ملامحهم السمراء تصادفك في كل مكان في العواصم الغربية، شباب في عمر الزهور، أصولهم العربية تراها واضحة على سمات وجوههم المتعبة، سرعان ما تلتقط أذنيك كلمات عابرة تفصح عن الأزمة التي تَعْتَصِرهم عصرًا. تلقيت الدعوة لزيارة عدد منهم في “أمِسْتِردام”، شارع خلفي صغير في حي سكني قذر تقطنه غالبية ساحقة من زنوج “هولندا”، معهم صعدت إلى السلم المتحطم إلى غرفة واسعة، غاص قلبي في حلقي للمنظر الذي رأيته.
الغبار الأسود يعلو في السقف بحيث لا تستطع تمييز لون السقف الأصلي، حبل ممتد في وسط الغرفة معلق عليه بعض قطع الثياب المغسولة، عدد من الأسرّة شبه المحطمة، أكواب من الشاي مبعثرة على مائدة شبه متداعية.
أسرع أحمد وأحضر لي مقعد من أحد الأركان، بينما ذهب مصطفى لإحضار مشروب مثلج من المقهى المقابل، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث. هم مجموعة من الشباب الذي غامر بالهجرة من بلده، بحثا عن وضع أفضل. أحمد يبلغ من العمر 28 عامًا خريج كلية الزراعة، والده متوفى منذ ثلاث سنوات، لديه أربع أخوات بنات وأخ وحيد ما زال يدرس بالمرحلة المتوسطة: كان أبي رجلاً رقيق الحال، إمكانياته المادية بسيطة، بذل كل جهده حتى يوفر لنا فرصة حياة لم تتوفر له، عندما توفي كنت قد أنهيت خدمتي العسكرية، خرجت للحياة بدون أي سند مادي على الإطلاق. كان عليَّ أن أوفر لأمي وأخوتي لقمة الخبز، عملت في كل مجال، عامل بناء، سباك، نجار، كنت أعمل كل يوم من السادسة صباحا حتى الثانية عشرة مساءً، ولكن الدخل قليل والحمل كبير. البنات لابد أن يتزوجن والصبي الصغير لا بد أن يكمل تعليمه. بشق الأنفس جمعت حق تذكرة السفر وحضرت إلى هنا بحثا عن مزيد من المال. لا أفكر في نفسي كثيرًا، أفكر فقط في شراء قطعة أرض نبني عليها بيتًا لي ولإخوتي. البيت الذي نسكن فيه حاليا مهدد بالإزالة. أفكر كثيرًا في جهاز البنات، هن أربع بنات هل تدري ما هذا؟ أمي تود الذهاب إلى الحج! أفكر في أخي الصغير لا بد أن يكمل تعليمه، هذا ما يشغل تفكيري ليل نهار.
وضع مصطفى كوب العصير على المائدة وابتسم ابتسامة ترحيب عميقة. ثم قال: وضعي لا يختلف عن أحمد كثيرًا ما عدا بعض التفاصيل: أبي متوفي أيضا وعندي ثلاثة أخوة صغار. أمي مريضة بالسكر ولدينا محل بسيط في البلدة يتداول الصغار الوقوف فيه، ونسكن جميعا في غرفة بسيطة. أنا حاصل على دبلوم صنايع لكن لا يوجد عمل، مثل أحمد عملت في البناء ولكن العمر يجري ولا أريد أن أستمر في هذا الوضع المخزي. لا بد أن يحدث تغيير لذا قررت المجازفة. السفر! ادخار المال، تحسين ظروف المعيشة!!
بهاء يجلس صامتًا في أحد أركان الغرفة. نظرت إليه مبتسمًا، اعتدل في جلسته: وضعي ليس مثل أحمد ومصطفى، ثم استدرك.. أنا من عائلة ميسورة الحالة. أبي تاجر سيارات مشهور، وعندي شقة خاصة بي، أتيت إلى هنا من باب حب المغامرة واكتشاف العالم وربما لادخار بعض المال، لكن ليس هذا هدفي الأساسي، هدفي هو الاكتشاف والتعلم. أقيم هنا كي أكتسب خبرة حياة ربما تساعدني مستقبلا على أن أكون رجل أعمال كبير وناجح.
وماذا عن أوراق الإقامة؟
- لا يوجد بيننا أحد لديه أوراق إقامة قانونية. قال أحمد: بهاء لديه صديقة هولندية وهو يسعى للزواج منها. أما أنا فأعمل ليل نهار لادخار المال ولا أبذل مجهود للحصول على إقامة. كل ما أصبو إليه هو ادخار المبلغ الذي حددته لنفسي ثم العودة إلى الوطن.
ضحك مصطفى ضحكة مُرة وقال: وكأن هذا أمرًا هينًا!
التفت إليه أحمد وبادله الضحك ثم قال: الأسبوع الماضي ألقت الشرطة القبض على صديق لنا يعمل بمقهى، ثم رحّلوه من البلاد لأنه لا توجد لديه أوراق إقامة. المال الذي وجد في حوزته ثمرة ادخار ثلاث سنوات تم التحفظ عليه لأنه لم يدفع ما عليه من الضرائب. وعاد المسكين كما جاء: فارغ اليدين. فَقَدَ كل شيء بالإضافة إلى تعب ثلاث سنوات -لا حول ولا قوة إلا بالله- تمتم مصطفى واستدرك.
هذا ممكن أن يحدث لأي واحد منا لكن لا يوجد بديل، لكن الأسوأ من كل هذا أن بعض الناس يتوفاهم الله هنا، ولأنهم غير مسجلين لدى السفارة ولا إدارة الشرطة المحلية، يتم دفن جثثهم في مقابر الغرباء، ومصادرة ما كان في حوزتهم من مال لصالح خزينة الدولة؟!!!
أشعل بهاء سيجارة وقال: هذا هو الجانب الآخر للمغامرة: الخسارة، الذي يغامر عليه أن يتوقع كل شيء.
وسط دخان سيجارته اختفت ملامح وجهه، بينما كان الصياح في الشارع يزداد ارتفاعًا ثم عويل وصوت طلقة رصاص، لا عليك قال أحمد، هذه مشاجرة عادية بين تجار المخدرات في الشارع. جمعت أوراقي ووقفت مستأذنًا. خرجنا إلى الشارع كانت الثالثة صباحًا، وأضواء المصابيح الخافتة تنير الطريق، رفعت عينّي إلى السماء، القمر في تمامه، ابتسمت ابتسامة مريرة وأنا أتابع طريقي عائدًا إلى البيت!