البقاء بالعطاء، وبؤس العالم مع الاقتصاد الربوي

البقاء بالعطاء، وبؤس العالم مع الاقتصاد الربوي

التحرير

  • أيبدو حقا أن أزمات العالم الاقتصادية ترجع إلى فقر العالم بالمقدرات والموارد؟!
  • ما التوصيف الإسلامي لظاهرة تجمُّع الثروة في يد فئة قليلة بصورة دائمة؟
  • إلى أي حد بلغ مقت الشريعة لتلك الظاهرة؟
  • ما الحل الجذري الذي قدمه الإسلام للحيلولة دون معاناة العالم من بلايا الاقتصاد تلك؟

__

لا يزال العالم يساوره القلق، وقدر عظيم من المخاوف، على الرغم من مرور عامين على انقضاء جائحة كورونا المريرة، لا سيما بعد ظهور سلالات الفيروس المتحورة الجديدة وتراكم الخسائر البشرية من جراء الجائحة. ولم يلبث العالم أن استعاد عافيته وتفاؤله ببطء شديد، إلا ووقع ما يقض مضجعه، حتى أخذ يسر في نفسه: لَلاِنكواءُ بنار كورونا خير من التلظِّي بجحيم الاقتصاد العالمي الموشك على الانهيار!! فعلى الأقل، إن جائحة كورونا كانت حادثًا عارضا، أو هكذا يُقال، بينما بلايا الاقتصاد ونوائبه أمور فرضناها ووضعناها من عند أنفسنا، فأحكمنا قيودها على أيدينا، وأغلالها على رقابنا. والعالم الآن على ما يبدو مصاب بنوبة فزع، إذ يتذكر بمرارة منشأ الحرب العالمية الثانية التي انقدحت شرارتها الأولى في شارع وول ستريت بالولايات المتحدة، حيث مؤشر البورصة الشهير ودور صناعة القرار الاقتصادي.

فما أشبه الليلة بالبارحة! أوليست أكثر بلايا العالم اليوم بسبب اضطراب الاقتصاد؟! بلى إنها كذلك بالفعل.. وهنا يعرض لنا سؤال مُلِح: هل الأزمات الراهنة منشؤها فقر العالم من الموارد والمقدرات؟! فالجواب هو كلا البتة! لقد قدَّر الرزاق الكريم أرزاق الخلق، والتقدير معناه أنه قبل أن يخلق الخلق جعل لهم ما يكفيهم من الرزق المقدَّر، فلا يولد إنسان أو بهيمة إلا برزق مكتوب وكائن بالفعل، يقول تعالى:

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (1)..

فالماء قُراح والقوت متاح، ولكنه متركز في أيدي قلة من الدول. ففي الوقت الذي تطحن فيه المجاعات في أفريقيا عظام الأطفال، تُلقي دول كُبرى آلاف الأطنان من القمح في عرض المحيط لتلتهمها الأسماك كيلا يرخص ثمنه في الأسواق! وفي الوقت الذي يضرب فيه الظمأ أراضي دول، تقيم جاراتها سدودا لحجز أنهار أجراها الله تعالى منذ القدم، فتقطع عنها رزقها الذي قدَّره الله تعالى لها! وفي الشمال حيث يغزو القلق من الشتاء المقبل قلوب الطبقات المتوسطة والدنيا يمرح الصبية في بلاد “نفطستان” بدِنَانِ الزيت الأسود!

فعن أي قلة في الموارد نتحدث؟! وبأي حقوق إنسان نتشدَّق؟! أين حق الإنسان في الرزق الذي قدَّره الله له؟! العجيب في الموضوع وما يثير الحفيظة، أن حكومات الدول الممسكة لأرزاق الخلق، إنما تُمسك موارد طبيعية ليس لها أي يد في إنتاجها، ولا هي عمل أيديها، فليس الماء أو النفط أو الذهب أو الموارد الطبيعية الأخرى من صنيع إنسان.

إن كل ما مضى ذكره من ممارسات خاطئة وإمساك لأرزاق الخلق يمكننا إدراجه تحت رذيلة واحدة، إنها تركُّز الثروة في يد جهة واحدة،سواء كانت هذه الجهة فردا أو دولة، فيعطي ممسك الثروة منها مقابل زيادة غير مبررة، بما يضمن له بقاء تركُّز الثروة في يده هو. وفي الاصطلاح الإسلامي تُدعى هذه الرذيلة بالربا، يقول :

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (2)..

الحق أن النهي عن الربا من أسمى تعاليم الإسلام، فلا يريد الإسلام أن تجتمع الثروة في أيدٍ قليلة بينما يهلك الآخرون جوعا، وإنما يريد أن تتاح لكل واحد، على قدم المساواة، فرصة للترقي، وأن تقوم الحياة المدنية على أساس متين، فحرَّم التشريع القرآني التعامل الربوي بكل أنواعه، لأن هذا النوع من التعاملات هو وسيلة الأثرياء للحصول على أموال الفقراء، فيستولون على التجارة والزراعة والحرفة بكل أنواعها، ويعيش الآخرون تحت رحمتهم، فالربا هو الذي كدس الثروة في هذا الزمن في أيدي قلة قليلة، ووسع الشقة بين الأثرياء والفقراء.

فما أشبه الليلة بالبارحة! أوليست أكثر بلايا العالم اليوم بسبب اضطراب الاقتصاد؟! بلى إنها كذلك بالفعل.. وهنا يعرض لنا سؤال مُلِح: هل الأزمات الراهنة منشؤها فقر العالم من الموارد والمقدرات؟! فالجواب هو كلا البتة!

على الجانب الآخر، شرَّع القرآن نظام الزكاة، والذي تجمع بموجبه الحكومة الأموال بصورة مضمونة لإعانة الفقراء. فالزكاة إلزامية تأخذها الحكومة كضريبة، ولذلك يشترك فيها الجميع، المخلص وغير المخلص. ثم إن الزكاة قد فُرضت احتراما لعواطف الفقراء، لأن الحكومة هي التي تجمعها، فلا دافعوها يعرفون المستحقين، ولا مستحقوها يعرفون من أعطاهم(3).

والتعليم الإسلامي زاخر بالحض على العطاء لوجه الله، أي دون انتظار مقابل مادي من الخلق، وبيَّن أن هذا النوع من العطاء هو ما يضمن البقاء.. بقاء الدول،وبقاء الأفراد، وبقاء الأثر.. فالآن لم يعد يساورنا شك في أن كل اضطراب في وضع السلام العالمي إنما يكون منشؤه أثرة طرف لنفسه على غيره، وظنه أنه الأحق بالموارد والأرزاق.. وهذه المشكلة تزداد تعقدًا حين تنتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى الدول، وعلى كلٍّ، فقد استبق الإسلام بشريعة القرآن تلك المعضلة ووضع لها حلًّا جذريًا، يلخصه قول الله :

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (4)..

فإن ما فضل الله تعالى به بعض الدول على بعض من موارد وثروات طبيعية، إنما هو ابتلاء لتلك الدول وفتنة، فإذا ما استعملت تلك الدول مواردها في مواساة خلق الله، بورك في تلك الموارد وكانت مورد نعم، وإلا كانت هي ذاتها مجلبة للنقم. الفيصل إذن في دوام النعم هو توظيفها في مواساة الخلق، وهذا هو جوهر العمل الإنساني الذي صدَّع  أرباب السياسة والاقتصاد العالميَّين رؤوسنا بالكلام عنه والدعوة إليه.

وعدد التقوى لهذا الشهر، يونيو 2023، يمثل نصيحة مخلصة وأمنية صادقة للعالم، لكي يتخطى الأزمة، ويعدِّل البوصلة، لذا نجدها فرصة مواتية أن نُطلِع القراء على رائعة من روائع خطب حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) يتناول فيها الحديث عن الربا وأضراره ومخاطره..

الهوامش:

  1. (فصلت: 10-11)
  2. (الروم: 40)
  3. انظر: التفسير الكبير، ج2، تفسير آيتي (البقرة: 275-276) حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد
  4. (طه: 132)
Share via
تابعونا على الفايس بوك