صاحب الحل الأمثل لإحلال السلام الدائم
  • هل يمكن القول بأن للموقف من مسيح الزمان وجماعته يد في المصائب التي تُصب على رؤوس مسلمي هذه الأيام؟
  • ما اليقين الواجب غرسه في قلوب الناس فتتطهر أمنياتهم وتنصلح أعمالهم؟

 ___

الخطاب النهائي الذي ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 22/8/2022م

في إسلام آباد ببريطانيا بمناسبة الجلسة السنوية في ألمانيا

بعد التشهد والتعوذ وقراءة سورة الفاتحة

يا أهل العالم، لستم بمأمن!

إنه من فضل الله العظيم ومنته أن وفق الجماعة الإسلامية الأحمدية بألمانيا لعقد جلستها السنوية رغم الظروف السائدة الآن في العالم، وإنكم تعقدون الآن هذه الجلسة بترتيبات أوسع مقارنة مع السنة المنصرمة.

لقد أقضَّت جائحة كورونا مضاجع العالم أولا، وما كادت مشكلة هذه الجائحة تنتهي حتى اندلعت نيران الحروب السائدة التي أوصلت العالمَ إلى منعطف خطير جدًّا إلى درجة أنْ لا تُرى بقعة من بقاع العالم في مأمن من هذا الدمار المتوقع، ولا يمكن للناس الهروب من هذه الكارثة ما لم يلجأوا إلى الله وحده.

كانت أوروبا والدول الغربية والدول المتقدمة تجلس مطمئنة سابقًا زاعمة أن المناطق والبلدان المتعرضة  للحروب، وأوضاع الفساد والتدمير، تبعد عنها آلاف الأميال، أما هم فبمأمن منها. فإذا كانت الأوضاع من السوء بحيث تتساقط القنابل، وكثير من الناس يلقون حتوفهم، والنساء يترملن، والأطفال يتيتمون، وكثير من الناس يصابون بعاهات مستديمة، بحيث يصيرون مُقعَدين ومعاقين، فإن كل ذلك إذ يحدث في آسيا وفي الشرق الأوسط وفي البلدان الفقيرة، فإن الأمر لا يعنيهم شيئًا.

إن هذه البلاد المتطورة تصدّر أسلحتها إلى تلك البلدان ويهمها فقط أن يستمرّ بيع أسلحتها، فإذا مات الناس في تلك البلدان فليموتوا لأن ذلك لا يهمهم. ولكن نسي هؤلاء أنهم أيضا قد يتعرضون للظروف نفسها، إذ إن عقولهم قد اختلت في نشوة تقدمهم وأعينهم قد عميت، ويرى العالم الآن أنه قد حدث ما يلوح خطره، أي حدثت أوضاع الحرب في أوروبا أيضا؛ إذ إن روسيا ودول الناتو تقف وجهًا لوجهٍ الآن بسبب أزمة أوكرانيا.

الله أعلم من الذي سينتصر في النهاية، وما مقدار الخسائر التي ستلحق بالجانبين، لكن من المؤكد أن عواقبها ستكون خطيرة للغاية، وإذا لم يتم إعمال العقل الآن أيضا فإن عاقبتها ستكون مدمّرة ومخيفة. ثم نرى أن قضية تايوان أيضا قد أُثيرت الآن، مما يوضح أن العالم كله الآن على وشك حرب رهيبة. لقد حذر مبعوث الله في هذا العصر بقوة وشدة قائلا: فيا أهل أوروبا، لستم بمأمن، ويا سكان آسيا، لستم أيضا بمأمن، ويا سكان الجُزُر، لن يقدر إلهٌ باطلٌ على إسعافكم. إنني أرى المدن تتهدم وأجد العمران يتحول خرابا.

