التاريخ الصحيح لولادة المسيح

التاريخ الصحيح لولادة المسيح

  • ما حقيقة قضية تعدد تواريخ ميلاد السيد المسيح بتعدد الكنائس المسيحية؟
  • ما الشهادة التي يدلي بها كل من إنجيل لوقا واكتتاب أغسطس قيصر بهذا الصدد؟
  • ما المعروف الذي يقدمه البيان القرآني للفصل في هذه المسألة؟

___

يبدو من مطالعة سيرة السيد المسيح الناصري من خلال الأناجيل الكثيرة المختلفة، والتي يشتهر منها بين أيدينا أربعة، أن هذه الشخصية كانت من أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للجدل، ولا يمكن لأحد من الباحثين في بيوغرافيا السيد المسيح الجزم بمعلومة واحدة مؤكدة، المعلومة الوحيدة المؤكدة والمتفق عليها بين المسيحيين أن كل ما قيل بشأن المسيح هو محل شك وتخمين، وهنا يتردد في الذهنية المسلمة صدى قول القرآن الكريم:

وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (1)

من منظور تاريخي، لم يحتفل اليهود والمسيحيون الأوائل بعيد ميلاد شخص ما، حتى ولو كان مهما، وبالتالي ليس من المستغرب أن تكون المعلومات عن مولد المسيح قليلة. ولم تكن مناسبة يوم الميلاد السنوية حدثا مهمًا، حتى إن إنجيلي مرقس ويوحنا لم يتطرقا إلى هذه القضية قط، ويبدأ كل منهما سرد قصة حياة المسيح من وقت بلوغه سن الرشد.(2)

وثمة سجلان اثنان كتبهما بعد مضي زمن طويل على ميلاد المسيح الناصري شخصان لم يلتقيا به قط، هذان الشخصان هما متى ولوقا، والمعدودان من كتبة الأناجيل. يقول كاتب إنجيل متى، والذي هو أيضا بالمناسبة شخصية مجهولة، ربما بين عامي 75 و85 بعد الميلاد(3)، وقد كتب متى:

«وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ»(4).

ثم إن المتفق عليه تاريخيا أن هيرودس توفي في العام الرابع قبل الميلاد. وإذا كان متى محقًا، فإن المسيح ولد في وقت ما قبل العام الرابع قبل الميلاد، أي قبل التاريخ المحدد لميلاده بأربع سنوات كاملة.

إنجيل لوقا واكتتاب أغسطس قيصر

أما إنجيل لوقا، والذي كتبه مجهول أيضًا بين عامي 80 و85 بعد الميلاد، فلم ينص على اسم الملك أيام حمل السيدة العذراء بالسيد المسيح، على الرغم من أنه حين تحدث عن يوحنا المعمدان، ذكر أن هيرودس كان ملكًا عندما حبلت أليصابات بيوحنا المعمدان قبل ذلك بفترة وجيزة، فكتب لوقا:

«كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ ….. ظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا»(5).

غير أن لوقا نفسه، يذكر أن أيام حمل السيدة العذراء «صدر مرسوم من القيصر أغسطس بفرض ضريبة، وفُرضت هذه الضريبة عندما كان “كِيرِينِيُوسُ” حاكم سوريا، فكتب لوقا:

“…. وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى.” (6)

