شريعة الإسلام وحدود حرية التصرف في المال

شريعة الإسلام وحدود حرية التصرف في المال

سلام علي البراقي

محاضرة جامعية
  • كيف للمال أن يكون فتنة؟ أبقلته؟ أم بوفرته؟
  • ما وجه فساد المال المتراكم في يد فئة قليلة من الناس؟
  • إننا نرى أشياعا لأهل مدين في هذا العصر.. كيف هذا؟!
  • لماذا دأب الصالحون على دعاء “اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا”؟!

 __

اختبار مصيري

حين نطلع على حديث خاتم النبيين الذي قال فيه: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»(1)، فإن البعض، ومنهم كاتبة المقال، تسترعيه حال من التأمل في كنه تسمية ما يقتنيه المرء من ثروة مالًا! أهو ثروة مشتركة؟! أم هو مما للإنسان، أي من ممتلكاته؟! الواقع أن كلا الوجهين جائز، ووقائع التاريخ تؤكد هذا، الأمر الذي يتضح فيما يلي من سطور هذا المقال..

يظن المرءُ أنَّ ما يكسبه من مال خلال حياته إنما يكسبه بذكائه وجهده، معتبرًا نفسه بالتالي المالك الشرعي والمطلق لذلك المال فينفقه أو يدخره كيفما يشاء، فإنما كان أسلوب التفكير هذا ما أودى بقارون وما كنزه من ثروة، يقول تعالى حكاية عنه:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (2)..

لقد كانت الثروة المادية السبب الأبرز في أن مَال حال قارون. بالطبع قد كان ذلك الشقي ذا طبعٍ معوجٍ من البداية، ولكن المال كان ابتلاء أخفق فيه، فأظهر حقيقة طبعه الخبيث. ألا تعيدنا هذه الفكرة إلى حديث النبي الذي وصف المال بـ «الفتنة»؟! بلى، وصدقت يا سيدنا يا رسول الله! وطالما يلفت  الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أنظارنا إلى أن الأشياء التي نتعلق بها من متاع الدنيا، إنما هي زينة لا تلبث أن تزول وتفنى، بينما ما عند الله تعالى أعظمُ وأبقى، يقول سبحانه:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (3)

المال والماء الراكد

ولا ينبغي أن يُفهم مما قيل أنها دعوة إلى التقشف ونبذ المال كليَّة، فلا ضير أن يجمع المرءُ المال وأن يكون مدبرًا حاذقًا فيجني ثروةً ينتفع بها وينفع بها سواه، فيكون المال بهذا سببًا أتاحه الرزاق الكريم لعباده كي يتواسوا به فيما بينهم، أي أن نتخذه وسيلة لمواساة بعضنا البعض، لا سيما وأن المال كالماء، إذا ركد فسد، ولنلاحظ ما بين الكلمتين (مال و ماء) من جناس لفظ ناقص يشير حتمًا إلى صفة مشتركة بينهما، إن الماء إذا ركد وتوقف عن الجريان فسد وأسِن، وكذلك المال، إذا توقف بيد شخص أو فئة، ولم يُتَداول بين الأغنياء والفقراء صار مالًا خبيثًا لا يكون إلا وبالا على مقتنيه، فردًا كان أو فئة من الناس أو دولة! يقول تعالى:

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (4)..

ومعنى «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ» أي كي لا يقتصر تداوله بين أيدي الأغنياء فيفسد كفساد الماء الراكد فيتسمم به المجتمع.

أهل مَدْيَن، الغابرون منهم والمعاصرون

لقد خصص الله تعالى في القران الكريم حصة من الدروس المستفادة من المال وفتنته، منها ما ورد في معرض قصة سيدنا شعيب إذ دعا قومه  إلى انتهاج السبيل القويم في كسب المال وإنفاقه، تحكي آيات سورة هود:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (5)،

ثم تتابع الآيات الكريمة من سورة هود، فتنتقل إلى جواب قوم شعيب:

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (6)..

ويبدو أن جواب قوم شعيب لم يختلف كثيرا عن جواب قارون الذي ادعى أنما أوتيه على علم عنده. لقد كان مصيرهم الهلاك كما هلك قارون.

على أية حال بالرجوع مجددًا إلى حديث خير الأنام المذكور عاليه، والذي جاء فيه أن المال فتنة هذه الأمة، فلا بد أن ندرك انطواء حديث سيدنا خاتم النبيين على نبوءة مفادها أن المال فتنة كارثية طويلة الأمد، وأن الأمة ستقع ضحية لها، إما بكنزه أو بالافتقار إليه، أو بكليهما معًا.. ويا لعجب الأقدار، فقد تحققت النبوءة بحذافيرها!

صنم هذا العصر!

قديمًا كانت الحروب تنشب بسبب مناطق النفوذ، ثم تطور أمرها لتنشب طمعًا في السلطة، وكان جناة الثروات تحت عباءة أرباب تلك الحروب يعتاشون، وهم من نسميهم في هذا العصر بأغنياء الحرب، فأغنياء الحرب كانوا يقتاتون على ما يخلفه مجرمو الحرب، وما زال الأمر يجري إلى اليوم على المنوال ذاته، مع فارق بسيط، وهو أن أصحاب الأموال توسع دورهم أكثر، فبدلًا من اكتفائهم بدور المستفيدين من الحرب، أمسوا مديريها ورعاتها الرسميين. فقد تحقق ذلك بالفعل حين ضربت العالم من أقصاه إلى أقصاه موجة الأزمة المالية العالمية في ثلاثينيات القرن الماضي، فيما عُرف بالكساد الكبير Great Depression وهو أزمة اقتصادية حدثت في عام 1929م واستمرت طوال عقد الثلاثينيات إلى منتصف عقد الأربعينيات، وتعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، وقد بدأت بأمريكا ومنها انتشرت إلى أوروبا، الأمر الذي عُزِيَ إليه قدح شرارة الحرب العالمية الثانية، التي كانت أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ، وقُدّر إجمالي عدد ضحاياها بأكثر من 60 مليون قتيل مثلوا في ذلك الوقت أكثر من 2.5% من إجمالي تعداد السكان العالمي، والتفتيش في السبب الأبرز لتلك الحرب كان المال، أو بالأحرى حفنة من أهل المال والاقتصاد يقبعون في شارع «وول ستريت»، وكان همهم يتلخص في كيفية الاستحواذ على مال العالم وما للعالم، فما كانت عاقبتهم غير ما ذَكرت تفاصيله سورةُ الهُمَزة على سبيل النبوءة:

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (7)..

نعم، فجمع المال وكنزه وحجبه عن أيدي المحتاجين من الأمور المعجلة بالمصائب والهلاك، بينما مناولة المساكين تقي مصارع السوء.

شيء من دعاء الصالحين

كل شيء يمكن أن يكون وسيلة أو غاية، وليس سبب بؤس العالم إلا بجعل الوسائل غايات أو العكس، فالوسيلة المثلى للنجاة في هذه الحياة أن نميز جيدًا بين الوسائل والغايات، وأن نضع كلاًّ منهما في محله المناسب. والمال أحد أبرز الأشياء التي نقلها الإنسان من قائمة الوسائل المعينة على عبادة الله تعالى، ليضعه بدون وجه حق على رأس قائمة الغايات والأولويات، فصار المال لديه صنما يُعبد من دون الله الواحد الأحد.. ويعتقد عامة المسلمين أنهم نجوا من عبادة الأصنام وأن كفار قريش هم فقط كانوا يرتكبون هذا الإثم العظيم، إذ ظلوا مدى حياتهم عاكفين أمام أصنام نحتوها بأيديهم وانشغلوا بها وهي لا تسمع ولا ترى. إلا أنه وبالمقارنة مع أيامنا الحالية نلاحظ مماثلة صارخة.  فترى الناسَ أيضًا منهمكين بأشياء يصنعونها بأيديهم ولا تنفعهم،  فيجمعون مثلاً المال وينمونه بشتى الوسائل معتمدين في كثير من الأحيان على النصب والاحتيال والكذب. ثم يبدعون في إيجاد طرق لتبذير وتبديد ما جمعوه، وينقضي عمرهم على هذا النحو. يقول سيدنا مرزا مسرور أحمد، أيده الله تعالى بنصره العزيز: «إنَّ المرء وإنْ لم ينغمس في الشرك الظاهر بعبادة الأوثان أو الشمس والقمر فإن لجوءه إلى الرياء واتِّباع الشهوات هو شكل من أشكال الشرك»(8)، إن قول حضرة أمير المؤمنين هنا يصيب كبد ما عناه من خلوا من الصالحين بدعائهم: «اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا»، ألا نفهم من تعبير الأيدي في دعاء الصالحين أنها الوسائل، وتعبير القلوب أنها الغايات؟! فالمال إن اتُّخذ وسيلة للوصول إلى الغاية من خلقنا، فنعم المال هو! أما إذا جُعِل غاية في حد ذاته وصنمًا يُعبَد، فبئس المال وبئس الميل!

وأملًا في لفت انتباهنا إلى الغاية الأصلية من الخلق، بَيَّن سيدنا المسيح الموعود أن متاع الدنيا لا يجلب السعادة الحقيقية للمرء، ويدور حديث حضرته (عليه الصلاة والسلام) في كتابه الجليل «فلسفة تعاليم الإسلام» حول مقصود قوله تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (9)

فيقول: «لذلك نجد أن الإنسان مهما انشغل بشتى الملذات المادية، إلا أنه لا يجد سعادته الحقيقية إلا في الله تعالى. فمهما كان ثريًّا، أو ذا جاه، أو تاجرًا كبيرًا، أو ملكًا عظيمًا، أو فيلسوفًا شهيرًا… فإنه لا محالة يغادر كل هذه المشاغل الدنيوية بحسرات كبيرة في آخر المطاف. ولا يزال قلبه يؤنبه دومًا على انهماكه في لهو الدنيا وملذاتها ولا يوافقه ضميره أبداً على ما يأتي من صنوف المكر والخداع والمحرمات»(10)

كما أنه في كتابه «الوصية» دعانا بوحي من الله تبارك وتعالى، إلى التضحية بأموالنا من خلال نظام الوصية ولفت من خلال قصيدته انتباه كل عاقل للتفكر مليًّا بهذا النظام وتجنب نار جهنم من خلال نزع قلبه من الدنيا الفانية فيقول :

ألا أيها الحاذق الشريف لا تترك دينك طمعًا في الدنيا

لا تعلق فؤادك بهذه الدار الفانية إذ إن راحتها تتضمن مئات الآلام.

إن جهنم التي أخبر عنها الفرقان المجيد إنما تتمثل في الحرص على هذه الدنيا يا عزيزي (11)

وخلاصة القول أن المال بيد المرء اختبار عسير فلا يفرحن به إن كثر وفاض، قد يكون ذاك المال نقمة عليه إن ادخره واكتنزه لنفسه متجاهلاً المحتاجين، أو قد يكون نعمة إن أنفقه فيما يرضي الله تعالى بعيدًا عن سوء الادخار بالتقتير وسوء الإنفاق بالإسراف والتبذير، ليكون انفاقه على نحو يُرضي الله تعالى، كمكرمة بين نقيصتين، يقول عزَّ من قائل سبحانه مبينًا أسلوب تصرف المؤمن الأمثل في المال:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا .(12)

الهوامش

  1. (سنن الترمذي،كتاب الزهد عن رسول الله)
  2. (القصص: 79-82)
  3. (آل عمران: 15)
  4. (الحشر: 8)
  5. (هود: 85-87)
  6. (هود: 88)
  7. (الهمزة: 2-10)
  8. مرزا مسرور أحمد، “شروط البيعة وواجبات المسلم الأحمدي”، ص 15
  9. (الذاريات: 57)
  10. مرزا غلام أحمد القادياني، “فلسفة تعاليم الإسلام”، ص 150-151
  11. مرزا غلام أحمد القادياني، “الوصية”.
  12. (الفرقان: 68)
Share via
تابعونا على الفايس بوك