آيات في التفسير المقارن

آيات في التفسير المقارن

هاني طاهر

  • لقد كان لسيدنا داوود عليه السلام ابنا سماه سليمان.
  • التفسير المتداول لآيات سيدنا سليمان فيها إساءة للنبي أما التفسير الأحمدي.
  • لم يفسر الأحمديين الجن الذي ذكر في القرآن الكريم بالجن الشبحي بل فسرهم على أنهم بشر من الأشرار الأشداء.
  • لقد روى التفسير التقليدي قصة غنم سليمان على أنهم أغنام حقيقيين لكن التفسير الأحمدي فسر غنم سليمان على أنهم بشر ذات أصحاب طبائع بهيمية.
  • الحرث الجديد الذي ذُكر في سورة الأنبياء لم يقصد فيه مزرعة جديدة بل قصد فيه حرث مجازي ومن سياق الحديث يتضج أنه دولة جديدة.

__

  1. خيل سليمان وخـاتـمه وبساط الريح

أود أن أنقل أو ألخص تفسير بعض الآيات كما هي في التفاسير الشائعة، وفي التفسير الأحمدي، لعل القارئ يستنتج أصول التفسير وأسباب الخلاف.

يقول الله تعالى

وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (ص 32-42)

جاء في تفسير الجلالين

الصافنات الخيل: جمع صافنة، وهي القائمة على ثلاث وإقامة الأخرى على طرف الحافر، وهو من صفن يصفن صفونا. الجياد جمع جواد وهو السابق: المعنى أنها إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت، وكانت ألف فرس عرضت عليه بعد أن صلّى الظهر لإِرادته الجهاد عليها لعدوّ، فعند بلوغ العرض منها تسعمائة غربت الشمس ولم يكن صلى العصر فاغتمّ. فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ أي أردت حُبَّ الخير أي الخيل عَن ذِكْرِ رَبِّي أي صلاة العصر حتى تَوَارَتْ أي الشمس بالحجاب أي استترت بما يحجبها عن الأبصار. رُدُّوهَا عَلَىَّ أي الخيل المعروضة فردّوها فَطَفِقَ مَسْحاً بالسيف بالسوق جمع ساق والأعناق أي ذبحها وقطع أرجلها تقرّباً إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن الصلاة وتصدّق بلحمها فعوّضه الله تعالى خيراً منها وأسرع، وهي الريح تجري بأمره كيف شاء .

وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان ابتليناه بسلب ملكه وذلك لتزوّجه بامرأة هواها وكانت تعبد الصنم في داره من غير علمه، وكان ملكه في خاتمه فنـزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة على عادته فجاءها جنّيّ في صورة سليمان فأخذه منها. وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً هو ذلك الجني وهو (صخر) أو غيره: جلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته فرآه على كرسيه وقال للناس: أنا سليمان فأنكروه ثُمَّ أَنَابَ رجع سليمان إلى ملكه بعد أيام بأن وصل إلى الخاتم فلبسه وجلس على كرسيه. قَالَ رَبِّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لا يكون لاِحَدٍ مِّن بَعْدِى أي سواي، نحو فمن يهديه من بعد الله أي سوى الله إِنَّكَ أَنتَ الوهاب . فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخآءً لينة حَيْثُ أَصَابَ أراد. والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ يبني الأبنية وَغَوَّاصٍ!! في البحر يستخرج اللؤلؤ.

