الأزمة.. أزمة أخلاق

الأزمة.. أزمة أخلاق

التحرير

من المؤسف في هذا الزمان أن تكون الحقيقة هي أول الضحايا التي تذبح في كل يوم على شتى الصعد. ومن العجيب أن يصف النبي هذا الزمن بزمن الدجال لأن هذا هو طابعه وسمته الأساس. فلقد أصبح الكذب سلعة تباع وتشترى، وأصبح لهذه السلعة تقاليدها ومؤسساتها ومصطلحاتها التي تحاول أن تعطى للكذب شكلا براقا يغطي جوهره القبيح المنتن. بينما يصف الله تعالى نفسه بأنه الحق المبين الناصع الذي ظاهره كباطنه. فشتان بين صفة الرحمن ولباس الشيطان المخادع المراوغ.

ولقد تسرب الكذب إلى القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأصبح مألوفا مقبولا، واعتبر الصدق والحق تخلفا وجهلا ورجعية وعدم توافق مع روح العصر!. ومضت سنوات وعقود وقرون على هذا الفساد وحصد العالم أجمع حصيلة ما زرعوه من تلك القيم. فعانى العالم من ويلات لم يعاين مثلها في السابق، ولكن لم يتبلور بشكل واضح حتى الآن في أعين المفكرين وعامة الناس أن هذا هو حصيلة الكذب المتفشي في العالم بشكل غير مسبوق. ولا شك أن الكذب أصبح ديدن الزمان ووصفته السحرية بسبب اعتقاد من أصلوه وتبنوه ونظروا له وطبقوه أنه الوسيلة المثلى للوصول إلى الغايات. فيقدمون الكذب والدجل والتمويه لمعتنقيها عباءة براقة زاهية تخفي ما تحتها من طمع وجشع وتوحش وفظاظة قسوة واستبداد. فيفترس الذئب فريسته دون أن تظهر أنيابه الحادة ويقف فوق العظام التي جردها من اللحم باكيا رائيا لحال الحمل المسكين الذي كان يريد له حياة مثلى، وأنه بذلك قد أوصله إلى الحياة الأخرى بسرعة دون أن يعاني الكثير!. ويتعهد بأنه سيقوم بحماية غيره من الحملان!، وأنه يقف في هذه الساعة العصيبة معزيا الأم النعجة الثكلى التي فقدت حملها الوديع ويتقدم لها بأعمق التعازي وأحر الأمنيات ويذرف من أجلها دمعتين على وجهه القاسي الذي يحاول أن يرسم عليه علائم البراءة. كيف لا، فهو ذئب دبلوماسي متحضر يتظاهر أنه لا يؤمن بالعنف ولا بشريعة الغاب!. بل إنه تنازل عن صفة الذئب واختار له صفة أخرى تناسب روح العصر ومصطلحاته.كل هذا وهو ذئب ابن ذئبة لا يختلف عن أول ذئب افترس أول حمل في الماضي السحيق. وهو يعلم هذا وتعلم النعاج والحملان أيضا هذا. ولكن حرام عليها إن تخلت عن صمتها أن تصفه بصفته، فهي حين ذاك متمردة تريد أن تثير الاضطرات في الغابة الوديعة التي يسودها الآن عصر الدبلوماسية والتحضر.

وإن كان الصدف من أول وأهم القيم التي دعت إليها الأديان وبخاصة الإسلام، فذلك لأن له دورا رئيسا في النهوض بحياة الفرد والمجتمعات وهو العنصر الأهم في إرساء السلام الذاتي والاجتماعي والسياسي في العالم أجمع, فالصدق هو العمود الفقري للأخلاق التي لا يمكن أن تقوم بدونه ولا يمكن أن تتم المحافظة عليها. فإذا انهار، انهار معه بنيان الأخلاق وعاد الإنسان إلى الطبائع والغرائر الحيوانية التي تقوده إلى الانحدار وتجعله في حرب مع نفسه ومحيطه. ولهذا كان أمر المصطفى بتحري الصدق أي البحث عنه والتدقيق فيه لأنه هو الذي يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة التي هي طمأنينة الدنيا والآخرة. بينما الكذب يهدي دوما إلى الفجور والخروج عن المألوف وتأجيج نيران الحسد والضغينة والتكالب على الدنيا. فيحترق الكاذب قبل غيره بما أوكته يداه ونفخه فوه. ولكنه يحرق معه كثيرا من الأبرياء والضعفاء. فلا سلم بغير الصدق ونبذ الكذب. وكذب من قال بأن الكذب هو وسيلة الأمان وطريق الحصول على كل ما يشتهيه الإنسان. فقد يحصل على نزر يسير وبعده يجد الدنيا تحترق تحت أقدامه، وهذا مما يمكن أن يستنتجه ويتنبأ به أي عاقل.

ولعل من أشد المصائب التي أصابت الأمة الإسلامية بشكل عام عو إغراقها واستغراقها في هذا الكذب المؤصل الذي هو طابع العصر. لا بل إن غير المسلمين قد استثنوا من الكذب أمورا لم يستثنها كثيرمن المسلمين. فصناع هذه الحضارة المزيفة أدركوا أنه لا بد من الصدق في بعض الأمور، ليس من باب الخلق، وإنما من باب النفعية ومن باب سلامة الوصول إلى الأهداف. فهم لا ينقضون عقودهم في الغالب فيما بينهم لأنهم يعلمون أن نقض العقود سيمنعهم من الحصول على عقود جديدة في المستقبل فتكسد تجارتهم. ولا يسعى كثير منهم إلى غش المستهلكين كي لا ينكشف أمرهم فلا يقبل الناس على شراء بضاعتهم. قم ينظرون إلى العواقب التي هي ليست يعيدة جدا ويعلمون أن عدم الالتزام وعدم التقيد بالعقود لا يصلح أمور دنياهم. ينما نجد كثيرا من المسلمين يبادرون إلى نقض العقود إن كان في ذلك كسبا يسيرا آنيا سهلا. كما أنهم يسعون إلى الغش كي يربحوا في زمن قليل جدا كثيرا من المال. ولكنهم في نهاية المطاف يخسرون كل شيء. هم أقصر نظرا من غيرهم، من المسلمين كانوا أو من غيرهم فإنهم جميعا يسعون إلى هدف واحد وهو الكسب والاستحواذ والاحتكار. لكن غير المسلمين قد برعوا في الكذب بطريقة لا يمكن كشفها بسهولة بينما وقع كثير من المسلمين في كذبات وغش ساذج سرعان ما ينكشف وينهدم معه كل ما بنوا فوقه. لا بل إن الغرب الذي ابتكر الكذب المنمق والدبلوماسية أصبح يصف كثيرا من المسلمين بالكاذبين ويقدم أمثلة على الكذبات الساذجة كي يظهر أنه صاحب القيم المثلى والمسلمون منحطون. ولكن والحال هذه، يجب على المسلمين أن يلوموا أنفسهم ولا يلوموا أعداءهم. فعدوهم بتربص بهم ويتتبع عوراتهم، لذا ينبغي للمسلمين أن يتخلصوا من تلك العورات. فهذه الأمة التي قدمت في ماضيها الصدق في أنصع صوره للناس وقدمت للعالم سلاما عالميا ما زال ينعم العالم بشيء من ثمراته يجب أن تعود إلى قيمها الأصيلة. هذه القيم التي ستثمر ازدهارا وتطورا وخروجا من هذه المهاوي التي سقطت فيها الأمة فذلت ذلا لا يُحسد عليه.

وإن كان الصدق خاصة والأخلاق السامية المرتبطة به بشكل عام هي مفتاح للخروج من الأزمة فلا بد أن يدرك المسلمون أن أزمتهم هي أزمة أخلاق. ولا بد للأمة الإسلامية أن تتذكر بأن من يعمل على تقويم تلك الأخلاق والعودة إلى القيم الأصيلة هو الذي يقودها باتجاه نهضتها. فالنهضة لن تحدث بدولة ولا بامتلاك أسلحة ولا تحشيش جيوش سرعان ما تنهزم بفساد أخلاقها قبل أن تلاقي عدوها. فأي دولة ستقوم ولما ينصلح حال من سيقيمونها، فهناك عشرات من الدول الإسلامية ويعد سكانها بالملايين وهم لا يملكون من أمرهم شيئا، ولم تظهر دولة واحدة من تلك الدول المتعددة تكون على مستوى الحلم الإسلامي. فهذه الكثرة هي غثاء كغثاء السيل كما أخبر المصطفى  لا قيمة لها ولا وزن بين الأمم. فلا بد أن تتأصل في أذهان المسلمين أن العودة إلى الدين من خلال اتباع ما أمر به الله تعالى ورسوله الكريم  هو السبيل. ولكن إن كان هذا ما يردده الكثيرون ولا يدركون أن العودة إنما هي أن تبدأ بنفسك فتصلحها وتحررها من الكذب وتلتزم بالأخلاق الإسلامية السامية وليس من خلال السعي إلى إقامة مؤسسات أو أحزاب أو تنظيمات ترفع شعار الإسلام وتتحلى بقيم وأخلاق غير إسلامية. فلا يمكن أن تذبح القيم في سبيل الوصول إلى الغايات التي قد يظنها البعض غايات إسلامية. فالمسلم المؤمن لا بد أن يدرك بأن الله تعالى الذي هو الحق قادر على أن يدافع عن الحق وعن الذين آمنوا. ولا بد للمسلمين أن يتفكروا ويتدبروا ويسيروا في الأرض فسيرون أن الالتزام بالقيم الإسلامية وعلى رأسها الصدق هو خير لهم وأبقى وأن هذا هو الصراط المستقيم والوسيلة المثلى للوصول إلى الأهداف. فالحق ناصع بين مبين ولا يعجز العاقل أن يرى ثمراته المستقبلية قبل أن يحين وقتها، فضلا عن أن الله تعالى الذي هو مالك الملك ورب العالمين والذي بيده مقاليد السماوات والأرض قادر على أن يفتح لمن اتبع رضوانه أبوابا لم تكن في حسبانهم. فمن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

فينبغي أن يقبل المسلمون على الحق متوكلين على الله تعالى وأن يلقوا وراء ظهورهم أي تدبير فيه رائحة الكذب أو الغش أو التمويه الذي قد يظنون أنه سيكون سبيلا لرفعتهم أو يمهد الطريق لغيرهم. فالصراط هو صراط مستقيم يسأل المسلمون ربهم رب العالمين في كل يوم ثلاثين مرة على الأقل أن يهديهم إليه. فمن انحرف عنه فقد باء بالخيبة والخسران. وها هي الأمة الإسلامية اليوم، بكل أسف، مثل وعبرة لمن يعتبر.

نسأل الله لأنفسنا ولأمتنا السداد والرشاد والعودة إلى صراط الرحمن الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك