دلالة عدم تكليم زكريا الناس ثلاث ليال سويا
  • بماذا بشر الله تعالى عبده زكريا؟
  • أي بشارات حملتها لفظة “غلام” الواردة في الآية ((إنا نبشرك بغلام))؟
  • ما حقيقة فقد زكريا القدرة على الكلام ثلاث ليال كاملة؟!

___

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (مريم: 9و10)

 شرح الكلمات:

عِتيًّا: عتا يعتو عِتيًّا: جاوز الحد. والعَتيّ العاتي. وقال الإمام الراغب في قوله تعالى وقد بلَغتُ من الكبر عتيًّا .. «أي حالةٍ لا سبيلَ إلى إصلاحها ومداواتها».

التفسير:

أي لما تلقى زكريا من الله تعالى البشارة بالولد قال: كيف يمكن أن يكون لي ابن وزوجتي عقيم وقد بلغتُ من الشيخوخة الحد الأقصى؟

ولقد انطوت كلمة غلام على الإشارة إلى الأمور التالية: الأول أن المولود سيكون ذَكرًا، والثاني أنه سيبلغ سن الكهولة، والثالث أن زكريا سيرى الأيام السارّة من حياة ابنه. فدُهش زكريا من عظمة البشارة وقال مستغربًا: لقد أصبحتُ شيخًا هرمًا، وزوجتي عقيم لا تلد، ومع ذلك يبشرني ربي بابن، وبأني سأعيش أيامًا بعد ولادته وسأقوم بتربيته؟ فما هذا الوحي الغريب المفعم بالعجائب؟

أما قوله تعالى قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هيّنٌ[، فقد قال عنه المفسرون، خوفًا من المسيحيين، أن قال كذلك هو من كلام الملاك الذي بلّغ زكريا الخبر، أما قال ربك هو عليَّ هيّنٌ فالقائل فيه اللهُ تعالى (الجامع لأحكام القرآن). مع أنه لا حاجة لهذا الفرق ولا داعي لهذا التأويل، إذ توجد في القرآن الكريم أمثلة كثيرة لانتشار الضمير حيث ينتقل الضمير من الخطاب إلى الغائب ومن الغائب إلى الحاضر. الحق أن ما يقوله الملاك إنما هو قول الله تعالى في الحقيقة، لأنه لا يقول شيئًا من عنده، بل يبلّغ كلام الله تعالى. فإذا كانت جملة قال كذلك من مقولة الملاك فإنما هي مقولة الله في الحقيقة إذ قالها نيابة عن الله تعالى، لا من عند نفسه.

الحق أن قوله تعالى قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هيّنٌ ينبهنا أن نعتبر الأمرين من الله تعالى، فإذا نُسب الكلام إلى الملاك فأيقِنوا أن منبع كلامه هو الله، وإذا نُسب الكلام إلى الله فأيقِنوا أنه تعالى قد تكلم مباشرة.

ثم قال الله تعالى وقد خلقتُك مِن قبل ولم تكُ شيئًا . وأرى أن قوله تعالى خلقتُك لا يشير هنا إلى الخلق المادّيّ، إذ لا خصوصية لزكريا في هذا الخلق، وإلا لقال الله تعالى «وقد خلقتُ الكون كله من قبل ولم يك شيئًا». فما دام الله تعالى يوجه الخطاب هنا إلى زكريا خاصة، فثبت أن الحديث هنا لا يدور عن الخلق المادي، وإنما يشير في الواقع إلى أمر آخر، وهو – عندي – ما ذُكر في قوله تعالى لم نجعَلْ لـه مِن قبل سميًّا . فولادة ابن عند زكريا أولاً، ثم كون الابن يعيش ثانيًا، ثم كونه ابنًا غير عادي منقطع النظير في مجالات معينة ثالثًا كانت أمورًا محيرة حقًّا. فأجاب الله على الأمرين الأولين بقوله قال كذلك قال ربك هو عليَّ هيّنٌ . بينما أجاب على الأمر الثالث بقوله وقد خلقتُك من قبل ولم تك شيئًا .. أي لم يكن لك يا زكريا من قبلُ شأن يُذكَر، ثم وهبنا لك العلوم والمعارف، كذلك نحن قادرون القدرة كلها على أن نمنح ابنك أيضًا هذه الحقائق والمعارف.

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (مريم: 11)

التفسير:

لقد استخدم القرآن في مواضع كثيرة كلمة «الآية» بمعنى الأمر والحكم، ولذلك تُسمَّى جُمل القرآن آياتٍ لكونها تحتوي على أوامر الله تعالى وأحكامه. فقول زكريا رَبِّ اجعَلْ لي آية يعني ربِّ مُرْني بشيء أقوم به.. أي لقد أنعمت عليّ بنعمة عظيمة أريد أن أشكرك عليها، فأرجوك أن تأمرني بأمر يكون علامة ظاهرة على شكري إياك، فأقوم به وأفرح بأني قد نفذتُ أمر ربي.

