- لا مقارنة بين الله تعالى والآلهة الباطلة فلا قياس مع الفارق.
- تفنيد علم الآلهة الباطلة بالفطرة الإنسانية و بالغيب.
- الله تعالى عالم بالفطرة البشرية و ما تخفي القلوب.
- عجز الآلهة الباطلة على منح النعم المادية والروحانية للعباد.
__
التفسـير:
قال البعض: كان ينبغي أن يقال هنا: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لأنهم عند عقد المقارنة يذكرون الضعيف قبل القوي، فيقولون مثلاً: هل يكون الطفل كالبطل، ولا يقال: هل يكون البطل مثل الطفل؟
هذا الاعتراض كان معقولاً جدًّا لو كان الغرض منه المقارنةَ في القوة. فقد سجّل العلامة الزمخشري في تفسيره هذا الاعتراض، ثم حاول الرد عليه قائلا: ’’حين جعلوا غيرَ الله مثلَ الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوَّوا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهًا بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله أَفَمَنْ يخلُق كَمَنْ لا يخلُق ‘‘ (الكشاف).
وعندي أن هذا الجواب ليس قويًّا بما يكفي، وأنه يمكن الرد على هذا السؤال بالنظر إلى سياق الآيات السابقة، الذي ما زلت أركز عليه لدى تناولي موضوع الربط بين هذه الآيات. إن الموضوع الذي يناقَش هنا هو: هل هناك داعٍ ليُنـزِل الله وحيه للعباد؟ لقد زعم المشركون أن إنـزال الوحي للبشر يتنافى مع عظمة آلهتهم، ولكن الله تعالى يعلن: ليس الأمر هكذا، بل الواقع أن آلهتهم الباطلة لا تقدر على إنزال الوحي أبدًا، لأنها لم تمنح أحدًا قط أية نعمة مادية، ولا تستطيع أن تعطيه أية نعمة روحانية أيضًا؛ أما الله تعالى فهو قادر على إنزال الوحي، فلا تشابُهَ إذًا بين الله تعالى وبين آلهتهم. إنه تعالى كما قد آتاكم النعم الدنيوية فإنه يمنحكم النعم الروحانية أيضًا. فهل تريدون لله أن يصبح عاطلاً عن أي قدرة مثل آلهتكم الباطلة؟ كلا، إنه إله حي قوي قادر. فما دام قد خلق آلاف الأسباب لرقيكم المادي.. فكيف يمكن أن يقصّر- مثل آلهتكم – في هداية العباد إلى طُرق رقيهم الروحاني. إن آلهتكم لا تحرم العبادَ من الوحي بسبب عظمتها، وإنما لعجزها وقلة حيلتها؛ ولكن الله ليس عاجزًا، ولذلك كان ولا يزال يُنـزل وحيه للعباد. والآية التالية أيضًا تؤكد هذا المعنى.
الواقع أن آلهتهم الباطلة لا تقدر على إنزال الوحي أبدًا، لأنها لم تمنح أحدًا قط أية نعمة مادية، ولا تستطيع أن تعطيه أية نعمة روحانية أيضًا؛ أما الله تعالى فهو قادر على إنزال الوحي، فلا تشابُهَ إذًا بين الله تعالى وبين آلهتهم.
التفسيـر:
أي ما الذي يمنع الله تعالى من إنزال النعم الروحانية أيضًا على العباد، ولماذا يصير مثل آلهة المشركين الباطلة ويبقى صامتًا كالأصم، ما دام قد أنزل على العباد نعمه المادية بهذه الكثرة؟
ثم قال تعالى إن الله لغفور رحيم .. أي لو لم ينـزل الهدى عبر الوحي فكيف يتم الغفران للضعفاء المقصّرين، وكيف يتم إعزاز الأكفاء المجتهدين؟ فثبت أنه لو لم ينـزل الهداية لم يَعُدْ غفورًا رحيمًا، ومن أجل ذلك لا يقصّر في إنزالها.
التفســير:
والآن يسوق القرآن الكريم دليلاً آخر على أن البشر أو الآلهة الباطلة لا يقدرون على تزويد الناس بالهدي الملائم، وإنما الله وحده القادر على ذلك؛ فقال: إنه يعلم ما عندكم من قوى ظاهرة وخفية، وأيضًا ما يتولد في قلوبكم من وساوس وشبهات، سواء أظهرتموها أو أسررتموها، فلزم أن يتولى هو وحده هدايتكم أيضًا.
وليكن معلومًا أنه لا بد لهداية الناس من أمرين: أولهما العلم الكامل بدقائق الفطرة البشرية، فمِن دون الإحاطة بقوى الإنسان، ما ظهَر منها وما بطَن، يستحيل توجيهه بشكل صحيح، كما لا يمكن تنمية قواه كلها؛ وثانيهما معرفةُ ما يختلج في قلب أحد من أفكار ووساوس، لأن هناك آلافًا من الذين لا يذكرون شبهاتهم لأحد خوفًا من القوم، وأنَّى للطبيب أن يعالج مريضًا لا يساعده على معرفة مرضه. وعلى سبيل المثال يوجد في هذا العصر آلاف من المثقفين المسلمين الذين ينكرون الوحي أصلاً، ولو قلت لهم إن استمرار الوحي حق فإنهم – رهبةً من القوم – لن يصارحوك بما في قلوبهم ولن يقولوا لك بلسانهم بأن لا وجود للوحي مطلقًا، وأن كل من ادعى بتلقي الوحي كان مفتريًا أو منخدعًا، بل سيهربون من المواجهة بقولهم: ما الحاجة إلى الوحي بعد القرآن الكريم؟ كما أن هناك الملايين من بين المسلمين المعجَبين بالثقافة الحديثة الذين ينكرون حتى وجودَ الله كليةً، ولكن لو تحدثت معهم عن الله فلن يقولوا لك صراحةً أن ليس هناك أي شيء كالإله، بل سيُلهُونك بأمور هامشية ملتوية، فمثلاً يقولون: نعم، نسلّم بوجود الله، ولكن ما الداعي لأن يتدخل هو في شؤون أهل الدنيا؟ على الإنسان أن يكون طيب القلب، وهذا يكفي لإرضاء الرب. وهكذا يتهربون من طاعة الأوامر والنواهي التي أنزلها الله بالوحي لائذين بهذه الأقوال الباطلة التي تبناها المتصوفون الكاذبون.. من دون أن يصارحوك – خوفًا من قومهم – أنهم في الواقع ينكرون ذات البارئ . والواضح أن المصلح العادي الذي يجهل مثل هذه الشبهات الخفية في الصدور سوف يسوق الأدلة على أمور أخرى لا تمت إلى المرض الحقيقي بصلة، وإنما ترددها الألسنة خداعًا للقوم؛ ولكن الذي هو مطّلع على ما في القلوب من أمراض وعيوب خفية سوف يركّز على ضرورة تطهيرها من تلك الأمراض، غاضًّا النظر عما يقول الناس بأفواههم، وهكذا سوف تكلَّل حملته الإصلاحية بالنجاح. وبما أن الله هو وحده العليم بما تخفي الصدور مثلما هو وحده الخبير بقوى الناس فهو الأولى والأحرى بإنزال الهدي لهم، ومنهجه هو وحده الذي يُكتب له النجاح في حملة إصلاح الناس. والقرآن الكريم برهانٌ عملي على هذه الدعوى؛ فإنه يتضمن بين دفّتيه ما يقوّم وينمّي القوى الإنسانية جميعها، سواء ما ظهر منها وما بطن؛ كما أن تعليمه يردّ على كل شبهة توسوس بها النفس البشرية، بل إن القرآن قد رد حتى على تلك الوساوس التي بدأت تتولد في القلوب في العصر الحـديث جرّاءَ التقدم العـلمي المـادي، وإن كان معظـم الناس لا يجهرون بهذه الوسـاوس والشبهات خشـية الآخـرين.
التفســير:
كان من الوارد هنا أن يقول المشركون على سبيل التعنت والعناد: ليس صحيحًا أن آلهتنا غير قادرة على إنزال الهدي؛ إنها تعلم خفايا الصدور وتستطيع أن تهدي الناس لو شاءت، ولكنها لا تريد إنزال الوحي لأن الإنسان ليس بحاجة إلى الوحي. وفعلاً يزعم معظم المشركـين بكل شـدة أن آلهتـهم تعلم الغيبRig Veda V. 3 P. 170))، بل إن بعض الحمقى من المتصوفين المسلمين أيضًا يظنون أن النبي كان يعلم الغيب – والعياذ بالله. أذكر أنني كنت أناقش مرة أحد المتصوفين كهؤلاء، وكنت آنذاك صبيًّا، وكان على رأسي طربوش تركي لـه ريش، وكان ريش الطربوش في يدي. فقال لي هذا المتصوف الأحمق: إن الرسول الكريم يعلم أن هذا الريش في يدك. فالله تعالى يرد على مثل هؤلاء الوثنيين ويقول: إن علم الغيب لا يتيسر لأحد إلا أن يكون خالقًا، لأن خالق الشيء هو وحده يعلم بما في مخلوقه من قوى وصفات، ولو علم غيرُه بصفات ذلك الشيء ومزاياه لقدر هو الآخر على خلقه، ولكن الذين تتخذونهم آلهة ليسوا بخالقين، بل هم أنفسهم مخلوقون جميعًا.
ما أروعَ ما فنّدتْ به هذه الآيةُ كونَ أحد، أيًّا كان، عالمًا بالغيب إلا الله ! ولكن يا للغـرابة والأسف على المسلمين، إذ يوجد بينهم من يزعمون أن عيسى كان يعلم الغيب ويخلق الطيور، مع أن الله يصرح هنا أنه ليس بين كل ما يُعبَد من دون الله أحدٌ يستطيع خلقَ أي شيء. والظاهر أن عيسى هو من بين الآلهة الباطلة التي يعبدها الملايين.
ما أروعَ ما فنّدتْ به هذه الآيةُ كونَ أحد، أيًّا كان، عالمًا بالغيب إلا الله ! ولكن يا للغـرابة والأسف على المسلمين، إذ يوجد بينهم من يزعمون أن عيسى كان يعلم الغيب ويخلق الطيور، مع أن الله يصرح هنا أنه ليس بين كل ما يُعبَد من دون الله أحدٌ يستطيع خلقَ أي شيء.
شرح الكلمـات:
يشعُرون: شعَر به شعورًا: علِم به. وشعَر لكذا: فطِن له؛ عقَل؛ أحسَّ به (الأقرب).
التفســير:
أي لا بد لمن يقترح منهجًا للناس أن يكون حيًّا بالإضافة إلى كونه خالقًا، حتى إذا طرأ على خلقه فساد أزاله على الفور. وهذا دليل آخر على حرمان الآلهة الباطلة من صلاحية الهدي والإرشاد، حيث بيّن الله أن الموت قد شمل كلَّ من تعبدونهم من دوني، فكيف يمكنهم أن يهدوكم؟ فلو حصل الآن فساد في الناس كيف يتمكن هؤلاء الأموات من دفع هذا الفساد وإزالته؟
العجيب أن كثيرًا من المسلمين يحملون عقائد تخالف هذه الآية الصريحة. فمثلاً يقولون بحياة عيسى بن مريم عليهما السلام، مع أن الله تعالى يعلن هنا صراحة أن كل من كان يُعبَد من دون الله حتى زمن نزول القرآن الكريم قد مات؛ وكان النصارى يعبدون المسيح ، فثبتت وفاته قبل نزول القرآن بموجب شهادة هذه الآية، لأن التسليم بحياته يستلزم القول أنه لم يكن ممن اتُّخذوا آلهة بالباطل، بل كان – والعياذ بالله – إلهًا حقًّا!
لقد أبطل الله في هاتين الآيتين عقيدة الشرك بأربعة أدلة قوية هي:
1. أنهم لا يخلُقون شيئًا ، مع أنه لا بد للإله أن يكون خالقًا، لأن الألوهية تستلزم الكمال المطلق.
2. وهم يُخلَقون ، أي أن الآلهة الباطلة بحاجة إلى الغير، وهذا عوز ونقصان، والناقص لا يمكن أن يكون إلهًا.
3. أمواتٌ غيرُ أحياء ، أي أن الآلهة الباطلة لا يملكون الآن نفعًا ولا ضرًّا، ولكن الإله يجب أن يتصف بصفة النفع والضرر في كل حين وآن.
4. وما يشعُرون أيّانَ يُبعَثون ، أي أن مصيرهم أيضًا ليس في أيديهم.
قد يقول هنا أحد: ما الدليل على أنهم لا علم لهم متى يُبعثَون؟ والجواب أن سيدنا عيسى – الذي هو أكثر مَن يُعبَد في الدنيا من دون الله – يقول عن يوم البعث: ‘‘وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب. انظُروا. اسهَروا وصلُّوا، لأنكم لا تعلَمون متى يكون الوقت.’’ (مرقس 13: 32 و33)
هذا هو حال عيسى ، فما بالك بالآلهة الباطلة الأخرى.