منع غير المسلمين من زيارة مكة المكرمة و المدينة المنورة

منع غير المسلمين من زيارة مكة المكرمة و المدينة المنورة

هاني طاهر

  • تعايش الأديان في جزيرة العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • بداية إجلاء اليهود عن جزيرة العرب.
  • أسباب إجلاء يهود خيبر زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
  • هل يُمكن لغير المسلمين دخول الديار المقدّسة؟

__

عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ. (الموطأ)

قولُ الرسول هذا ليس أمرا، بل نبوءة.. أي أنه خَبَرٌ عما سيحدث مستقبلا، وليس أمرا بِالقيام بفعل ما. وحاشا لرسول الله أن يأمر بإخراج أحد من بلده، أو بمنع أحد من زيارة منطقة أو التجارة أو السياحة فيها أو زيارة أقاربه وأصدقائه.

وقد ظلّ الوثنيون واليهود والنصارى والمجوس يسكنون مختلف الأماكن في الحجاز واليمن وعموم الجزيرة، ولم يرِد قطّ أن الرسول أمر عَمَلِيًّا بإخراج أحد من بيته. وظلّ هذا إلى عهد خلفائه، حتى أن الذي طعن عمر رضي الله عنه كان مجوسيا، ولم يكن مسلما. ولا زال كثير من اليهود في اليمن إلى هذه اللحظة، واليمن جزء من الجزيرة العربية.. ولم يسْعَ المسلمون عبر تاريخهم لإخراج كافر من بيته الذي في الجزيرة بحجّة هذه الرواية.

إذن، أساء يهود خيبر في عهد عمر لجوهر الاتفاقية التي وقّعوها مع رسول الله ، ففكَّر عمرُ في إجلائهم، ولما علم أن هناك نبوءة للرسول بأنه لن يبقى في الجزيـرة دينـان اطمأنّ.

مبرر إجلاء يهود خيبر

عن يحيى بن سهل بن أبي حثمة قال: أقبل مُظَهِّر بن رافع الحارثي إلى أبي بأعلاج من الشام عشرةً ليعملوا في أرضه، فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثا، فدخلت يهودُ للأعلاج وحرَّضوهم على قتل مُظَهِّر ودسّوا لهم سكينين أو ثلاثا، فلما خرجوا من خيبر، وكانوا بثَبارَ وثبوا عليه فبعَجوا بطنه فقتلوه، ثم انصرفوا إلى خيبر فزودتهم يهودُ وقَوَّتهم حتى لحقوا بالشام، وجاء عمر بن الخطاب الخبر بذلك، فقال: إني خارج إلى خيبر فقاسِمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودَها ومورفٌ أرفَها ومُجْلٍ يهودَ عنها. (كنـز العمال، ج 4 ص 509، 11505)

ويبدو أن اليهود قد أثاروا عددا من المشاكل قبل ذلك، فجاءت هذه الحادثة لتشعل الموقف، مع أنه ورد أيضا أنه أجلاهم لمجرد أنهم اعتدوا على ابنه عبد الله، وورد مبررات أخرى أيضا. ولعلها حدثت في أوقات متقاربة جدا فأدّت كلُّها بعمرَ أن يحسم الموقف. المهم أنه لا بد أن يكون هناك مبرر لإجلائهم، ولم يكن السبب هو حرمة بقائهم في الجزيرة، وإلا لأجلاهم رسول الله وما صالحهم على الثمار، أو لأجلاهم أبو بكر، أو لأجلاهم عمر من أول يوم في خلافته.

يهود خيبر تحالفوا مع غطفان للقضاء على المسلمين، فهاجمهم الرسول ، وظلّ يفتتح حصونهم حتى آخرها، فوافقوا على الاستسلام مقابل الرحيل.. أي أن ديارهم وأراضيهم وزروعهم صارت مِلكا للمسلمين؛ فأجَّرهم الرسول هذه الأرض -التي كانت لهم- مقابل نصف ثمارها، وبهذا صاروا مجرَّد عمال عند الرسول في أرضه، فيستطيع أن يفْصِلَهم من عملهم متى رأى ذلك مناسبا..

 بداية القضية

يهود خيبر تحالفوا مع غطفان للقضاء على المسلمين، فهاجمهم الرسول ، وظلّ يفتتح حصونهم حتى آخرها، فوافقوا على الاستسلام مقابل الرحيل.. أي أن ديارهم وأراضيهم وزروعهم صارت مِلكا للمسلمين؛ فأجَّرهم الرسول هذه الأرض -التي كانت لهم- مقابل نصف ثمارها، وبهذا صاروا مجرَّد عمال عند الرسول في أرضه، فيستطيع أن يفْصِلَهم من عملهم متى رأى ذلك مناسبا.. أي يستطيع أن يُخرجهم منها متى شاء. وليس لهم أي حقّ سوى الإحسان. وهذا بحدّ ذاته دليل قاطع على نقض مقولة إخراج غير المسلمين من جزيرة العرب أو منعهم من دخولها.

المهم أن عمر قرر طردهم من العمل.. أي أنه أنهى تأشيرة العمل.. أي قرر إخراجهم من أرض المسلمين (خيبر)، بمجرد أن قاموا بعدد من الأعمال العدائية التي لا توصَف بالخطيرة جدا. فقد أخرج مسلم في صحيحه:

“عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا افْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ يَهُودُ رَسُولَ الله أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ فَقَالَ رَسُولُ الله أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا”. (مسلم).

 فواضح من النصّ أنها صارت اتفاقية عمل بين عمال وبين صاحب العمل.

أما قبل عدوانهم وتحالفهم مع غطفان فقد “كَتَبَ رَسُولُ الله إلَيهم:

بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ الله صَاحِبِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَالْمُصَدّقُ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى… إِنّي أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ…..هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمّدٍ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ فَلَا كُرْهَ عَلَيْكُمْ. قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنْ الْغَيّ فَأَدْعُوكُمْ إلَى الله وَإِلَى نَبِيّهِ”. (سيرة ابن هشام)

أما بعد تحالفاتهم العدوانية فقد

“أَقْبَلَ رَسُولُ الله َ بِجَيْشِهِ حَتّى نَزَلَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الرّجِيعُ، فَنَزَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَطَفَانَ، لِيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يُمِدّوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَكَانُوا لَهُمْ مُظَاهِرِينَ عَلَى رَسُولِ الله . وَحَاصَرَ رَسُولُ الله أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنَيْهِمْ الْوَطِيحِ وَالسّلَالِمِ، حَتّى إذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيّرَهُمْ وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ . وَكَانَ رَسُولُ الله قَدْ حَازَ الْأَمْوَالَ كُلّهَا: الشّقّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ إلّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ. فَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ أَهْلُ فَدَكَ قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا، بَعَثُوا إلَى رَسُولِ الله يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيّرَهُمْ وَأَنّ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلّوا لَهُ الْأَمْوَالَ فَفَعَلَ. وَكَانَ فِيمَنْ مَشَى بَيْنَ رَسُولِ الله َ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ فَلَمّا نَزَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ سَأَلُوا رَسُولَ الله أَنْ يُعَامِلَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى النّصْفِ وَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا؛ فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ الله عَلَى النّصْفِ عَلَى أَنّا إذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ فَدَكَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَتْ خَيْبَرُ فَيْئًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ الله ، لِأَنّهُمْ لَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلِ وَلَا رِكَابٍ. (سيرة ابن هشام ج 2 ص 337)

إذن، كانت اتفاقية مع الرسول أن يرحلوا عن هذه الأرض كلها، وهذا بسبب غدرهم المتكرر، حيث كان فيهم يهود من القبائل التي غدرت سابقا في المدينة وأُجليت. وبعد هذه الاتفاقية على الإجلاء عُقدت اتفاقية مزارعة.. أي زراعة الأرض مقابل جزء من ثمارها.. وحين لا يلتزم الطرف الآخر بشروط المزارعة فلا مانع من إنهاء الاتفاقية معه.. وهذا ما قام به عمر.

هل من شبهات أخرى لدى القائلين بمنع غير المسلمين من دخول مكة؟

تبيَّن أن حديث: “لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان” ليس إلا نبوءة. ثم على فرض أنه أمرٌ، فالجزيرة العربية ليست مكة والمدينة على كل حال، والحديث لا ينطبق عليهما، فليس هنالك أي حديث يخص مكة والمدينة بالذات.

والسؤال: من أين أتت فكرة منع غير المسلمين من دخول مكة والمدينة حصرا؟

لعل البعض فهم خطأً الآية التالية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ (التوبة 28)

..فظنَّ أنّها تمنع كل مشرك من دخول المسجد الحرام باعتباره نجسًا، مع أنّ النجاسة هنا معنوية لا مادية؛ وإلا كيف يجوز لنا الزواج من الكتابيات وهنّ نجسات ماديًّا؟

وعلى فرض أن الآية تمنع من مجرد الدخول، فالمنع فيها مقصور على المسجد الحرام.. أي الكعبة المشرفة وما حولها، وليس مكة كلها ولا المدينة. ومن ناحية عملية لا يسهل إدخال غير المسلمين إلى الحرم المكي أصلا، لذا لن يُبنى على هذا الخلاف شيء. المهم أنْ نبيّن هنا أنه لا دليل قط على منع غير المسلمين من دخول مكة والمدينة.

من أراد أن يسجد للأصنام في المسجد الحرام أو في أي مسجد فلن نسمح له، لكن هذا لا يَمنع مِن زيارته للمسجد الحرام أو لأي مسجد لمجرد الزيارة والمشاهدة، إن تيسَّر ذلك عمليا، أو للاستماع إلى درس أو خطبة.

بيد أن هذه الآية لا تمنع غير المسلمين من مجرد دخول المسجد الحرام، بل تمنعهم من ممارسة شعائرهم الوثنية كالطواف عراةً فيه؛ فقد

“كَانَتْ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً” (مسلم).

وقد بعث

“رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ” (البخاري)..

أي أنّه بعد نزول سورة براءة التي فيها هذه الآية (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)، مَنَع الرسول من حجِّ المشركين ومِن طوافهم والذي كانوا يمارسونه عراةً، ولم يمنعهم من دخولهم مكة، وإلا لقال: لَا يأتي بَعْدَ هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ إلى مكة ولا المدينة مهما كان سبب مجيئه، حتى لو للزيارة. كما أنّ المشركين ظلّوا يسكنون مكة والمدينة ولم يُكرَه أحد على الإيمان قطّ، لأنه لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أصلا.

وإذا كانت هذه الآية والأحاديث التي تفسرها تمنع المشركين من إقامة شعائرهم الشركية في المسجد الحرام، فهناك آية عامة يشمل حكمها كل المساجد، وهو قوله تعالى:

وأنّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا (الجن 19)،

 فلا يُسمح بعبادة غير الله في أي مسجد. فمن أراد أن يسجد للأصنام في المسجد الحرام أو في أي مسجد فلن نسمح له، لكن هذا لا يَمنع مِن زيارته للمسجد الحرام أو لأي مسجد لمجرد الزيارة والمشاهدة، إن تيسَّر ذلك عمليا، أو للاستماع إلى درس أو خطبة.

هل من نصوص أخرى غير الآية والحديث السابق؟

كلا، بل هو فهم خاطئ لراوٍ أو لمن أتى بعده من بعض الفقهاء، فقد يتوهم البعض من الرواية التالية: “لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا” أنه أمرٌ، مع أنها نبوءة أيضا.. والمعنى أنّ الجزيرة العربية ستخلو عمّا قريب من أي بؤرة لليهود والنصارى إلى الأبد.

أما رواية اللحظة الأخيرة من حياة الرسول : “ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا …. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ”، فالذي ينقضها الروايةُ السابقة من موطَّأ مالك: ” فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ الله َ قَالَ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ”.. أي أن عمر لم يكن قد سمع حتى بالنبوءة، فكيف يكون قد سمع بهذا الأمر الذي يُحكى أن الرسول قد أمر به قبيل لحظات من وفاته، بينما يشيع أعداء عمر أنه منع الرسول من كتابة شيء عند هذه اللحظة.. فرواية الموطَّأ تبرئ عمر رضي الله عنه من هذه التهمة الواهية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك