قراءة في كتاب «أدِلة على وجود الله»

قراءة في كتاب «أدِلة على وجود الله»

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • ما هي تلك الأدلة العشرة؟
  • ماذا يميز تلك الأدلة عن غيرها مما تناوله المفكرون السابقون؟

 __

هذا الكتاب .. لماذا؟!

في وقت ما من الأوقات العصيبة التي مرت بها المجتمعات الإسلامية التي وقعت تحت نير الاحتلال الأوروبي خلال الفترة ما بين القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، أخذت تلك المجتمعات الإسلامية تصاب شيئا فشيئا بعدوى المرض الذي جلبه المحتل الأوروبي معه من مجتمعاته، والتي كانت ترفع شعار الدين المسيحي، غير أن مآلها كان في هاوية الإلحاد في الواقع، فكان من الطبيعي أن تنتقل عدوى الإلحاد إلى أهل البلاد المحتلة، لا سيما الذين مالوا إلى بهرج مظاهر الحداثة الأوروبية، وهذا أمر جرى عليه العمران البشري منذ القدم، من «أن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب»(1)، فكان هذا سبب سقوط أكثر المسلمين المتأخرين في فخ الإلحاد، وهو المرض الذي جلبه معهم المستعمرون، كما جلبوا معهم الإنفلونزا وأمراضا عضوية أخرى إلى الأمريكتين، فكانت الأمراض الروحية والعضوية التي حملها المستعمرون أشد فتكا بأهل البلاد الأصليين من أسلحة هؤلاء المستعمرين النارية.

وإذا يممنا شطر المشرق، ونظرنا الجو السياسي العام في شبه القارة الهندية، وجدنا أن حواضرها الأشهر، وعلى رأسها دلهي، حاضرة سلاطين المغول المسلمين، وقفت حجر عثرة أمام استتباب الأمور لجحافل البريطانيين في المنطقة، وقد كان البريطانيون على قدر من الدهاء السياسي أوحى لهم نشر ثقافتهم بين جموع المسلمين، بحيث صاروا أتباعا أوفياء لثقافة المحتل، ومن ثم سياساته الاستعمارية. فبما أن الإسلام هو جامع أشتات المسلمين، فلم لا يُفرَّق بينهم بالنفخ في نار التنصير؟! فإن انطفأت نار التنصير بفضل بعث المسيح الموعود خلال أواخر القرن التاسع عشر، فلم لا تعاد الكرة، ولكن هذه المرة ببذر آفة الإلحاد، ولكن تحت ستار أقوال وأسئلة تبدو مشروعة، على رأسها ضرورة مواكبة المسلمين أجواء الحداثة الأوربية، بحيث أدى بهم الأمر في نهاية المطاف إلى إنكار ما يعتبر معلوما من الدين بالضرورة، وإن كنا نتعامل بالحذر مع هذه المقولة التي أسيء فهمها طوال قرون، فذلك المعلوم من الدين بالضرورة الذي نعنيه هو وجود الله ، وحقيقة تأثير الدعاء، وما إلى ذلك من القضايا التي هي أصل أصيل في العقيدة الإسلامية.

وكان من نماذج إنكار جدوى الدعاء وضرورته في زمن المسيح الموعود السيد أحمد خان، وهو شخصية إسلامية مرموقة، ويرجع إليه الفضل في إنشاء جامعة عليكره في الهند، كمؤسسة علمية إسلامية على الطراز الغربي، بهدف فتح آفاق المسلمين في الهند على العالم، وإيرادهم من بحر العلوم الغربية بعد أن ظلوا مكتفين بدراسة العلوم الشرعية التقليدية قرونًا، فتأخروا عن ركب الحضارة الحديثة. في الواقع كانت مساعي السيد أحمد خان محمودة ولا شك، غير أن كون المساعي محمودة في حد ذاتها لا يضمن لها أن تكون ناجحة. ذلك أن تأثر السيد أحمد خان بالحضارة الغربية أصابه بنوع من الزكام الروحاني، الذي أثر على حاسة ذوقه ففقد الإحساس بأثر الدعاء في حياة الخلق، وعلاوة على ذلك فقد تأثر الرجل كذلك بمشهد التقدم الدنيوي الذي يحظى به أهل الغرب الذين لا يقيمون للدعاء أي وزن»(2). لما ضعفت علاقة الناس بدينهم وربهم، غادرتهم المعية، فتغبَّش على القلوب وجود الله ذاته، وأصيبت الأعين الروحية بالعمى، فلم تعد ترى جمال الله وكماله، وضُرب بينها وبين آيات الله وأدلة وجوده حجاب قاتم(3).

ومع انتشار نظم التعليم الغربية في الهند، متمثلة في مدارس وجامعات ذات أسماء وإدارة إسلامية، كجامعة عليكرة المذكورة، تخرج جيل وتبعه جيل من الشباب المسلمين، الذين كانوا في الواقع قنابل إلحاد موقوتة، وشاعت فيما بينهم التساؤلات الإلحادية الأبرز، نحو «لماذا لا نرى الله جهرة إن كان له وجود حقيقي؟!».. قد رأى أحد شباب المسلمين الغيوريين على الإسلام وأهله، أن الظاهرة تستحق الدراسة والمواجهة، فطوفان الإلحاد يوشك أن يُغرِق كثيرا ممن يحبهم من أترابه، فكتب مقالا نشره في مجلة أصدرها وأشرف بنفسه على كتابة ونشر مقالاتها، حمل ذلك المقال عنوان «أدلة على وجود الله»، ونُشر في مجلة «تشحيذ الأذهان» في عدد مارس من عام 1913م، وقد كان ذلك الشاب النابه حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد والذي سيصبح فيما بعد الخليفة الثاني للجماعة الإسلامية الأحمدية.

كتاب هدفه المواساة أولا وأخيرا

إن مدار الحياة الإنسانية هو معرفة الإنسان ربه ، تلك المعرفة التي بتحققها على الوجه الأتم يتحقق الهدف من وجود الخلق بشكل عام، يقول تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (4).

وكمسلمين، نرى أن الأدلة على وجود الله لا حصرَ لها، ولكن رؤيتنا هذه لا يحق لنا فرضها بالقوة على من لا يؤمن بها، فالإيمان والكفر خياران شخصيان بامتياز. ولئن آمن من في الأرض جميعا أو كفروا جميعا، فلن ينفع الله تعالى إيمانهم بشيء ولن يضره كفرهم بشيء، إنما المَعْنِيُّ بالإيمان أو الكفر هو الإنسان بحد ذاته، لذا ننشر ما نراه دليلا مثبتا لوجود الله تعالى كي ينتفع منه الآخرون، وهذا من باب مواساتنا ومحبتنا للخلق، وهذا بالضبط كان هدف المؤلف ، فإن نلقِ نظرة على مقدمة الناشر، نقرأْ فيها نقلا عن المؤلف ما تعريبه: «وفي النهاية، أرجو من الذين يقع هذا الكتيب في أيديهم، أن يعطوه بعد قراءته أحبابا آخرين»(5)

تخرج جيل وتبعه جيل من الشباب المسلمين، الذين كانوا في الواقع قنابل إلحاد موقوتة، وشاعت فيما بينهم التساؤلات الإلحادية الأبرز، نحو «لماذا لا نرى الله جهرة إن كان له وجود حقيقي؟!».. قد رأى أحد شباب المسلمين الغيوريين على الإسلام وأهله، أن الظاهرة تستحق الدراسة والمواجهة، فطوفان الإلحاد يوشك أن يُغرِق كثيرا ممن يحبهم من أترابه، فكتب مقالا

مطلب استقلالية الفكر

ثمة سؤال آخذ في الانتشار، ومن غير الحكمة تجاهله، ألا وهو: أيمكن أن يكون لنشأة الطفل في بيئة ما دور في غسيل دماغه ووضعه في قالب فكري يتعذر عليه تغييره حين ينضج؟! والحق أن هذا السؤال مشروع فعلا، بل وله أصل أصيل في ثقافتنا الإسلامية، حيث ورد

عن رَسُولُ اللَّهِ أنه قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»(6)..

وخلال كتيب «أدلة على وجود الله» ينهج المؤلف منهج العرض الإقناعي الحر، داعيا الفطرة السعيدة إلى طرح التساؤلات، والبحث عنها بنفسها، والوصول إلى الجواب المؤكد لذلك الوجود الأسمى والفاعل، أي وجود الله تعالى. طبعا لا ننفي أن المشككين في وجود الله أيضا ينهجون أسلوبا مشابها، حين يطرحون التساؤلات على ضحاياهم الفكريين، من أبناء أو تلامذة أو أقران، بيد أن ثمة فارقا عظيما، ذلك أن المشككين يتبعون طريقة الفرض القسري لاعتقادهم السلبي، وليست لديهم القدرة على جعل التساؤلات تنبع من تلقاء نفسها في عقل الضحية.

الأدلة في عرض شديد الإيجاز: بما أن الكتاب في الأساس مؤلف دحضا لقول الملحدين الأبرز «أرونا الإله إن كان له وجود!»، فقد رأى حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد أن يفتتح أدلته بدليلين هما في الواقع الأساس الذي تنبني عليه سائر الأدلة اللاحقة، وهو أساس فكري مناسب تماما لسؤال الملحدين نفسه وأسلوبهم في التفكير.. أليس إنكار الملحدين حقيقة وجود الله مرده إلى عدم عجزهم عن إدراكه بالحواس؟! فهنا ارتأى المؤلف أن يشرح أولا دور الحواس في تحصيل المعرفة، وبيَّن أن لكلٍّ حاسة محسوس يُدرَك وجودُه عن طريقها، وليست رؤية العين هي كل شيء، وإلا فلننكر إذن كل ما لا يمكننا إدراكه بالبصر مثل الرائحة وجمال الصوت وحلاوة العسل ومرارة الصبار وصلابة الحديد، لأن هذه الأشياء لا نراها رأي العين، بل ندركها بحواس أخرى.

وأما الدليل الثاني فمن خلاله يشرح حضرته أن الأشياء من حولنا نوعان: محسوسات ومجردات، والمحسوسات هي كل ما له وجود مادي، أما المجردات فوجودها معنوي. وبعدما عرفنا أن البصر ليس الحاسة الوحيدة الصالحة لإدراك كل المحسوسات، يطرح تساؤله عن المجردات، ويدعونا إلى التساؤل بدورنا عن الحاسة المناسبة لإدراكها، مسترشدا في ذلك كله بمعنى اسم الله تعالى «اللطيف»، وقوله :

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (7)،

ليصل القارئ بنهاية هذا الدليل إلى التسليم بأن الحواس الخمس المعروفة ليست كل شيء، وأن لدى الإنسان حواس أخرى مادية كثيرة، ناهيك عن حواس عقلية ربما أكثر.

وأما الدليل الثالث، فيبدو من خلاله أن لدى المؤلف بصيرة نافذة بسنن التاريخ، حيث يستدل فيه على وجود الله باتفاق الأمم الخالية، والتي اتفقت بالفعل على حقية الدين، وعبادة الإله، على الرغم من انقطاع سبل تلاقح الأفكار وتبادلها قديما. وهذه الملاحظة التاريخية لأمر جدير بالتفكر، والمشككون في وجود الله يقرون باتفاق الأمم الخالية على وجود ذات معبود، ولكنهم يزعمون أن هذا الاتفاق كان مرحلة من مراحل التطور الفكري الإنساني، فعجبا لهم! كيف يحكمون؟!

وفي الدليل الرابع يخاطب حضرة المؤلف ضمائر المشككين، والذين يرفعون شعار الموضوعية والتجريب في كل محفل. فمن المتعارف عليه أننا نسلِّم بكلام ذوي الخبرة وأصحاب التجربة، لا سيما إذا ثبت صدقهم لنا في أكثر من مناسبة، أمن الموضوعية إذن ألا نصدق قول من ثبت صدقهم من خلال تضحياتهم حين يشهدون على وجود الله؟! فلماذا لا يمكن أن يثبت وجود الله تعالى بشهادة آلاف المجربين الصادقين، بمن في ذلك رسل الله أو أوليائه الصالحون؟!

وفي الدليلين الخامس والسادس، يخاطب المؤلف فطرة القارئ، مبينا أن الأديان في أصلها جاءت موافقة تماما للفطرة الإنسانية، فحثت على ما تحبه الفطرة، وحذَّرت مما تنفر منه الفطرة أيضا، بما في ذلك فطرة الإنسان الملحد أيضا.

وأما الدليلان، السابع والثامن، فيخاطب بهما المؤلف العقلية الإلحادية القابعة في المختبرات، والتي انشغلت بخلق الكون زاعمة أن منشأه محض صدفة، فيدحض المؤلف بكلمات قليلة قولهم بالصدفة، حتى إن القارئ سيدرك أن القول بالصدفة ليس إلا تعبيرا عفويا عن عجز هؤلاء على إدراك بداية الخلق.

و يورد حضرته الدليل التاسع ـ وهو  النَّصر حليف المؤمنين والعزّة لمن يرفع اسم الله تعالى:

نستخلص مما آل إليه حال فرعون لما دعا موسى لطاعة الله ومنعه استكباره من ذلك، فأخزاه الله تعالى في هذه الدنيا وفي الآخرة. فقد أصبح في حد ذاته سُنَّةً إلهية بيِّنةً على أن منكري وجود الله تعالى يَلقون الذل والهوان دوما.

والذين فتحوا الدنيا وأصلحوا البلاد وصنعوا التاريخ هم ممّنْ يؤمنون بالله تعالى.

فإذا لم يكن هناك إلهٌ فمن الذي قام بتأييد القائلين بالذّات الإلهية وكيف يفلح المؤمنون الحقيقيون بها دائمًا، لم تعرف الأرض مرسَلاً واحدًا  أتى لإثبات ألوهية الله وأخزتْهُ الدنيا ويختم حضرته الأدلة بما يعتبره أهم دليل وهو استجابة الدعاء

فعندما يدعو الإنسانُ ربه تعالى بخشوع واضطرار يعبؤ الله به. ويستجيب دعاءه. واستجابة الدعاء المستمرة تكون مصحوبة بالآيات والمعجزات بما يُثبِت أن هناك من يتقبّلها.

أما عن الإلهام فهو دليلٌ ذو شأن عظيم للغاية يُثبَت من خلاله وجودُ الله تعالى يقينًا.

فما دام الله تعالى يكلِّم عددًا كبيرًا من البشر في كل زمان فكيف يمكن أن يصحّ إنكارُه؟ ولا يكلِّم الأنبياءَ عليهم السلام والرسلَ فحسب بل يحدّث الأولياءَ أيضًا. وفي بعض الأحيان يتكلم مع أحد من عباده الضعفاء رحمةً منه لطمأنته. وليس هذا فقط بل إنه أحيانًا يتكلم مع أناس سيّئين وخبيثي الباطن أيضًا لإتمام الحجّة عليهم.

والدليل على أنها من ذاتٍ عظيمة هو أنها أحيانا تتضمّن أخبارا غيبية تتحقّق في وقتها .

فنبوءات الأنبياء عليهم السلام التي تحققت لا حصر لها، وإنكار وجود الله تعالى مع وجود النبوءات الإلهية ليس إلا بعدًا عن الإنصاف وخسارة وتفريطًا عظيمًا في جنب الله.

وتبقى الحقيقة من نصيب من يسعى إليها فيدعو حضرته من لديه لوعة في قلبه لمعرفة الحق والحقيقة إلى طريقة فعالة انتفع بها كل من عمل بها.

فلو دعا أحدٌ بصدق القلب وواظب عليه أربعين يومًا على الأقل فليهدينَّه ربُّ العالمين أيًّا كان دينه وأيًّا كان بلده، وسيَرى سريعا أن الله تعالى سيُثبت له وجودَه بحيث يزول من قلبه الشكّ والشُّبْهة كليّا.

تذكير أخير: هذا الكتاب وإن صغر حجمه، فقد عظمت قيمته ونفعه، لا على المستوى الروحي فقط، بل على المستوى العقلي أيضا، وهو من السهولة في ألفاظه بحيث يوصى باقتراحه على أبنائنا اليافعين، وسائر أحبابنا، كما أوصى بذلك مؤلفه . وقطعا لا تغني هذه المراجعة الموجزة للكتاب عن قراءته كاملا، فكثيرا ما تستتر الكنوز فيما بين السطور.

الهوامش:

1. مقدمة ابن خلدون

2. علاج الزكام الروحاني قراءة في كتاب المسيح الموعود “بركات الدعاء”، سامح مصطفى،  مجلة التقوى، مارس 2021

3. انظر: «وجود الله تعالى»، فتحي عبد السلام، مجلة التقوى،  مايو 2012

4. (الذاريات: 57)

5. مقدمة الناشر، «أدلة على وجود الله»، الطبعة العربية الأولى،: مير أنجم برويز، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن، 2016

6. (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن)

7. (الأَنعام: 104)

Share via
تابعونا على الفايس بوك