يتضح من التوراة أن الله تعالى جعل لبني إسرائيل بعض العلامات بصدد  الأنباء المستقبلية. فكانت بعضها علامات سماوية، وبعضها عبادات فقط. فقد ورد في التوراة أن الله تعالى عهِد إلى نوح وأولاده أنه لن يأتي بعد ذلك بطوفان عالمي في المستقبل، وقد جعل قوس قزح علامةً على ذلك. ونص العبارة كالآتي:

«وكلّم الله نوحًا وبنِيه معه قائلاً: وها أنا مقيمٌ ميثاقي معكم ومع نسلكم مِن بعدكم، ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة التي معكم.. الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض التي معكم مِن جميع الخارجين من الفُلْك حتى كلّ حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم، فلا ينقرض كل ذي جسد أيضًا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضًا طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعُه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحيّة التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعتُ قوسي في السحاب، فتكون علامةَ ميثاق بيني وبين الأرض. فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض وتظهر القوسُ في السحاب أني أذكُر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفسٍ حيّةٍ في كل جسد. فلا تكون أيضًا المياه طوفانًا لتُهلك كلَّ ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقًا أبديًّا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمتُه بيني وبين كل ذي جسد على الأرض» (التكوين 9: 8-17).

لا شك أن هذه الرواية مشوهة، إلا أنها تخبرنا بكل تأكيد بعادات اليهود وتقاليدهم، مبيّنةً أن الله تعالى إذا عهد إليهم عهدًا جعل على تحقيقه علامة ظاهرة من عنده. وأحيانًا جعل الله لذلك أمرًا كان على العباد القيام به. فقد ورد في التوراة: «قال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلُك مِن بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يُختَن منكم كلُّ ذَكَرٍ. فتُختَنون في لحم غُرْلَتِكم. فيكون علامةَ عهدٍ بيني وبينكم.» (التكوين 17: 9- 11).

كذلك جعل الله تعالى السبت علامةَ عهدٍ لـه حيث ورد: «وقَدِّسُوا سُبوتي فتكون علامةً بيني وبينكم لتعلَموا أني أنا الربُّ إلهُكم» (حزقيال 20: 20).

بينما أجاب على الأمر الثالث بقوله وقد خلقتُك من قبل ولم تك شيئًا .. أي لم يكن لك يا زكريا من قبلُ شأن يُذكَر، ثم وهبنا لك العلوم والمعارف، كذلك نحن قادرون القدرة كلها على أن نمنح ابنك أيضًا هذه الحقائق والمعارف.

فاتضح من هذه الفقرات أن القيام ببعض الحسنات قد جُعل علامة ظاهرة على تحقق بعض الأنباء عند بني إسرائيل. وعلى هذا النحو نفسه دعا زكريا ربَّه فقال: ربِّ اجْعَلْ لي آيةً .. أي مُرْني بشيء أعمله حتى يصبح وعدك أمرًا مفعولاً. ذلك أن العبد إذا وفى بوعده أنجز الله وعده حتمًا كما وعد تمامًا، ولم يبدّله بشكل آخر.

ثم تقول الآية: قال آيتك ألا تكلّم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويًّا .. أي قال الله تعالى إني آمرك، كعلامة على شكرك لي، أن لا تكلّم الناسَ ثلاث ليال وأنت سليم معافى لا مرض بك ولا عيب، وذلك لكي تتمكن من التركيز على ذكر الله في هذه الأيام خاصة.

وجدير بالملاحظة هنا أن الله تعالى لا يقول «آيتك ألا تكلّم»، وإنما يقول آيتُك ألا تكلّم الناسَ . ذلك أن الإنسان الحائز على الكمال الروحاني لا يكلّم الناس فحسب، بل يكلم اللهَ أيضًا. فترى كيف تكلَّمَ زكريا مع ربه كلامًا طويلاً إذ قال: رَبِّ إني وَهَنَ العظمُ مني واشتعلَ الرأسُ شَيبًا ولم أكنْ بدعائك رَبِّ شقيًّا * وإني خفتُ المواليَ مِن ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهَبْ لي مِن لدنك وليًّا * يرِثني ويرِث مِن آل يعقوبَ واجعَلْه رَبِّ رضيًّا . فهذا الكلام كله لم يكن مع بشر، بل مع الله تعالى. ثم إن عباد الله الأخيار يتكلمون أحيانًا مع الملائكة أيضًا. فكلمة الناس الواردة هنا قد استثنت الكلام الذي يتم مع الله تعالى والملائكة، مؤكدة أن الله تعالى إنما أمر زكريا بصوم السكوت فقط لكي يركّز في هذه الأيام على ذكر الله تركيزًا خاصًّا، وليس المراد أن الله تعالى سلبه قوة النطق تمامًا. لو كان الأمر هكذا لقال الله تعالى «آيتك ألا تكلّم» بدلاً من أن يقول آيتك ألا تكلّم الناسَ .. أي عليك أن تفرض على نفسك ألا تكلّم الناسَ في هذه الأيام رغم كونك سليمًا معافى قادرًا على الكلام.

لقد اشترط الله تعالى هنا إنجاز وعده بأمر من أوامره، والحكمة في ذلك أن العبد لو نفذ أمر الله تعالى فلا بد أن يتحقق ذلك الوعد ولا يلغى أبدًا.

وليكن معلومًا أن قوله تعالى ثلاث ليال[، لا يعني الليالي الثلاث فقط، بل يعني الليالي الثلاث مع نهارها. ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً (الأعراف: 143)، أي ثلاثين ليلة مع نهارها.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (مريم: 12)

شرح الكلمات:

المحراب: الغرفة؛ أكرمُ مواضعِ البيت، ومنه سُمّي محراب المسجد وهو مقام الإمام؛ الموضعُ الذي ينفرد فيه الملِك (للتدبر في القضايا) فيتباعد عن الناس؛ القصرُ؛ مأوى الأسد (الأقرب).

فأوحى: أوحى إليه إيحاءً بعَثه؛ وأوحى إليه بكذا: ألهمَه به (الأقرب).

وفي الأساس: وحيتُ إليه وأوحيتُ: إذا كلّمته بما تخفيه عن غيره. وفي المصباح: «وبعض العرب يقول: وحَيتُ إليه ووحَيت لـه وأوحيت إليه.

إذًا فالوحي لا يعني الإشارة فقط، بل المراد منه إعلامك صاحبك بأمر ما في خفاء عن الآخرين.

بكرة: وهو من طلوع الفجر إلى الضحى.

عشيًّا: العشي: آخر النهار؛ وقيل: من صلاة المغرب إلى العتمة (الأقرب).

التفسير:

لما أُمر زكريا بالسكوت ثلاث ليال مع نهارها ليذكر الله خلالها كثيرًا، قرّر العملَ بأمر الله تعالى. فخرج مِن غرفته أو محراب مسجده، وكلّم أصحابه بكلام خافت لم يُسمعه غيرهم. وهذا أيضًا يؤكد أنه لم يفقد القدرة على الكلام بتاتًا، بل يعني قوله تعالى فأوحى إليهم أنه تكلم معهم بحيث لم يسمع غيرهم.

وفي سورة آل عمران قال الله تعالى آيتُك ألا تكلّم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رَمْزًا (الآية: 42) بدلاً من أوحى إليهم . وبما أن كلمة الرمز تعني الإشارة عمومًا، فقد فسرها المفسرون هنا بمعنى الإشارة متأثرين من بيان الإنجيل (تفسير ابن كثير). ولكن تذكر القواميس أن من معاني الرمز الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين (الأقرب). والظاهر أن الإنسان لا يشير بالشفاه وإنما يتكلم بها كلامًا خافتًا. فالمراد من الإيماء بالشفاه أن يتكلم الإنسان بحيث لا يرتفع صوته، كقولنا لمن يكون بحنجرته التهاب: تكلّمْ بحيث لا يرتفع صوتك. بل يقول الثعالبي الإمام في اللغة عن لفظ الرمز: «هو مختص بالشفة» («فقهُ اللغة» للثعالبي: فصلٌ في تفصيل تحريكات مختلفة).. أي هو مختص بالكلام الخافت بالشفة دون الحنجرة. وهذا المعنى مطابق تمامًا لقوله تعالى فأوحى إليهم .. بمعنى أن زكريا مُنع من الكلام بصوت عال، وأُمر بالكلام بالشفاه أي بصوت خافت. ذلك لأنه كان لزامًا عليه أن يبلّغ أصحابه القريبين بما أمره الله به، فقال لهم بصوت منخفض جدًّا: سوف أركّز على ذكر الله تعالى في الأيام الثلاثة التالية خاصة، فاذكروا الله أنتم أيضًا بكرة وعشيًّا. ولأن البكرة يطلق على الصباح إلى الظهر، ويطلق العشي على ما بعد زوال الشمس إلى الليل، فالمراد أنني سأقضي كل هذه الأيام في ذكر الله وعبادته، فعليكم أيضًا أن تركّزوا فيها على العبادة والذكر.

Share via
تابعونا على الفايس بوك