ووفقا لهذا القول والتنبيه والتحذير يلفت خلفاء الجماعة الإسلامية الأحمدية من وقت لآخر انتباه العالم إلى هذا الأمر، وإنني أيضا منذ فترة أنبّه الناس إلى هذا الأمر، وأخبرهم أنهم إن لم يرجعوا إلى خالقهم الواحد الأحد فإن مصيرهم هو الدمار، وأخبرهم منذ مدة أن العالم ينقسم إلى كتل متعددة وستكون نتيجته النهائية تدمير بعضها بعضا، لذلك ينبغي أن تعقلوا وتعوا. ولكن معظم هؤلاء كانوا فيما سبق يسمعون كلامي،  ويقولون لي: صحيح أن الظروف ليست على ما يرام، وهي سيئة إلى حدّ ما، ولكنها ليست مخيفة وباعثة على اليأس كما تصوّرها أنت، وهذا ما قاله لي بعض أفراد جماعتي أيضا، إلا أن من كانوا يلقون على الأوضاع نظرة عابرة سابقا  أصبحوا يقولون الآن بأن الظروف تتحول من سيئ إلى أسوأ، وإن بقيت على المنوال نفسه فيمكن أن تؤدي إلى حرب رهيبة في أي وقت، وبدأ الآن مفكروهم والمحللون يقولون بهذه الأمور علنًا.

ولكن مع كل ذلك فإنهم لا يملكون الحل الأمثل لإحلال السلام الدائم. وأنى يكون لديهم ذلك في حين أنهم مُعرِضون عن مصدر الأمن والسلام، فإنهم منغمسون في الدنيا ونسوا الدين. فلا تريد هذه الحكومات غير المسلمة، بل والمسلمة أيضا لسوء الحظ، أن تأتي حيث يمكن إحلال السلام العالمي. ويقول المحللون في بعض الأماكن الآن أن الدمار الذي سيلحق العالم نتيجة هذه الحروب يكون فظيعًا بحيث يُقدَّر أن يُقضى على ستة وستين بالمائة من سكان العالم جراء استخدام الأسلحة النووية أثناء الحرب، وفي العامين التاليين بسبب آثارها. فسيحصل دمار لا يسع أحدا تصورُه، ولا يقدر الإنسان العادي حتى على التفكير فيه، فإنها ظروف مخيفة للغاية!

فما أشقى المسلمين إذ لديهم مثل هذا التعليم الجميل والرائع ويدّعون اتباع أسوة هذا الرسول المواسي للناس، ومع ذلك يستجلبون غضب الله تعالى! وبدلا من نشر الأمن والسلام في العالم يشتهرون بنشر الفساد. وكل ذلك لأنهم لا يريدون أن يسمعوا كلام الذي بعثه الله تعالى خادمًا صادقًا لأحب الناس إليه، والذي أرسله لنشر تعليم الأمن والسلام. ولا يقتصر الأمر على إعراضهم عن الاستماع لقوله بل تماديهم في معارضتهم إلى درجة أن يعدّوا تكفيره وتكفير أتباعه وقتلهم خدمة للإسلام ومعيارًا لمحبة النبي خاتم النبيين محمد المصطفى ،

صاحب الحل موجود سلفا!

بإزاء ما يجري، إذا كان هناك بارقة أمل أو ضمان للأمن والسلام في هذه الأوضاع فهي لدى شخصية واحدة فحسب، وهو من أرسله الله تعالى بتعليم الأمن والسلام، الذي هو ملك السلام، والذي هو أحب إلى الله تعالى من جميع الناس، والذي نزلت عليه شريعة الله الكاملة، والذي تعليمه هو تعليم الحب والوداد، الذي بخع نفسه من أجل علاقة الناس مع الله تعالى وحرصًا منه على نشر التعاليم التي أنزلت عليه في العالم، وكان همّه هو إنقاذ العالم من الدمار، والشعور بألم شديد تجاهه. وقد بلغت حالته هذه حدًّا بحيث دعا الله تعالى تضرعًا وبكاءً من شدة الكرب، فخاطبه الله تعالى بقوله:

لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . (1)

