- إلى أي حد ترينا الأحداث الجارية في شرق أوروبا نقيض المواساة المرجوة؟
- ماذا ينبغي علينا نحن المسلمين إزاء الوضع الراهن؟
___
يهل هلال رمضان هذا العام وقوى العالم العسكرية يموج بعضها في بعض، وقد أحدث الصراع الدائر في أوكرانيا دويًّا لم تحدثه جائحة كورونا الكوكبية. وكيف لا ومنذ اندلاع الصراع في شرق أوروبا لم نكد نسمع الأخبار المعتادة عن إصابات فيروس كورونا بمتحوراته المعروفة طوال سنوات ثلاث متلاحقة؟! نعم، وياللعجب! ولننح نظرية المؤامرة جانبًا، ونقل أن القوى الكبرى منهمكة في تسوية ذلك الصراع العسكري المحتدم، والذي يُخشى من تطوره لمستوى الدمار الشامل، بالحرب النووية.
ويطل علينا عدد إبريل هذا العام متزامنًا مع حلول شهر رمضان المعظم، فيحسن بنا أن نفتتحه مع مسعى التغيير المحمود ذاته، ولكن هذه المرة على مستوى الإنسانية جمعاء، ممثلة في دولها وكياناتها السياسية، وأحلافها العسكرية، لا سيما وأن الحاجة تبدو ملحة في ظل الأحداث الجارية على الصعيد العالمي، فنقول، مستنيرين بكلام المسيح الموعود أيضًا، أن الزيت الذي يُبقي على وهج سراج الدول، إنما هو زيت المواساة، والذي حيثما نضب كان نذير خراب تلك الدول واندثارها. أما السِّر فقد كشفه المسيح الموعود حين حدثنا عن مواساة الخَلْقِ، ذلك الخُلُقُ الذي هو شطر العبادة، حيث إن العبادة شطران: توحيد الخالق، ومواساة جميع الخلائق. والمواساة التي نعنيها بتعبير آخر هي أداء حقوق العباد، بما عبر عنه خليفتنا الخامس حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) بأننا لو أحصينا ما علينا من حقوق لخلق الله لأصابنا نوع من القلق جرَّاء التقصير فيها(1). وعلى ذكر المواساة، فإن أحداث الساعة الراهنة أسهمت في إماطة القناع عن وجه العنصرية الوحشي البغيض في الغرب، ذلك الشطر الثقافي الذي كان يُنظر إليه ظنًّا أنه عالم القيم الإنسانية وصيانة حقوق الإنسان، فإذا بالحلة البراقة الزاهية تحتها جسد نتن كريه الرائحة والمنظر. فمنذ بدأ التحرُّك الفعلي لآلة الحرب في أوكرانيا، بدأ معه سكان أوكرانيا، سواء من مواطنيها أو من غيرهم، الفرار بحياتهم. وفي خضم هذه المحاولات للنجاة اشتكى غير أوربيين من تعرضهم لممارسات عنصرية عند الحدود، وتزامنت هذا الشكاوى مع تغطية إعلامية غربية قام بها إعلاميون غربيون وضيوفهم لهذه الأزمة الإنسانية، وقد عبر فيها كثير من هؤلاء الإعلاميين وضيوفهم عن «صدمتهم» لرؤية ما كانوا يعتادون حدوثه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإذا به يحدث لأوروبيين «يشبهونهم»، ذوي أعين ملونة وبشرة بيضاء. الأمر الذي كان وما زال مثار غضب واحتجاج واسع النطاق حول العالم.
الفيصل إذن في دوام النعم هو توظيفها في مواساة الخلق، وهذا هو جوهر العمل الصالح
وحين نعرض للمقارنة العلمية بين الإسلام وما سواه من أنظمة ثقافية وأخلاقية، لا يساورنا شك في أن كل اضطراب في وضع السلام العالمي إنما يكون منشؤه أثرة طرف لنفسه على غيره، وظنه أنه خير من أخيه، وأحق منه بمتاع الدنيا.. وهذه المشكلة تزداد تعقدًا حين تنتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى الدول، وعلى كلٍّ، فقد استبق الإسلام بشريعة القرآن تلك المعضلة ووضع لها حلًّا جذريًا، يلخصه قول الله عز وجل:
فإن ما فضل الله تعالى به بعض الدول على بعض من موارد وثروات طبيعية، إنما هو ابتلاء لتلك الدول وفتنة، فإذا ما استعملت تلك الدول مواردها في مواساة خلق الله، بورك في تلك الموارد وكانت مورد نعم، وإلا كانت هي ذاتها مجلبة للنقم. الفيصل إذن في دوام النعم هو توظيفها في مواساة الخلق، وهذا هو جوهر العمل الصالح، وأحد أبرز الأخلاق النبوية التي اشتهر بها نبي كريم كحضرة إبراهيم الخليل والذي تعكس مشاهد سيرته في القرآن الكريم كافة مظاهر المواساة، من إكرامه ضيفًا عابرَ سبيلٍ، أو تأوه لمجرم استحق التنكيل، وهذا الخُلُق الحميد، بوجهيه كليهما، لم يكن حضرة إبراهيم وحده المتصف به، بل كان كذلك أيضًا أهل بيته(3)، حتى قال الله تعالى بحقهم:
وعلى الجانب الآخر فإن آياتٍ لاحقة في ذات السورة القرآنية، تسلط الضوء على خُلُقٍ ذميم مناقض للخلق الإبراهيمي، وذلك في سياق إهانة الضيف وقطع الطريق وإيذاء عابر السبيل، فيقول الله تعالى على لسان حضرة لوط إذ قال لقومه:
فلننظر بتأمل مآل بيت إبراهيم والبشارة التي تلقاها باستمرار البركة في نسله، ثم مصير قوم لوط في المقابل، إذ قُطِع دابرهم، حيث إن البشارة كانت نتيجة وثوابا على إيمان عظيم بالله واليوم الآخر.. الجميل أن هذين الخلقين المعول عليهما في دوام النعم واستمرارها، أي حسن الجوار وإكرام الضيف، يندرج كلاهما تحت مواساة الخلق، ويجمعهما تعليم نبوي واحد، حيث قال خاتم النبيين :
قارئ «التقوى» العزيز، في هذا الشهر الفضيل، يُعنى فريق التحرير بترقيتك الروحية، التي تُعنى بشقي العبادة كليهما، توحيد الله تعالى والتوجه إليه بالدعاء المستجاب، من خلال مدارسة خطبة حضرة أمير المؤمنين التي يعلمنا حضرته من خلالها القَوْلَ الصَوَابَ في التَّوْفِيقِ بَيْنَ اِسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالعَمَلِ بِالأَسْبَاب، ثم شق العبادة الثاني، وهو مواساة الخلق. ولأن هذا الشهر الفضيل فرصة متاحة للتقرب إلى الله عز وجل، لكونه ظرفًا روحانيًّا مِثاليًّا مهيَّأً للدعاء واستنزال الرحمات، فإننا ندعو إخوتنا في الإنسانية من شتى الأعراق والأذواق أن يشحذوا قوة المواساة في نفوسهم، عوض أن يشحذوا أسلحتهم وبنادقهم، ذلك لكي يكونوا أهلًا لأن ينظر الله تعالى إليهم بعين رحمته وفضله، كما ندعو الله تعالى، مدفوعين بعاطفة مواساة الخلق، أن يميط أذى الحرب المدمرة عن العالم، ويهدي ساسته وجنده إلى سواء السبيل، آمين.
الهوامش:
- حضرة مرزا مسرور أحمد، خطبة الجمعة بعنوان “رمضان واختبار التقوى”، بتاريخ 2020-04-24
- (طه: 132)
- انظر: حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير، ج3، ص 295، الترجمة العربية، ط1، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن، 1997م.
- (هود: 72)
- (هود: 79)
- (صحيح البخاري، كتاب الأدب)