المعلوم أن مشقة  بالنسبة لامرأة حُبلى لا تخفى على أحد، لا سيما في أيام الحر القيظ أو البرد الشديدين، ومعلوم أيضا أن شهر ديسمبر/ كانون الثاني هو من شهور الشتاء، بل والبرد الشديد. وربما سقطت ثلوج  على المرتفعات. زد على هذا أن السفر في تلك الأيام كان على ظهور الخيل والبغال والحمير، وفي أفضل الأحوال على العربات المجرورة بالدواب.  فأي زوج عاقل ذلك الذي يعرض زوجه لكل هذه الصعاب؟! خصوصا أن المقتبس من إنجيل لوقا ….. يطرح إشكالية تاريخية أخرى، إذ كانت الاكتتابات الضريبية إجراءً إداريًا يُنظم محليًا، فهي من شأن الولاة المحليين، وليس من اختصاص القياصرة(7) وحتى إن سلَّمنا جدلا بأن هذا الاكتتاب كان مرسوما قيصريا كما يقال، فيستبعد عقلا أن يجري هذا الاكتتاب في نهار أيام فصل الشتاء الذي يتصف بالقصر. خصوصا في ديسمبر حيث النهار اقصر والسماء ملبدة بالغيوم، وتوشك أن تمطر في أي وقت. فاجتماع هذه الظروف  معا يجعل من عملية الاكتتاب أمرا متعسرا. لكن هذا العمل يكون سهلا على الجميع اذا كان الجو معتدلا والنهار أطول ويتزامن مع موسم الحصاد حيث تكثر المحاصيل مما يحفز الموظفين والمواطنين على السواء.

لوقا يعترض!

يروي لوقا في إنجيله مشهدا حول حدث ميلاد السيد المسيح، فيقول:

«كَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ»(8)

يذكر المقتبس من إنجيل لوقا أن بالقرب من محل ولادة المسيح كان هناك رعاة يحرسون قطعان ماشيتهم. ونعلم أن في ديسمبر، والخامس والعشرين منه بشكل خاص، يكون الجو باردا وفي بعض الأحيان ممطرا مع سقوط ثلوج على المرتفعات. وفي مثل هذا الطقس يفضل الرعاة تسكين ماشيتهم وإطعامها داخل الحظائر، بدلا من إطلاقها في هذا البرد. فقط في الربيع والصيف حيث موسم الحصاد وكثرة الكلأ، يستحب الرعاة الخروج بماشيتهم والتنقل بها سعيا وراء المرعى. وبكل تأكيد الحراسة الليلية جد ضرورية في هذه الحال.

تعدد الأيام، لتعدد الكنائس

أصبح تقليدا كنسيا الاحتفال بميلاد المسيح في القرن الثالث الميلادي، واتخذت كل كنيسة سبيلها في تحديد يوم خاص بالمناسبة، فكان اليوم الذي استقرت عليه الكنيسة الشرقية الأرمنية هو السادس من يناير، بينما الكنائس الأرثوذكسية الأخرى تتخذ من السابع من يناير يوما للاحتفال بميلاد المسيح. وفي مرحلة من المراحل، استقرت الكنيسة الكاثوليكية على الخامس والعشرين من ديسمبر، وهو التاريخ الأكثر شهرة وتداولا لا سيما لدى الدول الغربية التي تمذهبت تاريخيا بالمذهب الكاثوليكي. وفي الواقع، فإن عدم ترجيح أي من التواريخ الثلاثة المذكورة يستند إلى كل ما ذكرنا من القرائن السالفة.

لماذا الخامس والعشرون من ديسمبر؟!

يقول المؤرخ البريطاني دومينيك سيلوود: «لا سبب مقنعًا أو وجيهًا لاختيار هذا اليوم، علمًا أن الخامس والعشرين من ديسمبر هو بداية موسم الشتاء في التقويم الروماني». والأرجح أن الكنيسة في بداياتها الأولى حددت عيد ميلاد جوشوا بيوم الخامس والعشرين من ديسمبر، لأنه كان تقليديًّا يوم احتفالات. كان لهذا اليوم دلالات رمزية قوية أيضًا، فالشمس التي لا تُقهر أصبحت شمس الحق، وأوضح القديس أوغسطين أن جوشوا ولد في أقصر يوم في الحسابات الدنيوية، تبدأ منه الأيام اللاحقة بزيادة طول النهار. ومع اضمحلال العبادات الشمسية الوثنية، مُحيت ذكرى احتفالاتها، على الرغم من أن العملية استغرقت وقتًا طويلًا. وحتى عهد البابا ليو (440-461م)، كان الرومان يحتفلون بمهرجان الشمس الوثني في الخامس والعشرين من ديسمبر. وشكا البابا، لأن عُباد الشمس ظلوا يتجمعون على أعتاب كنيسة القديس بطرس في ذلك اليوم لعبادة الشمس المشرقة فوق المحراب.(9)

دقة البيان القرآني

بالطبع لا يمكن إلزام غير المسلمين بما جاء في القرآن من بيان، ولكن ندرج هذا البيان كدليل صدق نبي الإسلام. فهو لم يكن يعلم أن المسيح ولد في الصيف، كما أن في زمنه كان المسيحيون يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح في الخامس والعشرين من ديسمبر ويوم ختانه في الأول من يناير. فالذي يدعي على نبي الإسلام أنه نقل من اليهود والنصارى يقف مبهوتا أمام عدم نقل نبي الاسلام هذا الخطأ الفادح ومخالفته إجماع النصارى وهو الذي نزه السيد المسيح وأمه من التهم التي رماهما بهما اليهود.

يقول الحق سبحانه في سورة مريم:

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (24) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (25) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (26) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا (10)،

والعجيب أن الطبيعة المناخية لمنطقة الشرق الأوسط، وتحديدا منطقة فلسطين وما حولها، تصدق البيان القرآني، فغير خافٍ على كثيرين، سيما من يهتمون بمواسم الحصاد، أن موسم التمور والرطب في فلسطين يكون خلال سبتمبر وأكتوبر من كل عام، وإذا كانت وجهتنا أريحا تحديدا، والتي تشتهر عالميا باسم «مدينة النخيل»، فسنجد أن موسم قطف التمور فيها يحل مبكرا قليلا حيث يكون في شهر أغسطس من كل عام. نعم، ففي هذا النطاق الزمني ولد السيد المسيح ، أي بين أغسطس وأكتوبر، وهي الفترة التي تعرف بموسم قطف التمور في هذه المنطقة الجغرافية.

قصارى القول

مسألة الاختلاف في تحديد يوم ميلاد المسيح لا علاقة لها بتاريخ ميلاد المسيح الفعلي، بل بحسابات فلكية وباختلاف التقاويم التي اعتمدت لقياس الأشهر والفصول على مر العصور، منذ نشأة المسيحية الأولى. الأكيد أن التواريخ المختلفة المذكورة لميلاد يسوع الناصري والمحتَفَل بها في الأوساط المسيحية على اختلاف مذاهبها، لا يبدو أن هناك ما يدعم صحتها، والواضح الآن أن تاريخ العيد المحتفل به اتفق عليه على مرّ السنين لأسباب يعيدها بعض المؤرخين إلى التلاقح بين طقوس الجماعات المسيحية الأولى، والعادات الوثنية التي كانت سائدة في مناطق واسعة من الإمبراطورية الرومانية.

الهوامش:

  1. (النساء 158)
  2. دومينيك سلوود: هذا اليوم نحتفل بميلاد يسوع …، جريدة التلغراف.
  1. راجع: الخوري بولس الفغالي، من القراءة إلى التأمل مع القديس متى، الرابطة الكتابية – بيروت، 1993م
  2. دومينيك سلوود: هذا اليوم نحتفل بميلاد يسوع ..
  3. (إِنْجِيلُ مَتَّى 2 : 2)
  4. (إِنْجِيلُ لُوقَا 1 : 5-13)
  5. (إِنْجِيلُ لُوقَا 2 : 2-5)
  6. مقال دومينيك سلوود (2)
  7. (إِنْجِيلُ لُوقَا 2 : 8-11)
  8. مقال دومينيك سلوود (2)
  9. (مريم: 24-27)
Share via
تابعونا على الفايس بوك