التفسـير الأحـمدي

لقد رزق الله نبيه داود ابنا سماه سليمان، وكان عبدا أوّابا أي دائم الرجوع إلى الحق، لذا لا يمكن أن تصحّ أي قصّة تتنافى مع ذلك، حتى لو رواها كتبة أسفار التوراة، وحتى لو نقلها عنهم كثير من المفسرين المسلمين. والحقيقة أنه في إحدى المرات حضر عرضًا عسكريًّا لقواته، حيث الخيول الأصيلة القوية، فقال إِنِّي أحببتُ هذه الخيول، ليس للخيلاء ولا للتسلية بسباقها، بل لأنها تذكّرني بربي؛ إذ تُستخدم للقتال في سبيله، وحيث إني أحب الله فإني أحبها. فلمّا مرّت أمامه في عرض جميل، سُرّ جدًّا، فأمر بإعادتها إليه بعد أن ذهبت بعيدا وغابت عن نظره، فرُدّت عليه، فَأخذ يمسح بسيقانها وأعناقها، حبّا لها وشكرا لله تعالى على هذه النعمة التي تحمي دينه. ولم ينس صلاة العصر ولا غير العصر، ولم يأخذ بذبحها وتقطيع أرجلها كما قال المفسرون، لأنه ليس مجنونا حتى يغضب على الخيول، فإذا تأخر عن الصلاة فهذا ذنبه وليس ذنب الحيوانات غير العاقلة، ثم لو أخطأ هذا الخطأ الجنوني فلن يخلّده الله في كتابه.

حين يذكر الله تعالى قصة فإنما لنستفيد منها، فماذا نستفيد هنا؟ هل علينا أن نقتل قطيع أغنامنا إن شُغِلنا مرة عن الصلاة بسببهن؟!  ثم إن الآية تذكر أنه بدأ بمسح السوق قبل الأعناق، فهل قطّع سيقانها قبل أعناقها؟! هذا تعذيب لا يقوم به إلا مجرم دموي.

ولقد فتنَ الله سليمان عليه السلام بابن عديم الأخلاق والروحانية، كان مجرد جسد لا روح فيه، وكان هذا الابن قد ورث أباه وأضاع ملكه.

فقال سليمان لمّا أنبأه الله في رؤيا بشأن المصير الذي سيلقاه ابنُه: رب سامحني على أعمال هذا الولد العاقّ، وهب لي ملكًا لا ينبغي لهذا الضال من بعدي؛ فأنت يا رب وهابّ تعطي من تشاء حتى لو كان ابنه بهذا المستوى. فأعطاه الله ملكا دنيويا عظيما، بالإضافة إلى الملك الروحاني، ونصره على أعدائه. أو: يا رب إذا كانت المملكة ستتفكك بعد موتي بذنوبهم فقد رضيت بقضائك،سبحانك،  فزد يا رب في إكرامي خلال حياتي، وهب لمملكتي قوة لا يطمع فيها أي ملك من ملوك الممالك التي على مبعدة من حدودي. وهنا فُسِّرت “بعدي” بالبعدية المكانية.

وسخر الله لسليمان عليه السلام تجارة واسعة مستخدمًا السفن التي وفّقه الله تعالى لاستغلال حركة الريح في جريانها؛ فمن الحقائق التاريخية أن سفن سليمان عليه السلام كانت تجري من الأرض المقدسة إلى اليمن والبلاد الإفريقية وفارس والهند وإلى بلاد البحر المتوسط، وذلك في مياه البحر الأحمر وبحر العرب والبحر المتوسط. ونتيجة موافقة حركتها لحركة الريح، فإنها كانت تقطع مسافة شهر في يوم واحد كما أشار الله تعالى في قوله (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر)، وقوله تعالى (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا).

وحتى الأشرار الأشداء الذين كان يسجنهم لجرائمهم كانوا يبنون له المباني الضخمة، ويغوصون في البحار بحثا عن اللآلئ ومن أجل مهام أخرى. وبعض هؤلاء يظل مسجونا ليستخدمه متى شاء. فالشياطين هنا الأشرار وليس الأشباح. أو لعل المقصود بها هم من كانت لديهم طاقة زائدة، وهي تنطبق على من لهم مهارة في فنون معينة،  كالبناء وصناعة الزخارف المعقدة.

نقد التفسير المتداول

التفسير المتداول لهذه الآيات محض خرافة وإساءة لنبي الله سليمان عليه السلام؛ فهو -عندهم- ينسى صلاته وهو ينظر إلى الخيول، ثم يتنبه إلى ذلك فيقتلها عن بكرة أبيها محمّلا إياها مسؤولية نسيان الصلاة!! وغير ذلك مما لا طائل من ورائه.

خطأ آخر في هذا التفسير هو تفسيره الفتنة بالعقوبة، حيث فسر وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان بأن الله عاقبه. مع أن الفتنة هي الاختبار الذي يرتقي المرء بالنجاح في اجتيازه، أما العقوبة فعكس ذلك، والله تعالى يمتدح نبيه أنه نجح في الاختبار.

أما الخرافة الكبيرة في هذا التفسير فهو قصة الخاتم!! الذي “نزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة على عادته فجاءها جنّيّ في صورة سليمان”!! فالمشكلة في هذه الإضافات إلى النص القرآني والتي لا علاقة له بها.

وتفسيره الجسد في وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً بذلك الجني!!

ثم تفسيره “لا ينبغي لأحد من بعدي” بأنه مُلك لا يحوزه سواه إلى الأبد!! وهذا دعاء غير مقبول بحال، وهو دعاء صبياني، فالمسلم يدعو لنفسه ولإخوانه ولأساتذته وتلامذته أن يهبهم الله ما وهبه، ويدعو لذريته من بعده أن تحقق ما لم يستطع هو تحقيقه.

ثم لماذا يغرق التفسير التقليدي في تفسير تسخير الريح بطريقة عجائبية؟ لماذا ينسب إلى الأنبياء السابقين معجزات لم يعطها الله سيدنا محمدا ، ثم لم يذكرها التاريخ وتتعارض مع آيات أخرى تحمل نفس الكلمات؟

لا شك أن من الخطأ الاعتماد على قصص التوراة، وهذا من أخطاء التفسير التقليدي، لكن الخطأ الآخر هو تأليف قصص لا أثر لها حتى في التوراة والتاريخ والعقل.

لَفَتات التفسـير الأحـمدي

حرف الجر (عن) في قوله تعالى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِي) جاء هنا بمعنى السببية، أي إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ بسبب ذِكْرِ رَبِي، أي لأنها تذكرني بربي. ومن الأدلة على أن هذا الحرف يأتي بهذا المعنى، قوله تعالى (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) أي بسبب قولك.

وفُسِّر المسح بالمسح المعروف الذي يقوم به صاحب الحصان وهو يمسح على سيقانه ورقبته، وليس بالقتل كما ذهب كثير من المفسرين.

وأما الجسد فهو إشارة لشخص لا روح فيه، أي أنه مجرد جسد.

وتسخير الريح لا يعني أنه صار يأمرها أن تتحرك كما يريد، بل إن الله تعالى قد هداه لاستغلالها، ومثل هذا كثير جدا في كتاب الله: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) (وسخر لكم الفلك)، (وسخر لكم الأنهار) (وسخر لكم الليل والنهار)، (وسخر لكم ما في الأرض)، (وسخر لكم ما في السماوات)، (وسخر لكم البحر)، وغيرها، فهل يقول أحد أننا نتحكم بحركة الشمس والقمر؟ والليل والنهار؟ والأرض والسماوات؟

وأما كلمة الشياطين فهي تطلق على الأشرار الأشداء من الناس أيضًا، خصوصا أنهم غواصون وبناءون كما في هذه الآية. وفي آية أخرى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات)، ثم إن الأشباح لا تُربط ولا تصفّد، لذا لا يمكن تفسير الشياطين بالجن الشبحي، بل هم بشر من الأشرار الأشداء الذين سيطر عليهم سليمان واستخدمهم في عمليات البناء والغوص في البحر.

فهذه قصة أولى لعل القارئ الجديد يبدأ منها يتحسس مواطن الخلل في التفسير التقليدي. وأن يتنبه إلى خطأ الذين يُطلقون الأحكام جزافا منتقدين التفسير الأحمدي بعمومية لا جدوى منها. والآن إلى القصة الثانية.

  1. قصة الحَرْث والغنم وتفهيم سليمان

وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (الأنبياء)

يجدر أن نقرأ عدة آيات قبلها وعدة بعدها لندرك السياق .. جاء في تفسير الجلالين: {وَ} اذكر دَاوُدَ وسليمان أي قصتهما إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث هو زرع أو كرم إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم أي رعته ليلاً بلا راع بأن انفلتت. وأورد الطبري رواية تشرح فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ، فقال: “فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان غَيْر هذا يا نبيّ الله، قال: وما ذاك؟ قال: يُدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتُدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت الكرم إلى صاحبه، ودَفعت الغنم إلى صاحبها”.

أخطاء هذا التفـسير

ما قيمة هذا الحكم الذي حكم به سليمان ؟ هل يستحق التخليد؟ أين الحكمة في هذا الحكم؟ أين العبرة؟ أين الموعظة؟ إنه حكم خاطئ، لأنه إن رعى قطيعُ زيدٍ البالغُ ألف نعجة في مزروعات عمرو التي لا تزيد مساحتها عن ربع الدونم فمن الظلم العظيم أن “يُدفع قطيع زيد كله إلى عمرو”. فما تدره الأغنام في يوم واحد قد يزيد عما ينتجه هذا المحصول في سنة! فهذا حكم ظالم لا يقول به عاقل. أما الحكم المنسوب إلى داود فهو أشد ظلما؛ ذلك أنه اقترح أن يستولي صاحب الحرث على الأغنام، من دون أن يسأل عن عدد هذه الأغنام وعن مساحة هذه الأرض المزروعة. إنه حكم متسرع فوضوي غير منضبط.

الحكم الواضح السهل في مثل هذه الحال هو تعويض صاحب الزرع عما لحق به من أضرار بعد تقييمها. وهي مسألة يفقهها أي إنسان، بل أي طفل. وليس هناك من مبرر لسردها في كتاب من عند الله تعالى حتى لو كان الحكم صحيحا، فكيف وهو باطل؟

هذه إحدى مشاكل التفسير التقليدي أنه يسمع القصة من كاذبي أهل الكتاب فيطير بها من دون أن يتعمّق فيما يُبنى عليها. من أين لهم بهذه القصة؟ هل رووها بالسند عن سليمان عليه السلام؟ هل وردت في التوراة؟ هل وجدوها مكتوبة؟ كلا، لا شيء من ذلك. وحتى لو رووها بالسند أو وردت في التوراة لما كان ذلك كافيا لاعتبارها صحيحة ما دامت تتناقض مع العدل، ولكن عدم ورودها في أي مصدر سابق يزيد الطين بلة.

لننتقل إلى التفسير الأحمدي

يقول الخليفة الثاني للمسيح الموعود : “إن ما أراه هو أن الله تعالى قد بين هنا أنه كلما نال قوم نبي عزًّا سعى الطامعون من بينهم لعرقلة النظام، كما حصل في زمن داود وسليمان، وبدأ أصحاب الطبائع البهيمية في أكل زرع الدين”. ويتابع فيقول: “يذكر الله تعالى أنه قد فهّم سليمانَ علاج ذلك، فحمى مملكته ونظامه من هجمات الشعوب المجاورة لبني إسرائيل والتي كانت تريد القضاء على حكمهم من خلال غارات مفاجئة.

مما لا شك فيه أن كلاً من سليمان وداود قد نالا الحكم والعلم، ولكن استراتيجية سليمان بهذا الشأن كانت أفضل. فكان داود رجل حرب، وقد عاقب الظالمين المفسدين بعقوبات شديدة، بل إنه قد قتل ثلثي الرجال في بعض المناطق. ولكن الله تعالى فهّم سليمان أن الرفق بالجيران الآن سيخفف العداوة. فاستعان سليمان عمومًا بالمعاهدات، وهكذا حمى دولته من الجيران جميعًا….. ولكن لما كانت هذه الجملة توهم وكأن الله تعالى لم يعلّم داودَ ، فأزال الله تعالى هذه الشبهة بقوله تعالى: وكُلاً آتينا حُكمًا وعلمًا .. موضحًا أن تفهيمه تعالى لسليمان لا يعني أن داود كان مخطئًا في موقفه، وإنما قصد بذلك تبرئة ساحة سليمان من تهمة كان يُرمى بها”. (التفسير الكبير)

الجديد في التفسـير الأحـمدي

تتحدث سورة الأنبياء عن أن الله ينجي أنبياءه ويعينهم على كبريات الأمانات، ويؤيدهم بنصره ضد من يريد هلاكهم من العدو. وقد ذكرت الآيات قصة نوح، ثم قصة داوود وسليمان، فلا بد أن نفهم الحكم في الحرْث على أنه مزرعة دولة جديدة، أو حكم مملكة وسط مَن يحمل معاول هدمها، ويحاول حطمها، فلنفهم النص على مستوى عال يتناسب مع السياق، فالحرث هنا حرث مجازيّ، وليس مجرد مزروعات في حقل! فالله تعالى لم يرسل الرسل لمجرد أن يحكموا في قضايا هامشية، بل لينشروا الدين بما فيه من قيم وأخلاق وروحانية وانقلاب في المفاهيم. فمعنى يَحْكُمان في الحَرْث هنا: يقوِّمان أرض الدين ويصحّحان العقائد والمفاهيم. و نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ .. أي بدأ الطامعون الأشرار بأكل ثمار هذا الحرث وتدمير الدين وقيمه كما ترعى الأغنام الزرع وتدمره.. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ .. يعني أن الله شاهد على إنجازاتهما الدينية، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ الذي تنبه أكثر من والده داود لهؤلاء الأشرار الطامعين الساعين لتدمير الدين. “فحمى مملكته ونظامه من هجمات الشعوب المجاورة لبني إسرائيل والتي كانت تريد القضاء على حكمهم من خلال غارات مفاجئة”.

الآن، نحن أمام وجهتي نظر: الأولى تقول بالحرفية، فاضطُرت لأن تخترع قصة لا أصل لها، ثم هي تسيء إلى الأنبياء والقرآن، ثم لا تعطي أي معلومة مفيدة. والثانية: تقول بالمجاز في كلمتين، وتتفادى هذه النقائص، ثم تربط النص بالتاريخ، ثم تدافع عن سليمان فيما اتُّهم فيه، ثم فيها عبرة أبدية. فأي الوجهتين:

أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟

الوجهة الثانية تقول: إن المزارع يعتني بزراعته، وإن الأغنام تأتي فتدمرها ليلا. وإن النبي يعتني بجماعته، وإن المنافقين يأتمرون بها ليلا ليستأصلوها. وبدل أن تقول الآيات: “وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي قومهما إِذْ أخذ الطامعون والمنافقون يعملون على القضاء على ما بَنَيا من قيم وأخلاق وتعاليم، فقد فَهَّمْنَا سُلَيْمَانَ كيف يتعامل معهم ويقوِّض تآمرهم”. بدل أن تقول ذلك قالته بأسلوب أجمل وبكلمات أقل وأكثر دلالة، وهذه هي البلاغة.

القضية ليست كما توهمها بعض المفسرين القدامى الذين ناقشوا نوع المزروعات، فبعضهم قال نَبْتًا، وبعضهم قال كَرْمًا، وبعضهم قال:كرم قد أنبت عناقيده. ثم اختلفوا في حكم داود وسليمان، أكان بوحي أم باجتهاد، ثم إن كان بوحي، فهل في المسألة ناسخ ومنسوخ!!! ثم اختلفوا في حكم هذه المسألة: أي إن رعت أغنام رجل في مزروعات غيره، فما الحلّ، بحيث سوّدوا صفحات في هذه المسألة التي يفقهها ابن الرابع الابتدائي من غير هذه التُّخم!

لعل هذا المثال يقرِّب الصورة في أهمية التفسير الأحمدي وفي تفوّقه على التقليدي وفي نباهته وإحاطته وتقديسه للأنبياء وللقرآن. فالمرويات والقصص الواهية لا يمكن أن تُقدَّم على قداسة القرآن والنبيين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك