حكايةُ جمالِ يوسُفَ عليه السلام

حكايةُ جمالِ يوسُفَ عليه السلام

هاني طاهر

  • تقديم أدلة على الجمال الروحي وليس المادي .
  • توضيح دخول المفاهيم الخاطئة لتفاسير القرآن الكريم.

__

لو أُشيع أن فلانًا بطل خارق يقتل خمسين محاربا بضربة واحدة، ثم درسنا سيرته فوجدنا أنه شارك في عشْر معارك من دون أن يُذكر أنه قتل أحدا، فنستنتج من فورنا أن الإشاعة كاذبة؛ ذلك أن سكوتَ السيرةِ عن ذِكر الصفة الخارقة في المواضع التي يجب أن تُذكر فيها دليلٌ قاطع على عدمها. “فالسكوتُ في معرض الحاجة إلى بيانٍ بيانٌ”.

هذه هي قصة جمال يوسف ، فلا نجد لها أثرا في مفاصل حياة يوسف الأساسية في القرآن الكريم ولا في التوراة،

  1. فـقد قَـالُوا لَيُوسُـفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، فإخوة يوسف يرون أنّ أباهم يحبّه ويحبّ بنيامين أكثر منهم، وليس في الموضوع أي ذكر للجمال ولم يُعَدّ له أي دور في هذا الحبّ، ولم يُميّز يوسف عن أخيه.
  2. وقد جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ ، ولم ينبسوا ببنت شفة عن جماله.
  3. وقد شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ، ولو كان جماله كما يُحكى عنه لما بيع بثمن بخس، بل لبيع بمبالغ طائلة ولاقتتل الناس على شرائه، ولما كَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.
  4. وقد قَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ، ولم يتحدث عن جماله قطّ، بل شكّ في إمكانية نفعِه لهم مستقبلا، فقال: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا).
  5. وقد قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فهو مجرد فتى، وليس هنالك أي كلام عن جماله، مما يؤكد أنهنّ لم يريْنَه من قبل، فلو كان خارق الجمال لأتت صديقات امرأة العزيز من كل حدب وصوب لرؤيته فضولا؛ فهو مجرد خادم في نظرهنّ؛ فكيف لامرأة العزيز تُرَاوِد فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ! هكذا بكل بساطة هو فتاها.
  6. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ، ولم تقل الآية: أَكْبَرْنَ جماله، بل أَكْبَرْنَهُ.. أي أكبرنَ تقواه وورعِه واستحالةِ أن يكون قد فكّر في الزنا والاقتراب منه، وتندَّمْن على هذا الشرّ وهذه الإساءة، وشبَّهْنَه بالمَلَك الكريم، وهذا كناية عن الطُّهر والعفّة لا عن الجمال الحسّي.
  7. وقد قَالَتْ: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ .. أي أنّ هذا هو الملاك الذي لمتُنّني بممارسة الزنا معه، ألم ترين استحالة ذلك؟ فهذا تأكيد من امرأة العزيز على طهارته وعفّته ورفضه الزنا رغم محاولاتها، وهي السيدة المهمة في المجتمع.. فهي تريد أن تثبت لهنّ أن الزنا لم يحدث رغم محاولاتها، والتي لن تتوقف، وليس أنها تبرر مراودته عن نفسه، وإلا ما أضافت: ” وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ”.
  8. وقد دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، ولم يقولا: إنا نراك خارق الجمال.
  9. وقد جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ولو كان خارق الجمال لعرفوه فورا بميزته هذه غير المسبوقة في التاريخ!
  10. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، مما يعني أنه حتى شقيقه لم يعرفه.

لو كانت رؤية يوسف أذهلت النساء لمجرد جماله فلماذا لم يُذهل الذين وجدوه في البئر، ولماذا لم يُذهل العزيز وامرأته حين اشترياه، ولماذا لم يقتتل الناس على شرائه، ولماذا كانوا فيه من الزاهدين؟

نصوص التوراة

التوراة تذكر قصة يوسف في الإصحاح السابع والثلاثين حتى الإصحاح الخمسين، ومما جاء فيه:

1: “وَذَكَرَ الله رَاحِيلَ، وَسَمِعَ لَهَا الله وَفَتَحَ رَحِمَهَا، 23فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا فَقَالَتْ: «قَدْ نَزَعَ الله عَارِي». 24وَدَعَتِ اسْمَهُ «يُوسُفَ» قَائِلَةً: «يَزِيدُنِي الرَّبُّ ابْنًا آخَرَ»”. (سِفْرُ التَّكْوِينِ 30 : 22-24)، وليس هنالك أي كلام عن الجمال، ولم تقُل: هذا الولد يكفيني لجماله الخارق، بل تمنّت ابْنًا آخَرَ.

2: “وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُ قَمِيصًا مُلَوَّنًا. 4فَلَمَّا رَأَى إِخْوَتُهُ أَنَّ أَبَاهُمْ أَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ أَبْغَضُوهُ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسَلاَمٍ”. (سِفْرُ التَّكْوِينِ 37 : 3-4)، فسببُ حبِّ يعقوب لابنه ليس جماله الخارق، بل “لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ”، ولو كان جماله خارقا لكان هو سبب الحبّ بلا أدنى شكّ، فمن لا يحبّ الجمال، خصوصا إن كان خارقا؟!

ولو كان يوسف خارقَ الجمال ما أغفلت ذلك التوراة التي أطالت جدًّا في قصته، ولو تتبعنا نصوص التوراة هذه لتيقنّا منها ببساطة أنّ قصة الجمال الحسّي لا أساس لها البتة. وليس هنالك أي سبب معقول لإغفال التوراة هذا الجمال إنْ كان له أي أساس.

من أين جاءت حكاية الجمال الخارق؟

لم يأتِ ذلك إلا من تفسير خاطئ لآية قرآنية، فدخل لاحقا في بعض المرويات، وامتلأت به كتب التفسير وكتب الحكايات. أما الآية فهي قوله تعالى:

فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لله مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ،

فظنّ البعض أنّ النساء قد فوجئن بجمال يوسف فقطَّعن أيديهنّ من شدة الذهول والمفاجأة من هذا الجمال الحسّي.

بيد أن هذا التفسير خاطئ جدا، فلو كان بهذا الجمال لجاءه الناس من كل مكان لرؤيته فضولا منذ ولادته، أو منذ وصوله مصر ولاقتتل الناس على شرائه، أو لاحتفظ به العاثرون عليه في البئر ورفضوا بيعه، بل ما تركه العزيز مع زوجته وحدهما، والحقّ أنه “لما رأينه أدركن من ملامح وجهه الكريم أنه ليس من صنف البشر الذين يأتون الفواحش. واعترفن بعظمته وطهارته، وبخطأ ظنهن فيه، وببراءته من التورط في الإثم مع المرأة.

وأما قوله تعالى وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيمكن تفسيره بطريقين. الأول: أن ما رأينه من عظيم نبله وشرفه وبراءته بَهَرَهن لدرجة أنهن انهمكن في مشاهدة هذا المحيّا حتى إن بعضهن جرحن أيديهن بالسكاكين.

والثاني: أن هذا تعبير عن شدة الحيرة والدهشة بمعنى أنهن قمن بعضّ أناملهن من روعة المشهد وقلن: كيف خطر لنا أن نظن أن هذا المَلَك الكريم يمكن أن يقترب من الفاحشة. وعض الأنامل يدلّ كذلك على الندم. وقد جاء هنا بكلمة (أيدي) بدل (أنامل) بحسب العادة في ذكر الكل مكان البعض”. (التفسير الكبير)

والحقّ أنه «لما رأينه أدركن من ملامح وجهه الكريم أنه ليس من صنف البشر الذين يأتون الفواحش. واعترفن بعظمته وطهارته، وبخطأ ظنهن فيه، وببراءته من التورط في الإثم مع المرأة.

لو كانت رؤية يوسف أذهلت النساء لمجرد جماله فلماذا لم يُذهل الذين وجدوه في البئر، ولماذا لم يُذهل العزيز وامرأته حين اشترياه، ولماذا لم يقتتل الناس على شرائه، ولماذا كانوا فيه من الزاهدين؟

الصفة المميزة جدًّا تفرض وجودها في كل حدث يرتبط بصاحبها، فنرى تلازم الدموية وداعش، وتلازم الجمال وملكة جمال العالم فلانة، وتلازم الفيزياء والأحمدية والبرفيسور عبد السلام؛ فلماذا ليس هنالك أي تلازم بين هذا الجمال الأسطوري وبين يوسف ، سوى في حادثة تحتمل أكثر من معنى وفُهمت خطأً؟

وقد يقال إن امرأة العزيز (قَالَتْ: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) في معرض تبرير مراودتها إياه عن نفسه والتماس العذر لها! فأقول: الناس لا يلومون المرأة إذا زنت بقبيح، ويعذرونها إذا زنت بوسيم! بل لا يُسأل عن جمال الرجل قطّ في حالة الزنا. إنما قالت ذلك لتؤكد أن الزنا لم يحدث، رغم محاولاتها، وهي لا تخشى من التبجّح أمامهنّ بمحاولاتها، لكنها في الوقت نفسه تريد إثبات براءتها.. تريد أن تحكي لهنّ مغامراتها وبراءتها معا. تريد أن تضرب عصفورين بحجر. وهذه النسوة صديقاتها المقرَّبات، ومثل هذا الكلام يحدُث بين الصديقات.

ثمّ إنّ الشخص الباهر الجمال قد ينظر باستخفاف لذوي الجمال العادي، وقد لا يشعر بأي جاذبية نحوهم، فإذا كان يوسف بهذا الجمال الخارق، وراودته امرأةٌ متزوجة أكبر منه سنًّا بكثير، وهو في مقتبل العمر، فامتناعه عن الزنا بها ليس عملا عظيما. أما إن كان فقيرا وجماله غير مميز، بينما كانت هي الجميلة فإن امتناعه عن الزنا عمل عظيم، وهنا ينطبق عليه الحديث: “دعته امرأة ذات منصب وجمال”، وليس دعته امرأة ذات منصب وكان هو جميلا.

أما الحديث الذي يذكر جمال يوسف فقد ورد في سياق حديث المعراج، حيث:

عُرِجَ برسول الله إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ”. (مسلم)،

ولكن هذه الرواية تخالفها روايات أخرى، ففي صحيح البخاري:

“ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ”. (البخاري)،

ولم يُذكر يوسف قطّ في رواية البخاري هذه. وفي رواية أخرى في البخاري ذُكر الأنبياء التالية أسماؤهم ترتيبا: آدم، عيسى ويحيى، يوسف، إدريس، هارون، موسى، إبراهيم. ولم يُذكر في هذه الرواية شيء عن جمال يوسف.

فإما أن يكون جمالُ يوسف في رواية “مسلم” مجردَ خلْطٍ ووَهْم من أحد الرواة بفعل فهمه الخاطئ للآية الكريمة، أو أنه يتعلّق بالحُسن الروحاني، فبراءةُ يوسف وطهْرُه وعفافُه قد أذهل النساء وأدّى بهنّ إلى الندم الشديد على اتهامهنّ.

إنما قالت ذلك لتؤكد أن الزنا لم يحدث، رغم محاولاتها، وهي لا تخشى من التبجّح أمامهنّ بمحاولاتها، لكنها في الوقت نفسه تريد إثبات براءتها.. تريد أن تحكي لهنّ مغامراتها وبراءتها معا.

حكايات المفسرين

جاء في قصص الأنبياء لابن كثير عند إيراد رواية: “أُعْطِيَ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ شَطْرَ الْحُسْنِ”: “قال السهيلي وغيره من الأئمة، معناه أنه كان على النصف من حسن آدم . لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما أحسن منهما..

قال ابن مسعود: وكان وجهُ يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطَّى وجهه. وقال غيره: كان في الغالب مبرقعاً، لئلا يراه الناس. (تفسير ابن كثير)

وواضح أن هذه الأفهام لا علاقة لها بكتاب الله تعالى، وتتعارض مع النقاط العشرة السابقة، ومع التوراة ومع العقل.

هذا المقال ليس لفتح موضوع فارغ، بل لسدّ المواضيع الفارغة، ولإطلاق العنان للعقل أن يحلّق في سماء آيات القرآن الكريم دونَ خوفٍ مِن ضَبْعِ الحكاياتِ العديمةِ السندِ مهما كانت شهيرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك