه، ولكن المسيح الموعود يشرح لنا الأمر باستفاضة في كتابه الشهير «فلسفة تعاليم الإسلام» مبينا أن التسامح والعفو ليسا مصطلحين لصفة أخلاقية واحدة، ويوضح  الفرق بين التسامح والعفو فيقول بأن التغاضي على سبيل التسامح يكون للفعل العابث الذي لا يعود منه ضرر حقيقي بل يكون مجرد ثرثرة من قبل العدو. أما إذا تجاوز الإيذاء حد اللغو، وعاد بضرر حقيقي على الحياة أو المال أو العرض، فإن الإعراض عن المعتدي يسمى هنا عفواً(6).

تطبيق العفو بين نموذج الحق الشخصي والحق الاجتماعي

حين بالغت قريش في إيذاء رسول الله وأخرجته من بين أهله وعشيرته.. وقتلت من أصحابه في يوم أحد سبعين كما جُرح وكسرت رباعيته وشُجَّ وجهه ظلَّ يدعو سائلا الله المغفرة لقومه، ولعلَّ أعظم مثال لتسامح النبي   حين دخل مكة المكرمة فاتحاً منتصراً في السنة الثامنة من الهجرة ، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة. وقد امتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً، يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله وهم الذين آذوه، ورموا التراب على رأسه الشريف وهو ساجد، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، وتآمروا عليه بالقتل، وعذبوا أصحابه وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكن صاحب الأخلاق النبوية قابل كل الإساءات بالعفو والصفح والحلم، حتى إن مما يروى بهذا الصدد مشاهد عفوه الكثيرة عن المسيئين بحقه هو شخصيا، فعفا عن قاتل ابنته وعفا عن قاتلي عمه، وعفا عمن ذكر أزواجه بسوء، غير أن الضبط النفسي والحزم يتجليان كذلك في نفس الوقت في الخلق النبوي، حين رفض العفو حين تعلقت الإساءة بحق المجتمع، فعاقب حضرته كعب بن الأشرف حين تعلقت الإساءة بحق المجتمع وأمنه واستقراره.

قد يظن البعض أن التسامح والعفو لفظان مترادفان لمفهوم واحد، وكأن المسألة مجرد تنوع لفظي جمالي لا قيمة أخرى وراءه، ولكن المسيح الموعود يشرح لنا الأمر باستفاضة في كتابه الشهير «فلسفة تعاليم الإسلام» مبينا أن التسامح والعفو ليسا مصطلحين لصفة أخلاقية واحدة، ويوضح  الفرق بين التسامح والعفو فيقول بأن التغاضي على سبيل التسامح يكون للفعل العابث الذي لا يعود منه ضرر حقيقي بل يكون مجرد ثرثرة من قبل العدو. أما إذا تجاوز الإيذاء حد اللغو، وعاد بضرر حقيقي على الحياة أو المال أو العرض، فإن الإعراض عن المعتدي يسمى هنا عفواً

نموذج العفو الإنساني الأبرز!

ما أعظم نبينا! حقاً قَالَتْ عنه أمنا عائشة :

«كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »(7).

لنمعن النظر في الآية القرآنية التالية ونرى تطبيق الرسول الكريم لأحكام الله تعالى بحذافيرها مع كل من أساء إليه شخصيا. علّنا بذلك نتأسى برسولنا الكريم فنطبق أحكام الله تعالى في كل لحظة من لحظات حياتنا القصيرة! أولاً كان  يصبر على الأذى ولم يسئ لمن أساء إليه، بل على العكس كان يعاملهم بكل رفق وحلم. ثانياً كان يدعو لهم بالمغفره حتى تحول الكثير من الأعداء إلى أصدقاء بفضل الله تعالى وبفضل لين قلب الرسول وخلقه السامي. يقول الله تعالى في الأية الكريمة:

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (8)..

لقد كان العفو يصدر من قلبه إذ كان يؤمل إصلاح المسيء، أليس هذا تعبير عن الحب؟! بل إن كافة أفعاله كانت تنبع بتأثير المحبة المتدفقة من قلبه الطاهر، حتى العقوبات، فما كانت إلا بهدف الإصلاح، إما للمسيء نفسه أو للمحيطين الذين يعتبرون بمعاقبته، ولنا أن نتمعن في قوله تعالى:

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (9).

قد يتصور البعض أنه إذا كان الله يحب المؤمنين المحسنين ويظلهم بظله، فلا بد أنه يكره الكافرين والمتخاصمين المتباغضين! كلا بل الله العزيز الكريم هو مانح الفرص الذهبية، ولكننا بلغنا من الحمق مبلغا لا نستفيد معه من تلك الفرص، وكم من فرص الإمهال ذكرها الله تعالى حين تتعلق الإساءة بحقه مثل:

فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (10)

وأما عن العلاقات الإنسانية، فالله يمهل المتخاصمين حتى يتصالحوا وينالوا أجر المحسنين فيدخلهم في رحمته. يبين الحديث الشريف ذلك بشكل جلي،

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اتْرُكُوا أَوْ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا»(11).

فكم منّا يصفح في هذه الأيام عمّن أساء إليه ويدعو له بالمغفرة أسوة بنبينا الكريم؟! ففي عفو الإنسان وصفحه عن أخيه المسيء طاعة لله وامتثال لأوامره، بالإضافة إلى أنها رحمة بالمسيء ورأفة بضعفه، كما أن بالعفو والتسامح يتحقق السلام الداخلي أولا وهو شعور الإنسان بالرضا عن النفس وعن كل من حوله دون أن يحمل أي كره أو بغض لأحد، ثم السلام الاجتماعي ثانيا، إذ كيف نتوقع شعور الفائز بالعفو تجاه العافي عنه؟! لا شك أنه شعور جميل حقا.

هلموا نضع أيدينا في أيدي إخواننا المسيئين ونعفو ونصفح عنهم لنخلق مجتمعاً سليماً تسوده الألفة والمحبة والتسامح بذلك نخلق معاً قوة إيمانية بعيدة عن المشاحنات والنزاعات، فنعبد الله حق عبادته فيرضى عنا ويرضينا.

 

الهوامش:

  1. (فاطر: 46)
  2. (سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله)
  3. (النور: 23)
  4. (النور: 23)
  5. التفسير الكبير، المجلد:6، ص:349
  6. فلسفة تعاليم الاسلام، ص59
  7. (مسند أحمد,، كتاب باقي مسند الأنصار)
  8. (فصلت: 35-36)
  9. (البقرة: 180)
  10. (الطارق: 18)
  11. (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب)
Share via
تابعونا على الفايس بوك