فهذه هي الشخصية التي كانت تكن ألـمًا وحرقةً من أجل البشرية ليرجع الناس إلى خالقهم وينجوا من الدمار المحقق، وينقذوا بذلك دنياهم وأخراهم أيضا. لقد أعطى تعليمًا جامعًا وشاملا لا يمكن لأي تعليم آخر أن يضاهيه، وقد قدّم للأمن والسلام ضمانًا أعطاه الله تعالى إياه. ولكن مع الأسف أن المسلمين أيضا نسوا هذا التعليم، ورفعوا هتافات الإيمان الفارغة وأصبحوا متعطشين لدماء بعضهم البعض، بل واستعانوا بالأغيار لأجل ذلك، أي أنهم يقتلون ناطقي الشهادتين بمساعدة المعارضين. فما أشقى المسلمين إذ لديهم مثل هذا التعليم الجميل والرائع ويدّعون اتباع أسوة هذا الرسول المواسي للناس، ومع ذلك يستجلبون غضب الله تعالى! وبدلا من نشر الأمن والسلام في العالم يشتهرون بنشر الفساد. وكل ذلك لأنهم لا يريدون أن يسمعوا كلام الذي بعثه الله تعالى خادمًا صادقًا لأحب الناس إليه، والذي أرسله لنشر تعليم الأمن والسلام. ولا يقتصر الأمر على إعراضهم عن الاستماع لقوله بل تماديهم في معارضتهم إلى درجة أن يعدّوا تكفيره وتكفير أتباعه وقتلهم خدمة للإسلام ومعيارًا لمحبة النبي خاتم النبيين محمد المصطفى ، ويرون أن اللعب بحياة الأحمديين مجلبة الأجر والثواب لهم. فأنى لمثل هؤلاء أن ينشروا تعليم الأمن للإسلام في العالم؟! ليتهم يتعقلون، وليت علماءهم يُعمِلون العقل والحكمة بدلا من أن يصبحوا علماء السوء، وذلك لكي يصبحوا أمة واحدة فينشروا تعليم سيدنا محمد في العالم، ويتمكنوا من خلال اتباعهم للخادم الصادق للنبي وإيصال رسالة الأمن والسلام الحقيقي إلى العالم.

على أية حال، إنه موضوع منفصل ويحتاج إلى تفصيل، أما الآن فسأذكر بعض الأمور من تعاليم الأمن والسلام والشريعة النازلة على النبي ، وعلى ضوئها أطرح بعض الأمور عن السلام العالمي.

إن نطاق تعليم النبي وأسوته واسع جدًّا بحيث لا يمكن إحاطته في هذه العجالة ولكنني، كما قلت، سأقتصر على ذكر بعض الأمور.

فرية مقيتة على الجماعة الإسلامية الأحمدية

يُفترَى على الجماعة الأحمدية بأنهم -والعياذ بالله- يسيئون إلى النبي وينالون من عرضه ويعلِّمون ذلك، ولكن الحق أن الذين يعملون بتعليم النبي ويحبونه حقيقةً هم الأحمديون، وأدبياتُ الجماعة تشهد بذلك. وكل عام ينضمُّ إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية آلافُ السعداء بسبب هذا التعليم وهذا الحب، وغيرنا أيضا مضطرون إلى الإقرار بأن هذا التعليم مؤثرٌ للغاية وناشرٌ للحب والسلام إلى درجة أنه هو الحل، بل والحل الوحيد لمشكلة غياب الأمن في العالم.

النبي هو رسول الأمن إلى العالم

قبل أيام قليلة كنتُ عرضتُ تقريرًا عن رقي الجماعة وانطباعات الناس عن الجلسة، وكيف أنهم تأثروا بالمحيط الأحمدي وجوّ الجلسة وعلموا بتعليم الإسلام الآمن. فمهما فكّر أعداؤنا أو فعلوا فإذا كنا صادقين في حبنا للنبي فعلينا أن نتحلى بتعليمه ونشره في العالم، وأن نخبر العالم أنه هو الحل الوحيد لإرساء دعائم الأمن والسلام في الدنيا، فتعالوا نرتبط بهذا الإنسان العظيم الذي جاء بهذا التعليم الآمن ونهيئْ أسباب السلام لنا في الدنيا والآخرة. وهذه ليست مجرد أقوال بل حين ننظر إلى التاريخ نجد كيف أخرج هذا النبي الأميين الجهلة من الظلام وأوصلهم إلى منارات الأخلاق العظيمة والعلم والعمل.

قال المسيح الموعود : هو ذلك الرسول الذي حوّل الوحوش إلى البشر وجعل من البشر أصحاب الأخلاق العالية، أي أقامهم على مركز الاعتدال للأخلاق الحقيقية، ثم حوّلهم من أناس ذوي أخلاق عالية إلى الواصلين بالله والمصطبغين بصبغة الله، فعلّم النبي المؤمنين به ومحبِّيه أسرار الأخلاق والعبادات التي جعلتهم فائزين بقرب الله تعالى حتى صار كل قول وعمل لهم من أجل رضى الله تعالى، وإذا أدوا حقوق العباد فذلك أيضا كان لنيل قرب الله تعالى، إذنْ فاتباع النبي بكل صدق يوصل المرء إلى مرتبة الحب الحقيقي لله، وهذا الحب الحقيقي يجعل كل قول له وفعل نائلا رضى الله تعالى.

قال المسيح الموعود عن اتباع النبي بكل صدق بأن اتباع النبي بصدق القلب وحبَّه يجعلان المرء حبيب الله في نهاية المطاف. وهذا هو الانقلاب الذي أحدثه النبي في قلوب الناس بحيث صار المشركون موحدين حتى أصبحوا أحباب الله، فكانوا يحبون الله وكان الله يحبهم. وهؤلاء المحبون للهَ حين أدّوا حق عبادته فأدوها بأحسن وجه، وحين عملوا بتعليم الله تعالى عملوا بها بأحسن وجه وضربوا مثالا حيًّا لذلك، وإذا أحب المرء أحدا سعى للعمل بكل قول له للاقتداء بكل فعل له وسعى لسماع كل قول له والعمل به، ولم يدّع الحب باللسان فقط، فحين نشأ لدى هؤلاء الناس حب الله توجهوا إلى أداء حقوق خلق الله أيضا فبدؤوا يتسابقون لأداء حقوق العباد أيضا، وحين تنشأ هذه الحالة يكون الحب المتبادل لوجه الله تعالى، ويؤدي المرء حقوق الآخرين لنيل رضى الله تعالى، وإذا قام هذا المعيارُ تأسس الأمن والسلام وسعى المرء لذلك وأقام معاييره.

فإن شخص النبي هو الذي أرانا سبل الله وهو الذي لو عملنا بالتعليم الذي نزل عليه استطعنا إرساء الأمن والسلام في الدنيا. علينا أن نتذكر دوما أن بناء الأمن يبدأ من البيت ثم تتسع دائرته إلى صعيد الحي ثم القرية أو المدينة ثم الدولة ثم الصعيد العالمي. إذا اهتم كل واحد منَّا بعواطف وحقوق بعضنا البعض على جميع المستويات سيتحقق الأمن، وهذا هو التعليم الذي أعطانا إياه الله تعالى بواسطة النبي لكل الفئات. قد تناول المصلح الموعود هذا الموضوع في عدة مناسبات ولكن ذات مرة تحدث حول الموضوع «النبي وأمن العالم»، وسوف أبين بعض الأمور مستفيدا من موضوعه ، إننا ندرك تماما ضرورة الأمن وأهميته، وحين يُطرح موضوع الأمن على مائدة النقاش، لا يجد أي شخص مندوحة من الإقرار بضرورة الأمن  وأهميته، وأن حال الأمن هي الضمان لسكينة البيت وسلامته، بل لسكينة العالم كله وسلامته، والجميع يتمنون الأمن على جميع الأصعدة ولكن مجرد الأمنية لا يمكن أن تخلق الأمن لأن أمنية الأمن هنا تتضمن مصالح ذاتية واستئثارًا، وهذا ما نشهده في العالم، ولولا المصالح الذاتية والأثرة لما نشبت الحروب. وعموما عندما يتحدث أحد عن الأمن فيريد بذلك الأمن لذاته، بل عموما حين يدعو الإنسان أو لا يدعو تجري على لسانه أمنيته هذه أن يُنعم الله تعالى عليه وزوجته وأولاده وأقربائه بالأمن، ولا يكون هذا الأمل لأمن الآخرين. أو يريد الإنسان مالا ليعيش حياته بسكينة ويحسبه جيدا، وهذا لا يعني أنه يحسب المال جيدا لعدوه أيضا بل هو يحسبه جيدا لنفسه فقط، وإذا كان يحسب صحة جيدة فهذا لا يعني أنه يحسب الصحة الجيدة لعدوه أيضا، سيتمنى لعدوه أن يكون مفلسا وضعيفا حتى يتفوق عليه. وهكذا إذا كان الناس يريدون العز والمكانة فيريدونهما لذاتهم وليس للجميع، ولن يتمنوا أن ينال الآخرون أيضا العز والمكانة نفسها. إنما نرى هذه المشاهد في الدنيا. والنزاعات التي تنشأ فيما بين عامة الناس أو القادة أو رجال السياسة، وعندما يصلون إلى سدة الحكم يظلمون بعضهم بعضا، وما نراه في دولنا إنما هو بسبب هذا التفكير. فمجرد تمني الأمن يمكن أن يكون ذريعة للفتنة والفساد، لأنه يتضمن المصلحة الذاتية والأثرة، لأن الذين يبتغون الأمن إنما يريدونه لأنفسهم ولأقربائهم أو لشعبهم فقط، وإلا فهم يريدون للآخرين وللأعداء أن يزول أمنهم، فإذا كان هذا المبدأ سائدا أن يكون لنا معيار وللآخرين معيار آخر فالأمن الذي سينشأ في الدنيا سيكون لبعض الناس فقط. ولن يستتب السلام في العالم، وما لم يكن السلام عالميا فلا سلام حقيقيا أصلا، وإنما سيعد السلامُ حقيقيا فقط إذا بُذلت الجهود لإقامته بعيدا عن ترجيحات شخصية وعائلية وقبلية وقومية ووطنية، أي عندما يرتكز على نقطة واحدة. وهذا لا يتأتى إلا إذا فهم الإنسان وأدرك أن فوقه ذاتًا عُليا لا تريد السلام له وحده، بل تريد السلام للعالم كله، والتي لا تريد الأمن لبيته وبلده فقط بل تريد السلام لكافة البلدان. فالنقطة المركزية لتعليم النبي لإرساء السلام هي الإحساس بأن هناك إلها عليًّا يراني ومن أجله يجب أن أوفِّق بين قولي فعلي. ومن أجل ذلك لا بد من أن نضع في الحسبان المبدأ الذهبي الذي علَّمَناه النبي أي: أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك. (2)

فلا بد لنا من التفكير واضعين هذا المبدأ في عين الاعتبار، أي أنني إذا كنت أتمنى السلام لنفسي فقط أو لقومي أو لبلدي، فلن أنال نصْر الله وعونه ورضوانه أبدا.

فاليقين بأن للعالم إلها يريد أن يعيش الناس كلُّهم بسلام، والعمل بموجبه حصرا، سيمكِّن الإنسان من إرساء دعائم الأمن الحقيقي. فإذا آمن الناس بهذا المعتقد وعملوا به، فسوف تتطهر أمنياتهم وتتنزه عن الأطماع الشخصية، بل سوف تنفع العالم كله

تمثُّل صفات الله الحسنى طريق العالم إلى الأمن

وإذا تمسك الإنسان بمعتقد أن عليه أن ينجز كل شيء ابتغاء مرضاة الله فعندها فقط يمكن أن يرسي دعائم السلام، وإلا فلا. فقد طهَّر الله نيات الإنسان حين أخبرَنا على لسان النبي أنه الملكُ القدوس السلام المؤمن، أي هو قدوس يطهِّر الآخرين ومنزَّه عن كل عيب ويهيئ السلام والأمن للجميع. ومن المؤكد أن الأعمال لا تصلح ما لم تتطهر النياتُ، إذا كانت النية والإرادة غير صالحة فكيف يبارَك في العمل. يجب أن تتذكروا أن من المستحيل أن تستقيم أعمالنا دون صلاح نياتنا. فسببُ جميع الحروب والفتن في العالم عدم صدق نيات الإنسان، وإن ما يقوله الناس بأفواههم لا يوافق أمانيهم ورغائبهم وأعمالهم. وفي فساد العالم هذا دخلٌ كبير للأقوام الكبيرة المتقدمة. صحيح أن الدنيا تستنكر القتال، حيث كل قائد يقول في تصريحه إن القتال سيئ، ويقصد بذلك أنه إذا قاتَل بلادَه أحدٌ فهو سيئ، أما إذا قاتَلت بلادُه بلدًا آخر فهو ليس سيئا. وهذا العيب فيهم لأنهم لا ينظرون إلى من هو السلام، ويهيئ السلام، ويظنون أنهم سيرفعون هتافات السلام إذا كان السلام يخصهم، أما إذا كان الأمر ضدهم فسوف يرفضونه. إذا ساعد أحدٌ عدوَّنا وقدَّم له السلاحَ فهذا مرفوض في كل حال، أما إذا قدَّمْنا السلاح لأحد حتى لو كان سيُستخدَم ظلما، فهو جائز. فإذا كان اتجاه التفكير هكذا فكيف يمكن أن يستتب السلام الحقيقي؟

فاليقين بأن للعالم إلها يريد أن يعيش الناس كلُّهم بسلام، والعمل بموجبه حصرا، سيمكِّن الإنسان من إرساء دعائم الأمن الحقيقي. فإذا آمن الناس بهذا المعتقد وعملوا به، فسوف تتطهر أمنياتهم وتتنزه عن الأطماع الشخصية، بل سوف تنفع العالم كله. وإذا تحقق ذلك فستكون لأفكارنا ومساعينا في إرساء الأمن معاييرُ أخرى. عندها لن ننظر إلى أمر ما بوصفه نافعا لنا أم لا، بل سنفكر في تأثيره في العالم كله. أهل الدنيا يدمرون سلام الآخرين من أجل مصالحهم، أما الذين يؤمنون بأن فوقهم ذاتا عُليا فلن يتجاسروا على ذلك لعلمهم أنهم إذا فعلوا ذلك فسوف تمزقهم كل ممزق. باختصار، لا يمكن أن يتحقق السلام الحقيقي ما لم يؤمن الإنسان بإله عليٍّ فوقه. وما لم ينشأ في قلبه حبُّه. والإسلامُ وحده قدَّم -على لسان النبي – المعتقدَ بأن الله هو الذي يهيئ الأمن والسلام. فالتعليم الذي أنزله الله على النبي قال فيه:

قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (3)

فقد أرسل الله نورَ الهدى والكتابَ أيضا مع جميع الأحكام، وبيَّن فيه توجيهاتٍ واضحة لسبل السلام، فالذين يتبعونه اتباعا كاملا، هم الذين يفوزون بسبل السلام. إذا كانت حالة الفتنة والفساد تسود المسلمين في العصر الراهن حيث يتقاتلون فيما بينهم، فهذا يوضح أنهم لا يتبعون الكتاب الذي أعطاهم الله والنورَ اتباعًا حقيقيًّا. لا شك أنهم يدَّعون أنهم يحبون النبي لكن عملهم ينافي ذلك. لا يمكن أن يكون كلام الله وقوله خاطئا أبدا، كما أن من المستحيل أن تبطل أقوالُ النبي ، فهذا مؤكد. أما إذا كان في المسلمين فتن وفساد فبيِّن أنهم يدّعون الإيمان بهذا الكتاب المبين لكنهم لا يتبعون التعليم الذي أنزله الله فيه، فهم يدَّعون أنهم يحبون النبي وفي الوقت نفسه لا يعملون بأسوته وتعليمِه.

فاليوم من مهمة أتباع الخادم المخلص للنبي أن يجعلوا هذا التعليم جزءا لا يتجزأ من حياتهم، ويعملوا بأحكام القرآن الكريم، عندها يمكن أن يتمكنوا من توفير السلام في محيطهم، وإيصال رسالة السلام إلى سكان العالم أيضا وإلا فسيقولون أن اخلقوا التوفيق بين أقوالكم وأفعالكم أولا ثم أسدوا إلينا النصح! يقول سيدنا المسيح الموعود :

«هناك نبي واحد وكتاب واحد فقط تحت أديم السماء؛ أي سيدنا محمد المصطفى الذي هو أعلى الأنبياء جميعا وأفضلهم، وأتم الرسل كلهم وأكملهم، وهو خاتم الأنبياء وخير الناس، الذي باتباعه يمكن الوصول إلى الله تعالى وتزول الحُجُب المظلمة، وتظهر علامات النجاة الصادقة في هذه الدنيا بالذات. وإن القرآن الكريم الذي يشمل الهديَ والتأثيرات الكاملة والصادقة، وبسببه تُنال العلوم والمعارف الحقة ويتطهَّر القلب من الأدران البشرية ويتخلص المرء من حُجُب الجهل والغفلة والشبهات ويصل إلى مرتبة حق اليقين.»

فقد منَّ الله على البشرية منًّا عظيما إذ بعث إليها نوره المتجسد في سيدنا محمد رسول الله ، وكتابَه المنير القرآن الكريم الذي هو نور الهدى ومنبع جميع العلوم والمعارف، ورسالةُ السلام. وإن لم يستفد به الإنسان وبقي أسير مصالحه المهلكة التي أساسها الأنانية، فأي شقاوة أكبر من ذلك؟! فإذا كنا نريد أن نحسِّن دنيانا وعقبانا ونعيش بأمن وسلام فلا بد لنا من أن نضع نصب أعيننا دوما كلامَ الله النازل على النبي أي:

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ .

 فعليكم أن تجعلوا تعاليم هذا الكتاب المبين نصب أعينكم دوما. يجب قراءة هدي هذا الكتاب المبين والانتباه إليه. عندها فقط تُعَدّون السالكين على سبل السلام. ليس في هذا الكتاب أمرٌ يدمّر أمن البشرية.

هذه هي الرسالة التي يجب علينا أن نبلّغها الأحباب والأغيار، وهي التي تضمن اليوم أمن العالم. وهذا هو الانقلاب الذي خلقه النبي في أصحابه وأعدّ على صعيد الواقع جماعةً كانت مصداق قوله :

وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (4)

وإذا تحلَّينا نحن بهذه الصفة وخلقناها في الناس الآخرين فسيكون حالنا آمِنا وسيكون مستقبلنا أيضا آمنا. فهذا من أهم واجبات المؤمنين بالمسيح الموعود الذين يُتوقع منهم أن يخلقوا الأمن والسلام في بيوتهم وفي بيئتهم وفي العالم كله، ولكن هذا لن يتحقق ما لم تكن قلوبنا مليئة بالتوحيد الخالص، وما لم نجلب العالم أيضا إلى التوحيد الحقيقي. من المؤكد تماما أنه لا يمكن إقامة الأمن بغير تأصيل التوحيد الكامل. ولا بد من الإيمان بالذات العليا في كل الأحوال، وتلك الذات العليا هو الله تعالى. وإن لم يتأصل التوحيد ستستمر الحروب ولن تتوقف ما لم تنشأ المؤاخاة الحقيقية وما لم ينشأ الحب المتبادل. ولا يمكن أن تنشأ المؤاخاة الحقيقية بغير الإيمان بالله تعالى وبغير إنشاء العلاقة بالله الواحد الأحد. ولا يكفي الإيمان به فقط بل لا بد من إنشاء العلاقة به ولا بد لنا من العمل بالتعليم العظيم الذي وصلنا بواسطة سيدنا رسول الله .

فلو أدرك المسلمون هذه النقطة في الحقيقة وعاشوا بحسبها فسيكونون المسالمين الصادقين في العالم. ولكن تحقُّق ذلك يقتضي الارتباط مع الخادم الصادق لسيدنا رسول الله . وعندها فقط يمكن إدراك العلم والمعرفة بصورة صحيحة.

الولوج إلى السلام العالمي من باب الحمد

عندما علّمنا الله تعالى

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (5)،

في القرآن الكريم، أمرنا بقراءة هذه الجملة في كل صلاة لتنشأ في المسلمين فكرة الأخوة على أوسع نطاق. فبترديد

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ،

تنشأ في الأذهان فكرة أن ربوبية الله تعالى تحيط بالعالم كله، وبقراءة هذه الكلمات تتسع دائرة أفكار الإنسان، وهو يحمد الله الذي هو رب العالمين، فهو ربّ المسيحيين، ورب اليهود ورب كل إنسان. من قرأ هذه الكلمات فأنى له أن يكره أحدا؟! ذات مرة ذكرتُ هذا الأمر في مجلس مع غير المسلمين في أميركا فقالوا: ما أجمل هذا التعليم! لا يمكن لهذا التعليم في الإسلام أن يُنشئ البُغض والضغينة في قلوب المسلمين الحقيقيين تجاه أحد. إن كلمة «رب العالمين» تحيط بالجميع. وهذه الفكرة تفتح سبيلا واسعة وشاملة لنشر السلام. لقد قيل في «رب العالمين» إذا كان التوحيد الحقيقي قائما وكان حمد رب العالمين جاريا على لسان المرء، فلا يمكن أن تبقى في قلبه ضغينة، تجاه المسيحيين أو الهندوس أو اليهود  أو أي قوم آخر. وإذا كان الأمر كذلك لا يمكن لأحد أن يتمنى الدمار لتلك الأقوام، ومن جانب آخر يدّعي كونه موحدا حقيقيا ويحمل راية الأمن والسلام الحقيقي؟ فلو أدرك المسلمون هذه النقطة في الحقيقة وعاشوا بحسبها فسيكونون المسالمين الصادقين في العالم. ولكن تحقُّق ذلك يقتضي الارتباط مع الخادم الصادق لسيدنا رسول الله . وعندها فقط يمكن إدراك العلم والمعرفة بصورة صحيحة. ولكني أكرر وأقول بأن هذا الأمر يوجب علينا أن نفحص أنفسنا باستمرار لئلا يكون قراءتنا

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

في الصلاة أداء الكلمات باللسان فقط وتكون القلوب خالية من حقيقتها. فإذا كانت القلوب والأذهان خالية من حقيقتها فسنكون ممن يعيثون الفتنة والفساد، ولن نكون من الذين ينشرون الأمن والسلام والذين يتبعون تعليما جاء به رسول الله .

فهذه وقفة تأملية لنا، وتدعونا إلى تفكير عميق، فاليوم من الواجب على كل أحمدي أن يقوي إيمانه بالله الأحد تعالى لخلق الأمن والسلام الحقيقي في العالم، ويرسخ حب الله في قلبه فلا يحلّ حب أحد غيره محل حب الله . وللعمل بأوامره فليجعل تعليما نزل على النبي ، أي القرآن الكريم جزءا من حياته لا يتجزأ. إذا وصلنا هذا المستوى وصارت أحكام القرآن الكريم وأوامر النبي كلها جزءا من أقوالنا وأفعالنا عندها فقط نستطيع أن نبلّغ دعوة الإسلام الحقيقي إلى العالم، ولا نخبرهم عن تعليم الأمن والسلام فقط بل نعلّمهم أيضا بأسوتنا. وهذه هي الوسيلة الوحيدة لإقامة الأمن الحقيقي في العالم، وهي الوسيلة المثلى لإثبات أن النبي هو البطل الأعظم لإقامة الأمن العالمي ولإفحام المعترضين على الإسلام.

على أية حال، هذه المهمة كلِّفت بها جماعة المسيح الموعود . فلو لم نلعب دورنا بهذا الشأن من مستوى بيوتنا إلى المستوى العالمي فلا ضمان لنا أن نعيش في الأمن والسلام، ولا ضمان لبقاء أجيالنا القادمة للعيش في الأمن والسلام كما لا ضمان لأمن العالم وسلامه. ندعو الله تعالى أن يجعلنا وسيلة لإخراج العالم من الظلمات إلى النور، ويوفقنا لأداء هذا الواحب على أحسن وجه.

والآن سندعو معا، فادعوا أن يوفق الله تعالى المشتركين في الجلسة للاستفادة من بركات الجلسة ويورثهم جميعا أدعية المسيح الموعود ، وأن يخلق الأمن والسلام في الظروف العالمية الراهنة سريعا لنتمكّن من عقد جلساتنا على نطاق أوسع متحررين من كل خوف وقلق، ولتعود إليها شوكتها وعظمتها، ولنجعلها وسيلة لإرواء غليلنا الروحاني والعلمي، ويوفقنا للعيش بحسب تعليم الإسلام حقيقةً، وأن نجلب حب الله تعالى وأفضاله، وفقنا الله جميعا لذلك.

تعالوا ندعُ معا..

الهوامش:

  1. (الشعراء: 4)
  2. قال : «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (صحيح البخاري, كتاب الإيمان)
  3. (المائدة: 15-16)
  4. (الفرقان: 64)
  5. (الفاتحة: 2)
Share via
تابعونا على الفايس بوك